بعد أسبوع من دخول بدء توقف الأعمال العدائية في سورية حيز التنفيذ، بدت النتائج على الأرض مختلطة. ومع ذلك، تبقى في المقدمة من حيث الأهمية حقيقة أن عملية القتل الجماعي التي ينفذها نظام الأسد (التي تدعمها وتكملها روسيا) قد تباطأت، وبشكل خاص في المناطق الحضرية التي تعج بالسكان. ويزداد ببطء عدد السوريين المعوزين بشكل يائس، والذين أصبحوا يحصلون الآن على مساعدات إنسانية، بينما تتحرك البيروقراطية السورية المرتبطة بعائلة الأسد ببرود جليدي للسماح بوصول وتسليم معونات الأمم المتحدة.
في الأثناء، تتراكم التقارير التي تتحدث عن هجمات روسية تنتهك الاتفاق، لكن استثناء مجموعة “جبهة النصرة” من وقف الأعمال العدائية يعطي الروس الرخصة التي يحتاجونها لإطلاق النار -حتى لو أنهم يسيئون استخدامها. ومع قرار استئناف مفاوضات جنيف، ما هي الخطوات السياسية التالية التي ربما تكون منطقية؟
ما يزال الهدف الكلي لإدارة أوباما في سورية ثابتاً من دون تغير، حيث الأولوية هي العمل على إضعاف المجموعة المتشددة المعروفة بالدولة الإسلامية المعلنة ذاتياً، “داعش” وتدميرها في شرق البلد، وتيسير التوصل إلى تسوية سياسية متفاوض عليها في غربه. وتعد المهمة الأخيرة حاسمة في نظر الإدارة الأميركية لإنجاز المهمة الأولى الخاصة بإضعاف “داعش” وتدميره.
ما تزال الأولوية العليا عملاً يحرز تقدماً بطيئاً نسبياً. وقد ألحقت الحملة الجوية التي ينفذها الائتلاف المعادي لـ”داعش” ضرراً حقيقياً بالمجموعة، لكنها لا تستطيع وحدها -وحتى مع جهود الميليشيات الكردية- تحقيق النتيجة الحاسمة التي يسعى إليها الرئيس أوباما.
من الناحية الموضوعية، فإن هناك، أو يجب أن يكون هناك، شعور بضرورة الإطباق على “داعش” وإنهاء وجوده على الأرض في سورية. وكان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، قد أشار علناً إلى الجهود التي يبذلها “داعش” المتمركز في الرقة إلى تكرار نسخة المجازر التي ارتكبها في باريس يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي -ربما في الولايات المتحدة هذه المرة.
ما لم يكن تفضيل الإدارة هو افتراض أن “داعش” سيفشل في شن مثل هذه العملية، ثم الرد عليه بقوة برية أميركية كاملة إذا نجح، فإنها ستكون بصدد وضع اللمسات الأخيرة على تحالف قوات برية من الراغبين -مطعماً بقوات إقليمية وأوروبية- للذهاب إلى أرض المعركة والتدمير الكامل للفرع السوري من هذه المؤسسة البربرية.
ربما كان ما دعا الإدارة إلى الرجوع عن سلوك هذا المسار هو رؤيتها -التي ربما ما تزال قائمة- بأن قوات سورية محلية فقط هي التي تستطيع اجتثاث “داعش” في سورية.
والمصادر التي تؤسس لهذا الاعتقاد ثلاثة على الأقل: تطبيق ما يصح في العراق على سورية؛ الخوف من أن دخول قوات برية أجنبية، بعد طرد “داعش”، سوف يلزمها بمهمة إعادة استقرار طويلة الأمد على غرار مهمة استقرار العراق؛ والخوف من أن يتطلب تحالف قوات برية من الراغبين –حتى واحد قوي لا يحتوى على وحدات أميركية- وجود مثل هذه القوات الأميركية على الأرض مع ذلك.
إن الفرق بين “داعش” في سورية والعراق هو أنه، في حالة الأولى، تواجد مفروض تماماً. إنه لم يصعد -كما كان قد فعل في العراق في الأصل تحت اسم “القاعدة في العراق”- مندغماً في تمرد عربي سني. وحتى خلال “زيادة” عديد القوات الأميركية المنظمة في العراق، كان وجود قوات قبلية سنية محلية ضرورياً لتحقيق النصر الذي بدده أخيراً رئيس الوزراء العراقي (السابق) نوري المالكي.
في سورية، يرزح “داعش” على صدور مواطنين متوترين. وعلى الرغم من أنه سيترتب على تحالف بري خارجي من الراغبين أن يدخل الدخول لاحقاً إلى البلد بخطة إعادة استقرار مدنية وعسكرية تمكن المعارضة السورية من الاتصال مع اللجان المحلية (التي تعمل راهناً تحت الأرض) متى ما تم تحييد “داعش”، فإن سكان شرقي سورية لن يكونوا قلقين إزاء هويات محرريهم، شريطة أن لا يكون نظام الأسد المجرم في عدادهم.
إن الوقت هو الجوهر في اجتثاث “داعش” من شرقي سورية وتمكين المعارضة السورية من التحرك من إسطنبول إلى غازي عنتاب وإلى الرقة ودير الزور لمساعدة السكان المحليين في تأسيس إدارة موثوقة وفعالة.
لكن إصرار الإدارة الأميركية على أن تقوم قوات برية سورية أصيلة بمهمة القتال الثقيل أوقف عقارب الساعة. ففي العلن تستمر الإدارة في تكرار القول إنه يجب تشكيل هيئة حكم انتقالية لا تضم الأسد، والتي تضم المؤسسات الموجودة في الحكومة السورية بحيث يرص الجيش السوري والثوار صفوفهم معاً ويسيرون نحو الرقة.
غني عن البيان أن تحقيق نصر حاسم على “داعش” يعتمد على التوصل إلى صيغة وحدة وطنية تنتجها المفاوضات في جنيف هو النظير العملي لمحو تحقيق النصر الحاسم كهدف.
من ناحية، ما من شك في أن بشار الأسد -عراب جرائم الحرب والقصف بالبراميل الرئيسي- غير مؤهل ليكون، ناهيك عن تأدية، دور الشخصية التوحيدية. ومن ناحية أخرى مع ذلك، فإن روسيا -بعد استشارة الغرب- نفذت حملة جوية وحشية تستهدف حتى المستشفيات أحياناً، مما مكن المقاتلين الأجانب من منشأ إيراني ومن جيش الأسد المحتضر من صنع مكاسب على الأرض في منطقة حلب.
من الصعب رؤية كيف يمكن أن تحمل هذه الانتصارات الأسد على التنحي جانباً لصالح وحدة وطنية معادية لـ”داعش”، وما لم تتخل موسكو عن هدفها المتمثل في إجبار واشنطن على التعاون مع الأسد ضد “داعش” -وهو عمل سيصوره الرئيس فلاديمير بوتين لمواطنيه على أنه انتصار مجيد لروسيا على اتجاه تغيير النظام وجلب الديمقراطية (في سورية) حسب الادعاءات الأميركية- فإن الأرض الموعودة للوحدة الوطنية من دون الأسد ستظل نقطة حديث فارغ.
إن التحرك سريعاً على الأرض لقتل “داعش” في سورية هو أمر ضروري. وحتى لو تطلب الجهد الانخراط المباشر من الجانب الأميركي، فمن المؤكد أن الرئيس أوباما يستطيع صياغة القضية المطلوبة أمام الشعب الأميركي. وقد تكون القضية أسهل كثيراً على الصياغة إذا نفذ “داعش” عملية على غرار عملية باريس في سيدار رابيدس في أيوا، أو بيلوكسي في المسيسيبي. ولكن، إذا كان تنفيذ ذلك النوع من العملية ممكناً، فلماذا الانتظار؟
مع أن التحرك ضد “داعش” الآن لن يفضي إلى إلحاق ضرر حتمي بالعملية الدبلوماسية في فيينا -وجنيف التي وضعت إدارة اوباما كل جهدها فيها فإنه سيحرك الأمور بقوة بكل تأكيد. ومن المؤكد أن روسيا وإيران ونظام الأسد سيغضبون وتخيب آمالهم من وجود قوة برية تحت قيادة أميركية تقتل “داعش” في سورية. فالأطراف الثلاثة المذكورة ترى في استمرار وجود “الخلافة” الزائفة حية وسليمة، أمراً أساسياً وجوهرياً لإعادة تأهيل الأسد، زميلهم في الجريمة.
على الرغم من أن التوقف الراهن في العمليات الروسية الجوية الكبيرة قد تكون في جزء منها من وحي إدراك بوتين أنه إنما يدمر بذلك مصداقية المعتذرين الغربيين، ويعرض بدلاً من ذلك تجديد الحرب الباردة، فإن من شأن عملية برية حاسمة ضد “داعش” الإيحاء له بتجديد حملته في غربي سورية على غرار حملة الشيشان.
سواء كان حاسماً أم لا، فإن التحرك تحت القيادة الأميركية ضد “داعش” في سورية يجري راهناً في واقع الحال، فإن الاعتماد على أن لباقة بوتين وحلفائه الإيرانيين والسوريين في حماية المدنيين السوريين من القتل الجماعي يجب أن لا يكون ملمحاً من ملامح السياسة الغربية.
إذا استمرت المذابح، فإنه يجب إجبار الطيارين الروس على التعامل مع دفاع جوي أرضي، ويجب على نظام الأسد أن يشعر بأثر سلاح المواجهة على الطائرات العمودية والقواعد الجوية.
مرة أخرى: إن خفض وتيرة العمليات الجوية التي ينفذها النظام والروس قد تعكس تحولاً أستراتيجياً أساسياً، مع أنه ما يزال يستهدف تثبيت الأسد وإجبار الرئيس أوباما على الدخول في شراكة معه. ومع ذلك، قد يعود القتل الجماعي إلى الواجهة.
ومن المؤكد أن لا أحد -وبالتأكيد ليس حلفاء أميركا في الناتو- سيستمر في الادعاء بأن ما يحدث في سورية سيظل فيها، وأن هذا الجهد الهائل لإرهاب ومحو البشر يمكن احتواؤه.
في الحقيقة، بينما يصمد الهدوء النسبي في سورية، فإنه يجب على العالم المتحضر ممارسة الضغط على الأسد وحلفائه لفك حالات الحصار والسماح لموظفي الإغاثة التابعين للأمم المتحدة بالذهاب حيثما يريدون لإنقاذ الأرواح. وهذا شيء أساسي.
كما أن إخراج المدنيين السوريين من تحت الخطر هو أمر ضروري. ولن تكون هناك عملية دبلوماسية جديرة من دون ذلك. هل تريد روسيا وإيران والأسد عملية سلام حقاً؟ إن أعمالهم هي التي ستقول مجمل الحكاية.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية