لم يختلف خبراء السياسة الدولية والمعنيون بها على تفسير اتجاهات إدارة أميركية منذ الحرب العالمية الثانية مثلما يختلفون الآن بشأن سياسة إدارة أوباما الخارجية، وخاصة في العامين الأخيرين من فترتها الثانية، وليس هذا اختلافاً تقليدياً بين من يتحفظون على هذه السياسة، ومن يؤيدونها أو يتعاطفون معها، لكن الجديد هو الاختلاف الموضوعي في تحليل مغزى تحولات أحدثتها إدارة أوباما في السياسة الخارجية الأميركية تحت عنوان «قيادة الولايات المتحدة للعالم من الخلف».
يبدو بعض هذه التحولات، إن لم يكن كثير منها، مُحَّيراً لخبراء ومحللين، خاصة في ضوء المقالة التي صاغها جيفري جولدبيرج ونشرها في العدد الأخير من مجلة «ذي أتلانتيك» عن «عقيدة أوباما»، ومزج فيها بين تحليله لاتجاهات أوباما، ولقاءات عقدها معه وبعض المسؤولين في إدارته، فقد استنتج جولدبيرج أن أوباما أقل الرؤساء الأميركيين اهتماماً بمحاولة فهم موقف حلفاء واشنطن العرب، خاصة بعد الاتفاق النووي مع إيران، فهو يرى أن على الطرفين بناء شراكة في الشرق الأوسط. ويعني ذلك تسليم العرب بحق لإيران في الحصول على مساحة من النفوذ الإقليمي في منطقة كلها عربية.
وحين يكون هذا هو اتجاه أوباما الآن، لا يبقى استيعاب دروس التورط في حربين خاسرتين خلال العقد الماضي كافياً لتفسير سياسته. كان استيعاب دروس ذلك التورط تفسيراً معقولاً في مرحلة سابقة، خاصة قبل تحول السياسة الأميركية تجاه طهران من المواجهة إلى التعاون، ومحو حقبة كاملة من العداء الإيراني لواشنطن من ذاكرة البيت الأبيض، رغم أن الشعارات المعبرة عن هذا العداء ما زالت مرفوعة في أعلى مستويات السلطة.
كان مفهوماً أن يؤدي استيعاب دروس حربي أفغانستان والعراق إلى تقليل الانغماس الأميركي في أزمات المنطقة، رغم أن كل خطوة تأخذها واشنطن إلى الوراء في هذا المجال تنطوي على خسارة لها بحسابات موازين القوى العالمية.
وربما يكون مفهوماً أن تحاول إدارة أوباما ترتيب بعض الأوضاع في المنطقة، في سياق الاتجاه إلى تقليل التورط فيها، لكن السلوك المنطقي في مثل هذه الحالة أن يقوم الترتيب الجديد على ضمان استمرار عوامل القوة التي تمتلكها، ومن أهمها العلاقات التاريخية التي اعتمدت عليها للحفاظ على مصالحها.
لذا، فعندما تتجه إدارة أوباما إلى إضعاف هذه العلاقات بدون بديل عنها سوى رهان على علاقات جديدة مع إيران، لابد أن يثير هذا الاتجاه الجديد جدلاً ويطرح أسئلة لأنه معاكس لتقاليد السياسة الأميركية منذ أواخر الأربعينيات، فليست هذه هي المرة الأولى التي تتجه فيها إدارة أميركية إلى تقليل التورط في إحدى المناطق نتيجة استيعاب دروس حرب خاسرة، فهذا ما فعلته إدارة نيكسون -فورد في جنوب شرق آسيا في نهاية حرب فيتنام وبعيدها، غير أنه لا تلك الإدارة، ولا إدارات تلتها، تخلت عن مسؤولياتها تجاه أصدقاء الولايات المتحدة في آسيا، أو شجعت قوى معادية لهم على المضي قدماً في تهديد أمنهم وتوسيع نفوذها على حساب مصالحهم.
لذلك ليس غريباً أن تثير سياسة الإدارة الأميركية الحالية في الشرق الأوسط أسئلة محيرة، لاسيما بعد أن تجاوز أوباما رهانه على منافع يتخيلها للانفتاح على إيران، واتجه إلى توجيه انتقادات ضمنية لمن لا يزال يسميهم «أصدقاءنا» بدعوى أن موافقتهم على أن إيران هي مصدر كل المشاكل، والتسليم بمنهجهم في التعامل معها، يعني على حد تعبيره «أن تستمر هذه الصراعات الطائفية في الاشتعال، بينما شركاؤنا في الخليج غير قادرين على إطفائها أو الفوز بشكل حاسم»!
ويبدو ذلك الكلام مفارقاً للواقع، وكأنه لا يعرف أن المنطقة لم تشهد الصراعات الطائفية التي تحدَّث عنها إلا بعد تبني إيران منذ 1979 سياسة مذهبية هجومية بدأت بـ«تصدير الثورة»، ووصلت إلى استخدام أذرع إقليمية لاختراق بلاد عربية ودعم نفوذها فيها، وهو يريد أن يكذّب العرب ما يرونه يومياً من ممارسات طهران على هذا الأساس المذهبي، ويشاركوه رهانه الوهمي على إيران جديدة معتدلة ومنفتحة!
يبدو أن أوباما صدَّق أنه صاحب مبدأ جديد في السياسة الخارجية الأميركية، لكن إذا صح أنه يضيف إلى هذه السياسة، فقد يكون جديده هو الخلط بين التفاعلات في الساحة الدولية، والمضاربات في أسواق مالية أو المراهنات في مباريات رياضية.
د.وحيد عبدالمجيد
صحيفة الاتحاد