في 8 آذار/ مارس، عيّن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أول زعيم جديد في سدانة “الروضة الرضوية المقدسة” منذ سبعة وثلاثين عاماً، وهذه السدانة هي أغنى كيان وحتى يمكن القول إنها الأهم في البلاد، حيث تدير ضريح الإمام رضا في مدينة مشهد فضلاً عن امبراطورية أعمال ضخمة. وقد جاء هذا التعيين بعد وفاة السادن لفترة طويلة، عباس واعظ طبسي، في 4 آذار/ مارس. وهذا الكيان هو أكبر هيئة للأوقاف الإسلامية ويُعد أداة مالية هامة بيد المتشددين الإسلاميين في المنطقة.
الجهة الفاعلة الرئيسية في المدينة
مشهد هي ثاني أكبر مدينة إيرانية من حيث عدد السكان والمساحة. كما وأنها المدينة الأقدس في البلاد، حيث فيها مرقد الإمام علي بن موسى، أو الإمام الثامن المعصوم (يعرف أيضاً باسم الإمام الرضا). ووفقاً لأحدث إصدار لـ مجلة “مهرنامه” الشهرية، تستقبل هذه المدينة الواقعة في قلب محافظة خراسان رضوي، التي ساعدت بشكل كبير في تشكيل الهوية الإيرانية والإسلامية للبلاد، أكثر من 22 مليون زائر سنوياً. وإلى جانب موقعها المميز في الحياة الدينية الاجتماعية الإيرانية، اكتسبت مشهد أهمية سياسية في ظل قيادة آية الله خامنئي، الذي ولد في المدينة في عام 1939 وعاش ودرس فيها حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. ومنذ توليه السلطة في عام 1989، أنشأ المرشد الأعلى عادة تقوم على السفر إلى المدينة لحضور مهرجان “نوروز” (رأس السنة الإيرانية) في فصل الربيع، حيث يلقي خطاباً بالقرب من ضريح الإمام الرضا يعالج فيه القضايا السياسة الداخلية والخارجية الرئيسية في العام الذي سبق، وعادة ما يعتمد فيه لهجة تحريضية أكثر صرامة من المعتاد.
وبشكل عام، لا يتدخل خامنئي في الإدارة المحلية للمحافظات الإيرانية، لكن محافظة خراسان تشكل استثناءً في هذا الإطار. فهنا، لا يعين وزير الداخلية الإيراني حاكم المحافظة إلا بعد التشاور عن كثب مع المرشد الأعلى، الذي يطالب برقابة مماثلة لقضايا أخرى على صعيد المحافظة. ولإيضاح نفوذ سدانة “الروضة الرضوية المقدسة”، يمكن القول إن أكثر من 43 في المائة من أراضي المدينة تقع ضمن سيطرتها. بالإضافة إلى ذلك، يقدر مسؤولون إيرانيون أن ثلثاً كاملاً من الأراضي الزراعية في البلاد يتبع للأوقاف، وأن نسبة كبيرة منها يتبع لسدانة “الروضة الرضوية المقدسة”، والتي يقدر الخبراء قيمتها بأكثر من 20 مليار دولار. وفي عام 2004، تم تسجيل “«المنظمة الاقتصادية» لسدانة “الروضة الرضوية المقدسة” ” لإدارة الأنشطة الاقتصادية والمالية للسدانة. وتشمل المنظمة أكثر من 12 ألف موظف، موزعين بين 89 شركة ومؤسسة، وتتنافس مع الجماعات الأخرى التي هي اسمياً خارج سيطرة الحكومة مثل “خاتم الأنبياء” و “بنیاد تعاون ناجا” (مؤسسة تعاون الشرطة)، مع ارتباط “خاتم الأنبياء” بـ «الحرس الثوري الإسلامي» واندراج الإثنان تحت القيادة المباشرة للمرشد الأعلى، وهي أطراف معفاة من الضرائب والإشراف من الهيئات المنتخبة. وبغض النظر عن تقديرات الخبراء، لا يدرك الجمهور ولا الحكومة القيمة الحقيقية لأصول السدانة أو إيراداتها السنوية. فالمجمع مسؤول فقط أمام المرشد الأعلى من خلال ممثله.
التوترات بين رجال الدين
في عام 1979، قام آية الله روح الله الخميني بتعيين عباس واعظ طبسي – شخصية بارزة بين رجال الدين الثوريين في مدينة مشهد – كسادن “الروضة الرضوية المقدسة”. وعبر توليه هذا المنصب، اكتسب واعظ طبسي نفوذاً وسلطة لم يسبق لهما مثيل ليس في محافظة خراسان فحسب، بل في المجالات السياسية والاقتصادية في إيران أيضاً. ومثله مثل الرئيس الإيراني السابق أكبر هاشمي رفسنجاني، سبقت المصالح المالية لطبسي زمن اندلاع الثورة. وخلافاً لخامنئي، نظيره في مشهد الذي جاء من عائلة فقيرة وعاش متواضعاً حتى عام 1979، تربّى طبسي في أسرة دينية عريقة.
وعندما تولّى خامنئي السلطة في عام 1989، سعى لاستبدال الجيل الثوري من الإداريين بمساعديه الخاصين الذين لم يحصلوا على ثقافتهم السياسية من مؤسسي الجمهورية بل من المؤسسات المرتبطة بخامنئي مثل «الحرس الثوري» وقطاع الاستخبارات. بيد أن طبسي بقي من بين الجيل السابق. وقد حمل هوية سياسية مستقلة وشعبية عضوية قوية تتماشى مع سيطرته على مجمع السدانة الضخم. كما أن طبسي، المحافظ التقليدي، كره الجناح المتشدد الناشئ للنظام، والذي استفاد من دعم خامنئي الراسخ. ففي نيسان/ إبريل 2005، وقبل وقت قصير من الانتخابات الأولى التي فاز فيها الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بمنصب الرئاسة، عيّن خامنئي أحد مناصري الرئيس المقبل، السيد أحمد علم الهدى إماماً لصلاة الجمعة في مشهد. وكان علم الهدى من المقربين أيضاً من “جبهة ي بايداري” (“جبهة استقرار الثورة الإسلامية”)، وهي فصيل سياسي متطرف. وفي نهاية المطاف، باتت التوترات بين طبسي وعلم الهدى خطرة جداً بحيث لم يخف الإثنان إحجامهما عن لقاء بعضهما البعض. وبشكل منفصل، وعبر تولّيها موقف القيادة العليا، اتهمت السلطة القضائية نجل طبسي، ناصر واعظ طبسي، بالفساد في الصفقات المتعلقة بشركة “المكاسب”. ومما يؤكد التكهنات حول توجهات آية الله، تلقى طبسي الأب رد فعل بارد عندما اشتكى لخامنئي في محادثة خاصة حول معاملة القضاء لابنه وتشويه صورة عائلته. وعلى الرغم من الشعور الممكن أن يسود بأن المرشد الأعلى يضع الأسس لخليفته، حافظ طبسي لاحقاً على علاقات رسمية ودية مع المرشد الأعلى، وعلى علاقة حميمة مع رفسنجاني.
خامنئي يبسط نفوذه
من خلال تعيين السيد إبراهيم رئيسي البالغ من العمر خمسة وخمسين عاماً كسادن “الروضة الرضوية المقدسة”، قدم خامنئي بياناً واضحاً. فرئيسي، الذي خدم في السلك القضائي، بما في ذلك توليه منصب النائب العام، يتمتع بسمعة سيئة لتورطه في القتل الجماعي للسجناء السياسيين في عام 1988. وبعد أن شغل عدة وظائف من بينها المدعي العام في “المحكمة الخاصة برجال الدين”، يُعرف رئيسي جيداً بولائه المطلق لخامنئي وتقارب وجهات نظره مع المرشد الأعلى. وفي وقت سابق من هذا العام، تم انتخاب رئيسي لـ «مجلس خبراء» القيادة، الذي خدم عضواً في مجلس إدارته. بالإضافة إلى ذلك، هو خادم ضريح إمام زاده صالح في طهران والأوقاف التابعة له. والأهم من ذلك، أنه معيّن من قبل خامنئي في مجلس أمناء “المقر لتنفيذ أمر الإمام”، وهو كيان بارز غير حكومي اسمياً يتمتع بأصول بحوالي 95 مليار دولار. وبما أن طبسي كان يمثل خامنئي أيضاً في المحافظة، كان المرشد الأعلى قادراً على تسمية علم الهدى المتعاطف معه ليحل محله. وعلم الهدى، الذي ولد في مدينة مشهد، وهو والد زوجة رئيسي، كان رفيق خامنئي قبل الثورة، كما يتشارك الإثنان الآراء حول الغزو الثقافي الغربي والعداء تجاه القيم الليبرالية والديمقراطية. وبالتالي، فإن نفوذ علم الهدى ورئيسي سيتوسع الآن ليتعدى محافظة خراسان رضوي، الأمر الذي يؤثر على مختلف مجالات الاقتصاد والثقافة والسياسة.
وفي 8 آذار/ مارس، أي في اليوم نفسه الذي تم فيه تعيين علم الهدى، عيّن خامنئي أيضاً الأعضاء الجدد، أي الأمين العام ومدير “المجلس الأعلى لمعهد خراسان الديني”. وهذه خطوة هامة لأن مشهد تُعتبر أكبر قاعدة دينية في إيران بعد مدينة قم، وهي أكثر شدة في معاداتها للمذهب العقلاني في تفسير الإسلام وأكثر تعصباً في المجال الثقافي من مدينة قم. وليس هناك شك في أن المعيّنين الجدد في المعهد الديني سيتمسكون بهذا النهج نظراً إلى تبعيتهم للصميم الاستبدادي غير المنتخب للنظام.
التوقعات ما بعد خامنئي
جاءت التعيينات التي أجراها خامنئي بعد وقت قصير من انتخابات البرلمان و«مجلس الخبراء» في أواخر شباط/ فبراير، والتي أظهر الاقبال الواسع عليها ونتائجها تفضيل الإيرانيين لنظام اقتصادي أكثر فعالية وتطبيع علاقات إيران الدولية. كما كشف التصويت عن وجهة نظر الطبقة الوسطى على الصعيدين الثقافي والاقتصادي بأن صندوق الاقتراع يشكل الأمل الوحيد لإنقاذ الطبقة الوسطى العاجزة في إيران وتفعيل بطيء وتدريجي للتقدم المحرز على المستوى الوطني. ومقابل هذه التطلعات، يعمل الجوهر المتطرف للنظام المعادي للغرب على تعزيز موقفه بشكل منهجي. ونظراً إلى هذا الإحكام المستمر لتوطيد السلطة وحماية المصالح السياسية والاقتصادية الواسعة للمندرجين في إطارها، ستستمر نسخة إيران الثورية من الإسلام بعد وفاة خامنئي، وتحدد صيغة جدول أعمال خليفته، بغض النظر عن شخصه.
مهدي خلجي
معهد واشنطن