تغيّر معنى مصطلح “إصلاحي” بشكل جذري في إيران منذ ذروة الحركة الإصلاحية في التسعينيات. أما الآن، وبعد أن تصالح الإصلاحيون مع سياسات المرشد الأعلى علي خامنئي، فقد باتوا يصبون تركيزهم في المقام الأول على اكتساب السلطة.
لا مزيد من المواجهات
قدم الصحفي الإصلاحي المعروف في المنفى، أكبر غانجي، نقداً سليماً للحركة موضحاً أن الإصلاحيين لم يعودوا يقبلوا بوجهات نظر الراحل آية الله حسين علي منتظري، الشخصية المؤثرة التي كانت ذات مرة الخليفة المنتظر لآية الله روح الله الخميني لكنها أصبحت في وقت لاحق من النقّاد اللاذعين لنظرية “ولاية الفقيه”، النظام الذي يمنح سلطة مطلقة للمرشد الأعلى. فكما صاغ غانجي الأمر في مقابلة أجراها في 3 آذار/ مارس، “يعتقد الإصلاحيون الآن أنه بدلاً من مواجهة آية الله خامنئي، يتوجب عليهم إعادة بناء علاقاتهم معه. لذلك لا ينبغي، وفق وجهة نظرهم، تفسير نتيجة الانتخابات على أنها “رفض” لآية الله خامنئي [يقصد به] تحريضه على الرد بطريقة مكلفة وغير متوقعة … وفي رأيهم، تُعتبر المواجهة أسوأ سياسة يمكن انتهاجها في الوضع الحالي. إذ يرون أنه ‘ بدلاً من المواجهة، ينبغي أن نتصرف بطريقة تشجع خامنئي على دعم الحكومة كما فعل في خلال المفاوضات النووية ‘ “.
إن مزاعم غانجي حول تخلي الإصلاحيين عن نهجهم القائم على تحدي خامنئي وجيشه ومخابراته وجهازه الاقتصادي تبدو صحيحة. بعبارة أخرى، هم يحاولون تغيير المفهوم الأساسي للإصلاح من أجل طمأنة خامنئي والمتشددين الآخرين بأنه لا يمكن للـ “أعداء” مثل الولايات المتحدة استخدام الحركة الإصلاحية بغية تخريب النظام. فهم يأملون من خلال إحداث ثورة في مفهوم الإصلاح، بأن يقوم خامنئي بدوره بإصلاح مفهوم الثورة، لينظر إليهم مرة أخرى على أنهم موالين لمبادئ الثورة الإسلامية وخاضعين بسهولة للنظام من دون التسبب بمشاكل. لذلك قد يعتبر المتهكّمون إن مصطلح “الإصلاحي” لا يشير إلى أيديولوجيا واضحة، وإنما إلى أشخاص كانوا على صلة بحكومة خاتمي في أواخر التسعينات ويرغبون الآن بالعودة إلى الحكم.
من الممكن فهم هذا النهج المتروي بشكل أفضل عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار افتقار إيران إلى الأحزاب السياسية الراسخة، الأمر الذي يجعل أفراد البرلمان أكثر عرضة بكثير للتأثير الخارجي. على سبيل المثال، على مدى فترة ولايته الممتدة على أربع سنوات، غيّر «مجلس الشورى» الإسلامي المنتهية ولايته تماماً من موقفه تجاه كل من الرئيسين الماضيين بناءً فقط على الإجراءات والبيانات الصادرة عن المرشد الأعلى و«الحرس الثوري الإسلامي». ويبيّن هذا السلوك إلى أي درجة أصبحت السياسة البرلمانية تابعة لديناميات الشخصيات غير المنتخبة الواقعة في صلب النظام.
انتخابات من دون تغيير
من الأفضل تصنيف الجمهورية الإسلامية ضمن إطار “الاستبدادية الانتخابية”. ففي مثل هذه الأنظمة، لا تقل الانتخابات أهمية عن أجندة الدولة الاستبدادية، ولكن ليس للأسباب المعتادة. فهذه الأنظمة ليست مغلقة تماماً كالأنظمة الاستبدادية الحقيقية، ولكنها في الوقت نفسه ليست مفتوحة مثل الديمقراطيات الحقيقية. بدلاً من ذلك، تعمل الانتخابات متعددة الأطراف والمؤسسات الديمقراطية الرسمية الأخرى في إطار الممارسات والسياسات الاستبدادية أو إلى جانبها. وكما يقول الباحث أﻨـدرﻴﺎس ﺸـﺎدﻟر في هذا السياق، إن نتائج الانتخابات في هذه الأنظمة “هي عبارة عن النتيجة المشتركة لعاملين متغيّرين غير معروفين وغير قابلين للرصد، وهما التفضيلات الشعبية والتلاعب الاستبدادي”. فالأنظمة تستخدم آليات مبتكرة لإدارة هذه الانتخابات وحث الناس على المشاركة في ما يُعتبر عملية تنافسية ظاهرياً، وعلى الرغم من أنه لا يمكن التوقع بالنتائج الدقيقة دائماً، إلا أنها لا تقوض جوهر النظام. وبهذه الطريقة، يتم تقييد الصراع السياسي بين الفصائل المختلفة داخل قواعد النظام وخطوطه الحمراء.
إن إجراء الانتخابات أمر حيوي لهذه الأنظمة لأنها لا تستطيع الاعتماد فقط على المصادر غير الديمقراطية للشرعية، وهذا ينطبق بشكل خاص على إيران نظراً إلى خلفيتها التاريخية والثورة المضادة للنظام الملكي والمجتمع الذي يتمتع بمستوى عالٍ من الحداثة. فالانتخابات تخدم الطبيعة الاستبدادية للأنظمة وتعزلها عن الانتفاضات الشعبية. وبغض النظر عما إذا اعتبر المرء أن هذه الأنظمة عبارة عن “ديمقراطيات زائفة” أو “دكتاتوريات مُقنّعة” أو “استبدادية تنافسية”، فإن القاسم المشترك ما بينها هو خليط من الممارسات الديمقراطية والاستبدادية التي تغلق الباب بشكل فعّال أمام الإصلاح والثورة على حد سواء. يُذكر أن التلميحات الشاملة بين الحين والآخر تُستخدم لتحديث صورة النظام في الداخل والخارج، ولكن هناك قيود أخرى تحافظ على المنافسة السياسية ضمن الحد الأدنى (على سبيل المثال، في إيران يمكن لليهود والمسيحيين والسنّة والنساء الإدلاء بأصواتهم كأي شخص آخر، ولكن تأثير هذه الأصوات الجوهري محدود، إن لم نقل معدوم). بالنسبة إلى معظم المواطنين، يترافق الأمل مع الخوف من القمع الوحشي، لذلك حتى التغييرات الطفيفة يمكن أن تُبقي على آمالهم حيّة.
تمكين روحاني؟
كالعادة، فسّر خامنئي الإقبال الواسع على الانتخابات الأخيرة على أنه تصويت لثقة الشعب بالنظام، ولكن وجهة نظر الرئيس حسن روحاني كانت مختلفة. ففي مؤتمر صحفي عقده بعد فترة وجيزة من التصويت، صوّر روحاني النتائج على أنها بمثابة تأييد شعبي لأجندته الخارجية والاقتصادية: “اليوم تم رفع العقوبات، حتى تلك التي لا علاقة لها بالشأن النووي. وقد أعلن [الغرب] عن ذلك أيضاً… ولكن الناس يريدون رفع كافة العقوبات، وهذا أمر مقبول. سنترك فريق التفاوض يتفاوض مرة أخرى [حول عقوبات غير نووية]، وسوف نبرم هذا [الاتفاق] أيضاً بالتأكيد”. بيد أن خامنئي يثق بلا شك بأن البرلمان المنتخب حديثاً لا يمكنه تمكين روحاني بما فيه الكفاية حتى لدعم كلماته تلك، لأن ذلك سيشمل إجبار المرشد الأعلى على التنازل عن سياسة إيران الخارجية التي تشكل السبب الرئيسي للعقوبات غير النووية المتبقية.
وهذه النظرة واضحة في التحركات التي قام بها خامنئي في الأيام التي أعقبت الانتخابات. أولاً، عيّن أحد المتشددين المناهضين لروحاني في أحد أهم المناصب في إيران. فبعد الانتخابات مباشرة، أفادت وكالات الأنباء خبر وفاة عباس واعظ طبسي، سادن “الروضة الرضوية المقدسة” منذ عام 1979. وكانت سدانة “الروضة الرضوية المقدسة” مسؤولة رسمياً عن الإشراف على ضريح [الإمام الرضا] في مدينة مشهد، وهي في الواقع أكبر مجمع للأوقاف والمشاريع المالية في إيران، تشارك في مختلف الصناعات (مثل الاتصالات والسيارات والطاقة والتعدين والزراعة والخدمات المصرفية والبناء) وكذلك في القطاعات التربوية والطبية، وفي وسائل الإعلام، ومجال الأعمال الخيرية. إن هذا الجهاز الضخم وعائداته السنوية التي تبلغ المليارات معفاة من الضرائب ومن التحقيقات الحكومية، فسدانة “الروضة الرضوية المقدسة” لا تخضع سوى لسلطة المرشد الأعلى، كما أن أنشطتها المالية ليست شفافة لأي من فروع الحكومة الثلاث.
ولم يكن تعيين بديل لطبسي مهماً فقط لمجرد التعيين، ولكنه شكل أيضاً مؤشراً على الطريقة التي ستؤثر فيها الانتخابات، أو لن تؤثر، على مقاربة خامنئي تجاه “الإصلاحيين”. ففي 7 آذار/ مارس، عيّن السيد ابراهيم رئيسي السادات كسادن جديد لـ “الروضة الرضوية المقدسة”. يُذكر أن رئيسي، الذي كان مسؤولاً قضائياً رفيع المستوى لأكثر من ثلاثة عقود، متشدد معروف فاز بمقعد في أحدث انتخابات لـ «مجلس الخبراء». وفي عام 1988، كان متورطاً في عمليات الإعدام الجماعي للسجناء السياسيين، كما كشف آية الله منتظري في مذكراته. أضف إلى ذلك أن علاقاته الأسرية لا تبعث الأمل على الإطلاق، فأحمد علم الهدى والد زوجته، هو أحد كبار الأئمة في مشهد الذي غالباً ما انتقد روحاني والمعتدلين بشكل عام.
ولا بد من الإشارة إلى أن تعيين رئيسي يتناسب مع النمط الذي اتبعه خامنئي مؤخراً. ففي حزيران/ يونيو 2015، عيّن رئيس السلطة القضائية والمتشدد المعروف صادق لاريجاني لخلافة محمد رضا مهدوي كاني، وهو محافظ تقليدي، لرئاسة “جامعة الإمام جعفر الصادق” والمنظمات والأوقاف المرتبطة بها.و قبل شهرين، عيّن رئيس “مؤسسة رعاية «الحرس الثوري»” الإيراني برويز فتاح لرئاسة “لجنة الإمام الخميني للإغاثة”، ليحل محل المحافظ التقليدي حبيب الله عسكر أولادي. لذلك، حتى بعد الانتخابات التي لم يحقق المتشددون فيها فوزاً عظيماً، عزز خامنئي من موقف هؤلاء في المؤسسات غير الحكومية التي تلعب دوراً كبيراً بشكل غير مألوف في السياسة والاقتصاد والأنشطة الإقليمية في إيران من دون إشراف الرئاسة أو البرلمان.
لماذا التحول الآن؟
لقد تم تدمير البنية التقليدية للسياسة الإيرانية بسبب الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط والضغوط المستمرة على طهران. ومن جهته حذّر خامنئي الشعب من أن الغرب كان يقف وراء الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2009 بغية إسقاط النظام وزعزعة استقرار البلاد، زاعماً أن الفوضى هي البديل الوحيد للجمهورية الإسلامية. واكتسبت هذه الرواية جاذبية كبيرة بعد “الربيع العربي” في عام 2011 وأذنت بفترة من العنف يصعب تصوره في المنطقة، مما ردع العديد من الإيرانيين عن المشاركة في أي إجراءات سياسية من شأنها إضعاف النظام. وفي الوقت نفسه، رفعت زيادة العقوبات الدولية من خوف هؤلاء من هجوم عسكري ممكن.
وبالتالي، أدت هذه المخاوف، إلى جانب نتائج المفاوضات النووية، إلى رفع آمال الشعب من أن التغييرات الطفيفة من خلال الانتخابات قد تنقذ البلاد من الحرب والفوضى. ويمكن تفسير النسبة العالية في الأصوات لغير المتشددين بتوق الجمهور إلى السياسيين الذين سيعتمدون مقاربة أقل معاداة للغرب تضمن السلام والازدهار والأمن. ولهذا السبب، لم يصوّت الشعب إلى حد كبير لصالح شرعية النظام، بل بسبب قدرته الفريدة على الحفاظ على البلاد متماسكة بعيدة عن الانهيار. وفي ظل غياب أي بديل سياسي للنظام، ومن دون أي ضمانات بأن بروز انتفاضة سيؤدي إلى نتائج ديمقراطية، يبدو أن الإيرانيين ينظرون إلى النظام الحالي على أنه الأمل الوحيد من أجل البقاء.
مهدي خلجي
معهد واشنطن