كشفت الانتخابات التي أُجريت مؤخراً في إيران لانتخاب مجلس الشورى العاشر ومجلس الخبراء المُكلف باختيار المرشد الأعلى، عن صعود واضح لـ”الإصلاحيين والمعتدلين” في مواجهة “المحافظين”، حيث فاز مرشحو التيار “الإصلاحي” بكافة مقاعد العاصمة طهران في مجلس الشورى والبالغ عددها ثلاثين مقعداً، في انتظار النتائج النهائية الرسمية عقب إجراء الجولة الثانية في شهر أبريل القادم. كما احتل الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني والرئيس الحالي حسن روحاني المرتبتين الأولى والثانية في قائمة المرشحين لمجلس الخبراء.
وبقدر ما حملته نتائج هذه الانتخابات من دلالات مهمة على صعيد المشهد السياسي في إيران وتوازنات القوى داخله، بقدر ما أُثيرت بشأنها تساؤلات من حيث تداعياتها المحتملة على المسارات المستقبلية للسياسة الخارجية الإيرانية، سواء تجاه العالم الخارجي بشكل عام، أو تجاه إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منه منطقة الخليج بشكل خاص.
غياب ملفات السياسة الخارجية عن برامج المرشحين
يعد غياب قضايا السياسة الخارجية عن برامج المرشحين في انتخابات مجلس الشورى الإيراني على وجه التحديد، هو أمر معتاد في تاريخ هذه الانتخابات بشكل عام، ولم تكن الانتخابات الأخيرة استثناءً من ذلك، وهو ما يمكن إرجاعه إلى مجموعة من العوامل، أولها سيطرة الشأن المحلي الإيراني وما يرتبط به من قضايا داخلية على أولويات الناخبين والمرشحين على حد سواء.
وثانيها، أن البرلمان الإيراني يظل دوره ثانوياً في القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية الإيرانية، ويمثل الاتفاق النووي مع مجموعة (5+1) نموذجاً ذا دلالات مهمة في هذا الشأن، خاصةً بعد أن هدد البرلمان بعدم الموافقة على أي اتفاق نووي مع الغرب، وهو الأمر الذي تم تجاوزه في النهاية.
الانفتاح “المحسوب” على الغرب
لا يعني غياب قضايا السياسة الخارجية عن برامج المرشحين في الانتخابات الإيرانية الأخيرة، انعدام تأثيرها على السياسة الخارجية الإيرانية، إذ من المتوقع أن يكون لها تأثير في بعض دوائر هذه السياسة، وفي مقدمتها علاقات إيران مع الغرب، خاصةً الدول الأوروبية، التي قد تشهد نوعاً من “الانفتاح المحسوب” خلال الفترة القادمة.
ويمكن اعتبار الزيارات التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى كل من إيطاليا وفرنسا والفاتيكان في نهاية يناير الماضي، بداية لهذه المرحلة الجديدة في الدبلوماسية الإيرانية، حيث سيتم البناء عليها في السنوات المقبلة، إضافة إلى تعزيز العلاقات القائمة بالفعل مع دول مثل روسيا والصين والهند، بهدف فك العزلة السياسية والاقتصادية التي عانتها إيران على مدار أكثر من عقدين كاملين.
أما عن التأثير المحتمل لنتائج انتخابات مجلس الشورى الإيراني في هذا الشأن، فيمكن إلقاء الضوء عليها من خلال بُعدين رئيسيين، هما:
1- ما كشفت عنه نتائج هذه الانتخابات بأن ثمة قدراً كبيراً من الدعم للسياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس روحاني في الانفتاح على العالم الخارجي، وتحديداً منذ التوصل إلى الاتفاق النهائي بشأن أزمة البرنامج النووي الإيراني. ولعل هذا ما يمكن فهمه من تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني، قبيل الانتخابات، بأنها “ستكون بمنزلة الاستفتاء على السياسات التي انتهجها منذ توليه مقاليد الحكم وحتى الآن”، وعلى ما يبدو فإن الاستفتاء جاء في صالحه، ليمثل أحد العوامل الدافعة نحو استمراره في تبني هذه السياسة.
2- حاجة الرئيس الإيراني إلى تركيبة سياسية أكثر انسجاماً داخل البرلمان بما يتماشى مع سياسته “الانفتاحية” تجاه الغرب، لاسيما أن البرلمان الإيراني، على الرغم من تمتعه بصلاحيات محدودة في هيكل السلطة داخل إيران، يمكن أن يمثل عائقاً أمام روحاني في هذا الشأن؛ إما من خلال رفض إقرار مشروعات القوانين الاقتصادية ذات الصلة بتنظيم العلاقة مع الغرب مثلما حدث مع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1997 و2005، أو من خلال رفض تعيين بعض الوزراء، مثلما حدث خلال فترة حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد.
في هذا السياق، يمكن القول إن مجلس الشورى العاشر بتركيبته الحالية سيكون له دور “داعم” للرئيس الإيراني في ضبط عملية “الانفتاح” الاقتصادي، من خلال دوره في إقرار التشريعات المرتبطة بالسياسات الاقتصادية التي من شأنها تنظيم علاقة إيران مع الدول الأوروبية بشكل خاص، على نحو يُحرر الرئيس الإيراني نسبياً من قيود الصراعات مع المحافظين في هذا الشأن، وهو ما يراهن عليه روحاني بعد نجاح الإصلاحيين في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى، خاصةً أن الاقتصاد الإيراني مازال في حاجة إلى سنوات إضافية قبل أن يتمكن من استعادة ثقة المستثمرين الأجانب.
وعلى صعيد العلاقات الإيرانية – الأمريكية، من المتوقع أن تمر بفترة طويلة نسبياً من الجمود والترقب المتبادل بين الجانبين، خاصةً أن العداء للولايات المتحدة وسياساتها بشكل عام، مثَّل ركيزة أساسية من ركائز السياسة الخارجية الإيرانية على مدار عقود مضت، ومن الصعب تصور أن يغامر الرئيس الإيراني، “المدعوم” من البرلمان الجديد، بإجراء مراجعة لتصحيح السياسة الخارجية الإيرانية تجاه واشنطن، على الأقل خلال الفترة المتبقية من تواجد المرشد الأعلى علي خامنئي.
استمرارية السياسة الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط
إن سياسة “الانفتاح” التي يتبناها الرئيس حسن روحاني تجاه العالم الخارجي والغرب تحديداً والمتوقع استمرارها بعد الانتخابات الأخيرة، لا يمكن إسقاطها على السياسة الخارجية الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط وتحديداً دول الجوار، فهذا “الانفتاح” المشار إليه استدعته “ضرورات” اقتصادية بالأساس ويتم بـ”دعم” أو على الأقل “عدم ممانعة” من القيادة الدينية، مُمثلة في المرشد الأعلى، والأمنية، مُمثلة في الحرس الثوري.
ومن ثم لا يعني ذلك حدوث تغيير في منطلقات وأهداف السياسة الخارجية الإيرانية التي تخدم مشروع توسعي إيراني في المنطقة، لم تتخل عنه طهران منذ قيام الثورة في عام 1979، وربما كان الاختلاف من فترة حكم إلى أخرى في أدوات تنفيذ المشروع بالأساس.
وثمة فكرة يحاول بعض الكتَّاب الإيرانيين المحسوبين على “الإصلاحيين” تصديرها إلى بعض دول المنطقة، وهي أن “الإصلاحيين” و”المعتدلين” في إيران يسلكون فى السياسة الخارجية طريق “التعامل” أو “الانخراط” Engagement، ويرغبون في علاقات جيدة مع الدول المهمة والمؤثرة سياسياً واقتصادياً في المنطقة، مثل السعودية ودول الخليج العربية، إضافة إلى دول، مثل تركيا ومصر تسعى إيران إلى “التعامل معهم”. ويضيف هؤلاء أن برلماناً يملك عدداً أكبر من الإصلاحيين سيدعم توجهات الرئيس روحاني في مزيد من الانفتاح على الدول المجاورة، وتهدئة التوتر الذي يسود الإقليم.
وفي واقع الأمر، من الصعب تصور أن يكون لنتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة تأثير حقيقي على السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة، وتحديداً تجاه دول الجوار، وذلك لعدد من الاعتبارات التالية:
1- إن السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط تحكمها اعتبارات “الثورة” وليس “الدولة”، ويديرها بصورة أساسية المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وقيادات الحرس الثوري الإيراني وممثليه في وزارة الخارجية وأجهزة الأمن والمخابرات. وتكشف التجارب الماضية عن أن تعاقب الرؤساء والتيارات السياسية على الحكم في طهران بين إصلاحي ومعتدل ومتشدد، لم تُسفِر عن معارضة حقيقية لسياسات المرشد تجاه المنطقة. فالرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، المحسوبان على التيار “الإصلاحي”، وآخرون، على الرغم من تبنيهم دبلوماسية الانخراط والتعامل مع دول المنطقة، لم يستطيعوا فعل شيء أمام السياسات العدائية التدخلية التي يتبناها الحرس الثوري الإيراني المدعوم مباشرة من المرشد الأعلى تجاه العديد من دول المنطقة.
2- لا توجد اختلافات جوهرية بين “المحافظين” و”الإصلاحيين” في إيران فيما يتعلق بالسياسة الإيرانية في المنطقة، فقد تنافست في الانتخابات الأخيرة ثلاثة تيارات أساسية (التيار المحافظ ويضم المتشددين، والتيار الإصلاحي ويضم إصلاحيين ومحافظين أقل تطرفاً، وذلك تحت مسمى “قائمة الأمل”، وتيار الاعتدال الذي يتزعمه هاشمي رفسنجاني، ويُقال عنه التيار البرجماتي ويضم أيضاً إصلاحيين ومحافظين).
هذا التقسيم قياساً إلى السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة يتسم بقدر كبير من المرونة، لدرجة تكاد تختفي معها أي فروق جوهرية في هذا الشأن، فجميعها يتفق على خدمة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، وتبدو الاختلافات كما سبقت الإشارة في أداوت التنفيذ.
وعلى الرغم من أن خبرة التاريخ الإيراني تشير إلى أن التيار “الإصلاحي” غالباً ما يعتمد في سياساته على الأدوات الدبلوماسية، التي يصاحبها عادة انفراجة ما في علاقات طهران مع دول الجوار على نحو ما بدا خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي والعامين الأول والثاني من حكم الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، بيد أن الفترة الحالية التي أصبح يسيطر عليها “الإصلاحيون” و”المعتدلون” في إيران، ربما تمثل استثناءً من ذلك، على نحو يُتوقع معه أن يظل الطابع “الصراعي” هو المسيطر على هذه العلاقات حتى بعد الانتخابات الأخيرة في إيران، وذلك استناداً إلى عدد من العوامل، منها:
أ- توقيت الانتخابات الإيرانية الأخيرة، فقد جاءت في وقت تشهد فيه العلاقات الإيرانية – الخليجية، وتحديداً مع السعودية، توتراً وتصعيداً غير مسبوقين، لدرجة انتقلت فيها هذه العلاقات من “مرحلة الحرب الباردة” إلى مرحلة “المواجهة المفتوحة”، وتم ذلك في ظل وجود رئيس إيراني محسوب على “الإصلاحيين” وليس “المحافظين”.
ب- عوامل الصراع باتت أكثر قوة وتأثيراً وتعقيداً في مناطق الاشتباك بين إيران ودول الخليج، فبالإضافة إلى دائرة الخليج التقليدية والتي تعد حالة البحرين محورها الرئيسي، فإن السياسة الإيرانية تجاه دوائر الاشتباك الأخرى بين إيران ودول الخليج التي تمتد لتشمل اليمن وسوريا والعراق ولبنان، دخلت في مرحلة أكثر تعقيداً على نحو يصعب معه تصور أن تكون هناك تفاهمات مشتركة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران بشأنها.
ج- لا توجد مؤشرات تفيد بأن إيران بصدد إجراء مراجعة لسياستها تجاه دول الجوار على نحو يدفع نحو مرحلة جديدة من التهدئة، بل العكس من ذلك، تفيد بعض التقديرات بأن “إيران ربما تحاول التمدد لملء الفراغ الذي من المتوقع أن تتركه الولايات المتحدة بانشغالها عن المنطقة في انتخابات رئاسية قادمة، وهي فرصة تبدو مواتية لإيران لفرض أمر واقع جديد بمزيد من التمدد والتوغل أكثر في قضايا الاشتباك المشار إليها”.
انتخابات مجلس الخبراء ومرشد “الثورة” القادم
يعاني المرشد الحالي علي خامنئي (76 عاماً) تدهور حالته الصحية، وفي حالة رحيله سيكون منوطاً بأعضاء مجلس الخبراء الجديد، الذي تمتد دورته حتى عام 2024، اختيار المرشد الأعلى القادم. وعلى الرغم من أن “الإصلاحيين والمعتدلين” لديهم الرغبة في تولي مرشد جديد يُخلص النظام الإيراني من “حالة الجمود” التي فُرضت عليه لعقود، فلن يكون لديهم الرغبة والاستعداد في الوقت ذاته لتولي شخص قد يقود إلى تفكيك النظام السياسي أو تعريضه للخطر، على نحو ما يسميه البعض “جورباتشوف إيراني”.
لذلك، من الصعب تصور أن تؤدي نتائج انتخابات مجلس الخبراء الأخيرة إلى حدوث تغيير جذري في منطلقات السياسة الإيرانية على المدى الطويل، فالتغيير الأخير الذي شهده مجلس الخبراء قد يكون له دور في التقليل من سيطرة نفوذ المحافظين المتشددين، دون أن يحول ذلك من اختيار شخصية تسعى إلى التطوير ولكن في إطار النظام القائم.
مُجمل القول، ربما ينجح “الإصلاحيون” و”المعتدلون” في مجلس الشورى الإيراني في إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية داخل إيران، وفي دعم “الانفتاح” الإيراني على الدول الأوروبية، لكن من الصعب الحديث عن دور مؤثر لهم في مراجعة أو تصحيح السياسات الخارجية الإيرانية تجاه دول المنطقة، خصوصاً في الملفات المتعلقة بسوريا والعراق واليمن والبحرين ولبنان، حيث يتحكم في وضع تلك السياسات المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري الإيراني.
أشرف عبدالعزيز
مركز المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية