لماذا ذهب بوتين إلى سورية؟

لماذا ذهب بوتين إلى سورية؟

لماذا ذهب بوتين إلى سورية

أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 14 آذار (مارس) الحالي أنه سيبدأ سحب قواته الرئيسية من سورية. وكانت روسيا قد نشرت حوالي 70 طائرة عسكرية من مختلف الأنواع، وأكثر من 4000 جندي دعم لحماية وصيانة الطائرات. ولم يكن ذلك انتشاراً كبيراً، لكنه غير الواقع على الأرض في سورية بشكل سريع. وكانت قد سبقت الانتشار توقعات جدية بأن ظهر نظام بشار الأسد قد أصبح إلى الحائط وأنه محاصر. لكن تلك التوقعات تبددت مع شن الروس هجمات ضد الجهات التي كانت تعمل على الإطاحة بالنظام.
من غير الواضح على وجه التحديد لماذا تغيرت تلك التوقعات. ومن المحتمل أن يكون العدد المحدود من الطلعات الجوية التي استطاع الروس تنفيذها كانت كافية لكسر القدرات العملياتية لقوى المعارضة. ويمكن ببساطة أن التواجد الروسي كان كافياً لتغيير نفسية قوى المعارضة وكسر إرادتها. ومن المحتمل أن المعارضة كانت متشطية كثيراً وضعيفة جداً من حيث الجوهر، إلى درجة أن أي شيء يمكن أن يقصم ظهرها. ومن الممكن بحث هذا الأمر بجدال بلا نهاية، لكن الحقيقة الدامغة هي أن الروس جاؤوا وحققوا النتيجة التي كانوا يريدونها.
لكن السؤال يبقى بطبيعة الحال: لماذا تدخل الروس في سورية في المقام الأول؟ كان والد الأسد (الرئيس الراحل حافظ) مقرباً من السوفيات، كما أن روسيا ما بعد السوفيات عرضت إلماحات إلى استمرار العلاقة. لكن سورية لم تكن يوماً مركزية أبداً بالنسبة للمصالح الروسية التي لديها مشاكل أخرى، وخاصة في أوكرانيا، بحيث أن تكريس موارد نفيسة لحل ما تراها روسيا من منظورها مشكلة صغيرة نسبياً يعتبر شيئاً غريباً. لكنك عندما تمعن التفكير في الأمر، تجد أنه ينطوي على الكثير من المنطق الذي يتجاوز حتى مسألة ضمان استدامة الأسد.
كان السبب الأول في تدخل بوتين في سورية إثبات أنه قادر على القيام بذلك. وكان لديه جمهوران: الجمهور الروسي؛ والغرب، وخاصة الولايات المتحدة. وكان الأداء الروسي في أوكرانيا عادياً في أفضل الحالات. فقد استولى الروس على القرم من دون مواجهة أي معارضة، وشجعوا انتفاضة في الشرق، والتي فشلت في إشعال فتيل المنطقة. وفشلت مخابرات روسيا في فهم ما كان يجري في كييف، كما فشلت في تشكيله. والأهم من ذلك أن تراجع أسعار النفط صنع أزمة اقتصادية ضخمة في روسيا. وكانت تلك لحظة حاسمة بالنسبة لموسكو على الصعيد المحلي، وعلى مستوى علاقاتها الخارجية أيضاً.
لقد أظهر نشر جناح طيران مكون من أنواع مختلفة من الطائرات، ثم الإبقاء عليها في عمليات قتالية على مدى شهور، أن لدى روسيا قدرة عسكرية كبيرة، وأنها قادرة على استخدام هذه القدرة بفعالية واقتدار. وفي روسيا، كما في بلدان أخرى، عادة ما تصنع العمليات العسكرية الناجحة وقصيرة الأمد دعماً ضخماً. وقد أوضح التدخل الروسي للولايات المتحدة أن روسيا تمتلك القدرة، وأنها سوف تتدخل في مناطق كانت الولايات المتحدة تعتبرها منطقة عملياتها الخاصة. كما أنها غيرت الشعور بأن روسيا هي قوة متداعية غير قادرة على السيطرة على أوكرانيا في وجه قوة عالمية كبيرة. إما مسألة إذا كان هذا صحيحاً، فهي أقل أهمية –وإنما كان بحاجة لأن يبدو صحيحاً. ولا يمكن إنكار أنه انطوى علي شيء من الحقيقة.
أما النقطة الثانية، فأكثر غرابة ومنسجمة بالكامل مع المسوغ الأول. لقد تدخل الروس في سورية لإنقاذ الولايات المتحدة من وضع صعب جداً. فقد عارضت الولايات المتحدة نظام الأسد وأرادت تغييره بائتلاف من قوى المعارضة. وكان يتضح بشكل متزايد أن هذا الأمر لن يحدث. قد يسقط الأسد، لكن الذي سيحل محله هو معارضة مقسمة تخوض حرباً ضد بعضها البعض مثلما تخوض حرباً ضد الأسد. وقد يكون ذلك شيئاً مفضلاً لدى الأسد، لكن مجموعة “الدولة الإسلامية” كانت متعمقة في داخل سورية واشتبكت وهزمت بعض قوات الأسد المدرعة -ناهيك عن أن هذه المجموعة تسيطر على أراض أكبر بكثير من أي مجموعة أخرى من قوات التمرد. وإذا سقط الأسد واستبدل بالمعارضة، فإن من غير المستبعد أن تستبدل المعارضة نفسها بـ”الدولة الإسلامية”. وكانت الولايات المتحدة واعية إلى أنها كانت قد قللت من تقدير “الدولة الإسلامية” باستمرار، وأن احتمال وصول هذه المجموعة إلى دمشق كان حقيقياً وغير مقبول على حد سواء لدى الولايات المتحدة.
كان لدى الولايات المتحدة مشكلة سياسية. فهي لم تعارض الأسد وحسب، وإنما اصطفت إلى حد كبير مع الفصائل المعادية له. ولم تستطع أن تصبح فجأة الحامي لنظام الأسد. ولم تستطع الولايات المتحدة، في تلك اللحظة، النهوض بالعبء الذي يمكن أن يترتب على سقوط الأسد. وبالتالي حل التدخل الروسي المشكلة نيابة عن الولايات المتحدة. وكان أن تم إنقاذ الأسد. وتم صد الدولة الإسلامية واحتواء حالة كانت على وشك الخروج عن السيطرة.
هل كانت هذه صفقة رسمية أم مجرد محصلة غير متوقعة؟ أشك في أنه تم التوقيع على أوراق، لكنني أشك أيضاً في أنها كانت حصيلة غير متوقعة من جانب أي من الطرفين. لقد عرف الروس بالتأكيد الوضع الأميركي في سورية: لم تكن الولايات المتحدة تثق في المعارضة التي ترعاها، وكانت غير مرتاحة من “الدولة الإسلامية” وعديمة الحيلة بخصوص ما يجب أن تفعل. ثم جاء التدخل الروسي مباشرة من موقف موسكو العام ولم يشكل أي مشكلة لها.
بقيامها بذلك في وجه قوة جوية أميركية ضخمة، فإن روسيا إما افترضت أنها تستطيع التنسيق مع الولايات المتحدة في الوقت المناسب، أو أن ذلك التنسيق كان قد بحث منذ البداية. وسيكون حل المشكلة الأميركية في سورية واحداً من تلك الأشياء التي ستجدها بعد 50 عاماً عندما تتم إماطة اللثام عن الوثائق السرية. ولا أقول أنها كانت هناك اتفاقية. إنني أقول أنه سواء كانت هناك اتفاقية أم لا، فقد عرف الروس أنهم يحلون مشكلة أميركية، وعرف الأميركيون على الرغم من كل خطاباتهم أن مشكلتهم كانت قيد الحل. وقد اشترى ذلك للروس بعض النقاط لصالح مشكلتهم الثانية الأكبر.
من الطبيعي أن النفط هو مشكلتهم الكبرى والتي لا يوجد لها حل. أما مشكلتهم الثانية الكبيرة فهي أوكرانيا التي تعتبر مصلحة أساسية للروس، والتي لا يستطيعون السماح بأن تصبح جزءا من نظام التحالف الغربي –وهي مسألة تم بحثها باستفاضة. ويكمن الاهتمام الروسي المحوري في التحييد العسكري لأوكرانيا. أما اهتماماتهم الثانوية فهي تحقيق درجة من الحكم الذاتي في الشرق، ونوع من التسوية حول القرم، والتي تعطي الروس حقوقاً هناك أوسع من السابق.
كان الهدف من عملية سورية تحقيق شيئين. الأول هو إظهار أن روسيا –مهما كانت الدبلوماسية- هي قوة عسكرية يجب أن تؤخذ على محمل الجد. والثاني هو أنها كانت مصممة لوضع الولايات المتحدة في وضع، حيث يُنظر إلى معارضة روسيا شعبياً لها على أنها خطيرة جداً، وحيث سيتم النظر إلى الروس رسمياً على أنهم قوة شريكة وليست معادية. وكان الأوروبيون يريدون سلفاً نوعاً ما من صفقة تفضي إلى التخلي عن العقوبات المفروضة على روسيا، ومن شأن هذا أن يساعد.
لم تكن عملية سورية من أجل سورية. ولم يكن مستقبل الأسد موضوعاً استراتيجياً روسياً. كان الموضوع الاستراتيجي هو إعادة تغيير الأفهام حول القوة الروسية وإظهار أن روسيا مستعدة لنشر القوات وحل المشكلة ثم المغادرة. وفي مفارقة مع الأميركيين الذين ينشرون القوات ويبقون ويغوصون في الوحل، فقد فعل الروس ما جاؤوا لفعله، وهم الآن يغادرون.
يجب علينا عدم المبالغة في تقييم الإنجاز العسكري الروسي. لكنه كان مناسباً للمهمة السياسية، وهو كل ما يمكن طلبه منه. إنه لم يحل مشكلة روسيا الأوكرانية، لكنه لم يلحق الضرر بفرص التوصل إلى نهاية متفاوض عليها. وعموماً، كانت هذه مهمة متقنة الأداء، وأظن أنها ليست شيئاً كانت الولايات المتحدة خائفة منه كثيراً كما تظاهرت. والمشكلة بالنسبة لبوتين هي أن كل ذلك قد انتهى الآن، وأصبح يترتب عليه الالتفات إلى إيجاد حلول للمشكلات الاستراتيجية. والسؤال هو ما إذا كان هذا النجاح سيتحول إلى احترام، أم انه سينزلق ببساطة في مسامات الذاكرة السياسية.

ترجمة: عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية