توابع غير مقصودة: التأثيرات السياسية الداخلية لأحداث “بن قردان” في تونس

توابع غير مقصودة: التأثيرات السياسية الداخلية لأحداث “بن قردان” في تونس

4459

في معركة يُمكن اعتبارها فاصلةً في علاقة التنظيمات الإرهابية المسلحة بالدولة التونسية، استطاعت قوات الأمن في هذا البلد الحيلولة دون سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على ولاية بن قردان التي تقع في الجنوب التونسي بالقرب من الحدود الليبية، حيث سعت مجموعة متطرفة تابعة للتنظيم للسيطرة على الولاية عبر شن هجمات متزامنة على عددٍ من الأهداف من أجل إقامة “إمارة إسلامية” في الداخل التونسي.

لكن قوات الأمن تصدت لتنظيم” داعش”، وأوقفت تقدمه في معركة دامت لساعات، وأدت إلى مقتل ما يزيد عن 35 عنصرًا إرهابيًّا. وعلى الرغم من انتهاء عملية بن قردان واستعادة الولاية هدوءها بشكل كبير، وعودة الحياة إلى طبيعتها، فإن العملية أحدثت أثرًا سياسيًّا واسع نطاق يمكن أن تمتد تبعاته إلى سنوات قادمة.
استعادة الشعبية المفقودة:
جاء تصدي قوات الجيش التونسي لأحداث بن قردان في أعقاب التحركات الشعبية في محافظة القصرين التي لم تندد بالسياسات الاقتصادية للنظام فحسب، بل أيضًا امتدت إلى المطالبة بإسقاط الرئيس الباجي قايد السبسي. لكن يبدو أن العملية الإرهابية خلقت حالة من الاصطفاف حول السبسي لمواجهة الخطر الأكبر الذي يتمثل في الإرهاب، ومن ثمّ فقد انخفضت معدلات النقد للنظام، مما أدى لاستعادة السبسي لشعبيته التي كانت فُقدت نسبيًّا بعد الفشل في إدارة الملفات الخاصة بالاقتصاد والتشغيل.
إلا أن معركة بن قردان فتحت – في الوقت نفسه – المجال أمام بعض القوى المعارضة، لا سيما الجبهة الشعبية، للتأكيد على صحة موقفها من ضرورة سرعة وضع إستراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، وهو ما أكد عليه البيان الصادر عن الجبهة في أعقاب حادثة بن قردان، وتحديدًا في الثامن من شهر مارس الجاري، مؤكدين فيه مسئولية الائتلاف الحاكم عن تعطيل عقد المؤتمر الوطني لمقاومة الإرهاب، مما يحول دون رسم إستراتيجية متعددة الأبعاد لمكافحة الإرهاب. وذلك في إشارة ضمنية لتحميل الائتلاف الحاكم مسئولية استمرار النشاط الإرهابي في البلاد.
ويبدو أن تلك الرسائل الضمنية لم تَلْقَ صدى يُذكر داخل المنظومتين المجتمعية والسياسية التونسية في ظل التعامل العسكري الناجح مع محاولة الاستيلاء على بن قردان لتحويلها إلى إمارة إسلامية لداعش وفقًا لما ذكرته عدة دوائر سياسية تونسية رفيعة المستوى. لكن على الرغم من حالة التصدي الناجح فإنها جاءت كاشفة عن هشاشة المنظومة الأمنية التونسية التي سمحت بتسلل هذا الكم من الإرهابيين عبر الحدود الليبية-التونسية والتمركز في بن قردان ومحاولة الاستيلاء عليها.
تغير أولويات الداخل:
كان الجدل المحوري قبل أحداث بن قردان يتركز حول الأزمة الاقتصادية والتنموية، وعجز النظام عن التعامل معها، وهو ما أسفر عن الاحتجاجات الواسعة ضد النظام في الجنوب، خاصة في القصرين، مما دفع الدولة للبحث عن سبل لدعم الجنوب المهمش، والذي اعترف فيه الرئيس السبسي ذاته بأزمة الجنوب التنموية، وهو أيضًا ما كان يمثل محور النقد المستمر من قبل الجبهة الشعبية المعارضة. إلا أن أحداث بن قردان أدت إلى حدوث تحول جذري في الخطاب العام التونسي على الصعيدين الحكومي والمعارض.
فقد تراجع الملف الاقتصادي من أولويات خطاب السلطة التنفيذية، سواء الرئيس السبسي أو رئيس الحكومة الحبيب الصيد، ليتقدم المشهدَ خطاب تعبوي يُنادي بضرورة توحيد الجهود للقضاء على التنظيمات الإرهابية في تونس دون الاهتمام بالملف الأكثر خطورة الذي يمثل المغذي الرئيسي للإرهابي، وهو الأزمة التنموية في الجنوب التي تعد بيئة خصبة وحاضنة لنمو وتغلل التنظيمات الإرهابية داخل بنية المجتمع التونسي.
وقد تكرر الأمر ذاته في خطاب المعارضة -خاصة الجبهة الشعبية- التي ركزت على مسئولية الحكومة عن استمرار العمليات الإرهابية عبر توجيه اتهامات لها بتعطيل وضع إستراتيجية مكافحة الإرهاب، وإعطاء أهمية أقل نسبيًّا للتعامل مع أزمة التنمية، وحالة التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يُعاني منه الجنوب التونسي.
تزايد الانتقادات لـ”النهضة”:
أعادت أحداث بن قردان فتح ملف توجيه الانتقادات اللاذعة لحركة النهضة الإسلامية، وتحميلها مسئولية انتشار الإرهاب في تونس، نتيجة سياسة التساهل التي كانت تتبناها الحركة إبان فترة حكومتي الترويكا التي كانت تقودهما قبيل الانتخابات الأخيرة، وهو ما أشار إليه الرئيس السبسي بشكل ضمني، حينما صرح بأن “تردي الوضع الأمني نتيجة مخلفات تجربة حكم الإسلام السياسي الذي كان متساهلا مع الإرهابيين والجماعات المتطرفة”.
فقد انتشرت الانتقادات بشكل واسع، ليس فقط من جانب الحركات والقوى السياسية المناوئة للنهضة بخاصة الحركة الشعبية، وإنما امتدت إلى أنصار التيارات الليبرالية واليسارية، والتي انتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا فيسبوك وتوتير التي تم فيها إعادة نشر مقاطع فيديو لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي تتضمن تصريحات أطلقها في عام 2012 قائلا: “إن السلفيين أبناؤنا، ينشرون ثقافة جديدة، ويذكرونني بشبابي”. وبالتالي فقد أدت أحداث بن قردان لمزيد من الانخفاض في شعبية الحركة.
ولعل الأزمة الأكبر لحركة النهضة، أن الانتقادات لم تعد قاصرة على مكونات المعادلة السياسية التونسية فحسب، بل أيضًا أصبحت على مرمى النقد والاستهداف من قبل التنظيمات الإرهابية هي الأخرى. فعلى خلفية فشل سيطرة التنظيم على بن قردان وسقوط عدد كبير من عناصره بين قتلى ومعتقلين من قبل السلطات، فقد توعد تنظيم داعش حركة النهضة في مقطع فيديو، واصفًا إياها “بالخائنة للجبهة الإسلامية” لكونها لم تُقم الشريعة، ولم تحارب الطواغيت والعلمانيين، بل تحالفت معهم. وبالتالي فقد صنف التنظيم الحركة بأنها “مرتدة” مما يستوجب محاربتها.
بن قردان والتدخل الأجنبي:
على الرغم من وجود موجة معارضات سابقة لتواجد أي قوات أجنبية للمشاركة في مواجهة الإرهاب في تونس، لكن يبدو أن أحداث بن قردان قد فتحت المجال أمام إعادة هذا الطرح مرة أخرى، وإن كان بهدف تطوير كفاءة الجيش التونسي. إذ أعلن فرحات الحرشاني -وزير الدفاع التونسي- أن وزارته بصدد إعداد إطار قانوني يسمح بوجود بواخر عسكرية وقوات أجنبية وتقنيين داخل الأراضي التونسية “من أجل تكوين الجيش التونسي”، وفي المقابل سيسمح القانون بإرسال قوات تونسية إلى الخارج، علمًا بأن هذا القانون لا يزال في مرحلة الإعداد من قبل الوزارة، ولم يعرض حتى الوقت الراهن على مجلس نواب الشعب التونسي.
بيد أن الأحداث الإرهابية المتعاقبة في الجنوب التونسي، وآخرها واقعة بن قردان يمكن أن تلعب دورًا محفزًا لقبول فكرة مشاركة القوات الأجنبية في الداخل التونسي على الصعيد المجتمعي، لا سيما مع زيادة معدلات الخطر القادمة عبر الحدود التونسية-الجزائرية.
إضعاف التنظيمات الإرهابية:
لقد بعث التعامل الناجح للأجهزة الأمنية التونسية -خاصة الجيش- مع التنظيم الداعشي في بن قردان، والحيلولة دون استيلائهم على المدينة، برسالة بالغة الأهمية لكافة التنظيمات الجهادية الأخرى، لا سيما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتحديدًا ما يُطلق عليه كتيبة عقبة بن نافع التي تبنت غالبية العمليات الإرهابية التي ضربت الجنوب التونسي، خصوصًا منطقة جبل الشعانبي – بأن تونس ستسعى جاهدة لضرب كافة التنظيمات الإرهابية مهما بلغت قوتها العسكرية أو تنظيمها.
وانعكس ذلك على تغير الإستراتيجية الأمنية التونسية في التعامل مع التنظيمات الإرهابية، إذ يبدو أن الأجهزة الأمنية لم تعد تعتمد فقط على أسلوب رد الفعل عند وقوع أي اعتداءات إرهابية، وإنما بدأت في تبني إستراتيجية استباقية في محاربة التنظيمات الإرهابية، وهو ما تجلى في المداهمات التي قامت بها قوات الأمن في 16 مارس الجاري لمدينة الكاف، وتم على إثرها ضبط بعض الإرهابيين الذين كانوا يعتزمون القيام بعملية إرهابية أخرى في 18 مارس، كما استطاعت قوات الأمن التونسي بولاية القيروان إيقاف عدد آخر من المتشددين بعد مداهمة أحد المنازل بالولاية. وبالتالي يبدو أن عملية بن قردان لعبت دورًا محفزًا لقوات الأمن التونسي في تطوير إستراتيجية جديدة في التعامل مع التنظيمات الإرهابية بشكل عام.
خلاصة القول..إن مسألة التشابك بين ما هو سياسي، وبين ما هو أمني في تونس، باتت حتميةً ومعقدةً للغاية، وهو ما كشفت عنه بوضوح أحداث بن قردان، حيث تعدت تداعياتها السياسية البعد الأمني. ولعل تعامل القوى السياسية التونسية مع تداعيات العملية الإرهابية، ومحاولة استغلالها للضغط على السبسي، تشير إلى حدوث تحولات جذرية في علاقة الأمن بالسياسة.

أحمد زكريا الباسوسي

المركز الاقليمي للبحوث والدراسات الاستراتيجية