يقع مبنى وزارة الخارجيّة الروسي الضخم الستاليني الهندسة، في وسط موسكو، يطلّ عليه برج عالٍ. يسرع مئات الموظفين في ذلك الصباح، ليلتحقوا بمكاتبهم. يتطرّق مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف الذي يجيد العربيّة بامتياز، للمحادثات التي سيجريها الرئيس، فلاديمير بوتين، في اليوم نفسه مع نظرائه من العالم أجمع، الرئيسين السوري بشار الأسد والإيراني حسن روحاني والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، ومع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وكلّ المعنيّين من قريبٍ أو بعيد بالملفّ السوري. كان بوغدانوف سفيراً في تل أبيب والقاهرة، وشغل عدّة مرّات منصب سفير روسيا في دمشق. وهو، منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2014، الممثّل الخاصّ للرئيس الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا.
الأمور واضحة بالنسبة لبوغدانوف: “ليس هناك من حلٍّ عسكري للأزمة السورية”، لكنّه يضيف: “لا نريد أن نظهر الأمور ببساطةٍ أكثر ممّا هي عليه؛ هناك قوى كثيرة، داخل سورية وخارجها، تعارض هذا المسار وتلحّ على ضرورة رحيلٍ مبكّر للرئيس الأسد. لا بدّ من التذكير بنتائج هذه الاستراتيجية في ليبيا والعراق”. يعطي بوغدانوف الأولويّة للتنسيق مع الولايات المتحدة، ليس فقط على المستوى السياسي؛ سيتمّ إنشاء مركز مشترك لجمع المعلومات اللازمة لمتابعة وقف إطلاق النار، من أجل تحديد الأهداف العسكريّة المقبولة ومعاينة “المجموعات الإرهابية”.
يشرح أحد الخبراء الروس في شؤون الشرق الأوسط: “فوجئنا بالتزام بوتين شخصيّاً. قام بتنازلات، ولا سيّما في ما يتعلّق بحصر صفة الإرهاب بتنظيم الدولة الإسلاميّة وجبهة النصرة”، في حين أنّ موسكو كانت تطالب بوسم مجموعات أخرى بهذه الصفة. ويؤكّد الخبير نفسه: “وحتى ضباطنا فوجئوا، وكان الاندفاع قد أخذهم بحكم نجاحات الأسابيع الماضية”.
وماذا لو قبلت مجموعات، كأحرار الشام أو جيش الإسلام، بوقف إطلاق النار؟ “سندرس تصريحاتهم ونياتهم. كان هذا جواب بوغدانوف الذي يذكّر، على الرغم من ذلك، أن موسكو قبلت في مفاوضات السلام الأخيرة في جنيف، بحضور محمد علّوش، الذي تزعّم جيش الإسلام بعد مقتل أخيه زهران علّوش من جرّاء قصفٍ روسي.
حصيلة إيجابيّة في نظر موسكو
تسود في موسكو قناعة أنّ قرار التدخّل العسكريّ الذي أخذته في خريف 2015 لعب دوراً
حاسماً لفتح صفحة جديدةٍ، وتفادي تكرار السيناريو الليبي الذي ما انفكّ يرعب الروس. أدّى قرار التدخّل العسكريّ الذي أخذه بوتين بنفسه إلى قلب ميزان القوى على الأرض، على الرغم من الاصطدام بمقاومةٍ فاجأت الروس في الفترة الأولى. وقد أكّد لنا ذلك، في ديسمبر/كانون الأول 2015 في بيروت، أحد قياديّي الصف الأوّل في حزب الله: فخلافاً لتوقّعاتهم، لم يتمكّن الروس من الحصول مباشرةً على النتائج المطلوبة. وقد اعتمد الروس التصعيد واللجوء إلى القصف المكثّف، من دون أيّ اعتبار لمصير المدنيين، وذلك للقضاء على تلك المقاومة بحكم عجز الجيش السوري من الاستفادة من التغطية الجوّيّة المتوفّرة. وفي نهاية ديسمبر 2015، انقلب ميزان القوى، وبدأ الجيش السوري، وقد أعاد الروس ترتيبه، بالتقدّم نحو حلب.
الحصيلة الإنسانيّة لهذه الحملة مأساويّة، إلّا أنّ الروس حقّقوا ما كانوا يأملون تحقيقه. فرضت روسيا نفسها مقابل الولايات المتّحدة قوّة لا بدّ من أخذها بالحسبان في هذه الأزمة، ومتجاوزين بذلك إيران. فدعمت ركائز النظام السوريّ، ووضعته في موقعٍ أفضل في المفاوضات الآتية. جرّبت أسلحتها الجديدة، ولا سيّما طائرات سو-35-إس Su-35S الحربية، ودبابات تي-90 T-90، والصواريخ الباليستية انطلاقاً من البحر الأسود. وذلك بكلفة مادّيّة محدودةٍ نسبياً (3 مليارات دولار من أصل 44 مليار دولار، محسوبةٍ على ميزانيّة 2016)، كما أنّ روسيا استطاعت وضع قاعدة عسكريّة في اللاذقيّة، أوّل قاعدةٍ دائمة لها في المنطقة منذ نهاية التحالف مع مصر. وأخيراً، فرضت على دمشق إعادة تنظيم الجيش النظامي، والتي تصرّ روسيا على ضرورة المحافظة عليه، مهما كان الثمن، خصوصاً أنّه قد يشكّل العمود الفقريّ لدولةٍ سورية موحّدة. فهناك إلحاح، هنا، على ضرورة تفادي التدابير التي اتّخذتها واشنطن في العراق، بعد 2003: حلّ الجيش العراقيّ وحزب البعث. ويضيف بوغدانوف في هذا الصدد: “والأميركيون يوافقوننا الرأي هذه المرة”.
مخادعات النظام السوريّ
هنا، يحمل وقف إطلاق النار قراءتين: أن يكون تمويهاً لمخادعة الغرب وتمكين الأسد من التقدّم من أجل استعادة السيطرة على كلّ سورية؛ أو تعبيراً عن إرادة روسيا التوصّل إلى اتّفاقٍ فعليٍّ، ما يفترض حلّاً وسطاً.
في مؤتمرٍ نظّمه مركز فالداي في موسكو في 26 و27 شباط/فبراير الماضي، وجمع خبراء
روسيين وأجانب في شؤون الشرق الأوسط، تواردت آراء مختلفة، بما فيها روسيّة: هكذا رسم سفير روسيّ سابق صورةً مغرية عن الرئيس السوري، مؤكّداً أنّ إعادة انتخابه أمر سهل، وأنّه سيدير البلاد من جديد في المستقبل، إلّا أنّ رأيه هذا لا يعكس الموقف الرسميّ الأكثر حذراً بكثير. فقد أبدى لنا أحد الرسميّين تخوّفه من مخادعات نظام دمشق. وتدلّ حادثة جرت، أخيراً، على الجوّ المتوتّر بين الحليفين. فبعد أن صرّح الرئيس الأسد أنّ هدفه استعادة السيطرة على كلّ الأراضي السورية، أتى فيتالي تشوركين، ممثّل روسيا لدى الأمم المتّحدة، بردٍّ حازمٍ في 18 فبراير/شباط: “استثمرنا كثيراً في هذه الأزمة، سياسيّاً ودبلوماسياً، وعسكريّا أيضاً. حبّذا لو يأخذ الرئيس الأسد ذلك بعين الاعتبار”. وحين أعلنت السلطات السوريّة عن انتخاباتٍ نيابيّة في 13 إبريل/ نيسان المقبل، أكدّت الناطقة الإعلاميّة لوزارة الخارجيّة الروسيّة في 24 فبراير/شباط أنّ موسكو مصرّة على مسارٍ سياسيّ، يؤدّي إلى دستورٍ جديد، ومن ثمّ إلى انتخابات.
ذلك أنّ الاحتفاء بالنصر ليس على جدول الأعمال في موسكو، فالجيش السوريّ حقّق انتصاراته بكلفة دمارٍ هائلة. ولئن استعاد السيطرة على كامل الأراضي السوريّة، والاحتمال قليل، لأنّ روسيا ترفض الانزلاق في رمالٍ متحرّكة، فمن سيدفع كلفة إعادة الإعمار التي تقدّر بعشرات مليارات الدولارات؟ فليس ذلك في وسع روسيا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادّة، بسبب انهيار سعر النفط: وهل يمكن لروسيا أن تنجح في سورية، في حين أنّ الولايات المتّحدة أخفقت في العراق؟
في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2015، أصرّ بوتين في خطابه أمام الحكومة بخصوص مسألة التدخّل في سورية قائلاً: “ليس لدينا أيّة نيّةٍ للانخراط بعمقٍ في الصراع (…)، سنواصل دعمنا لفترةٍ محدودة، وطالما أنّ الجيش السوريّ مًستمرّ في حربه ضدّ الإرهاب”.
حذر تجاه طهران
في ما يتعلّق بالعلاقات مع إيران، فهي جيّدة، لكنّها بالتأكيد ليست استراتيجية. وفي موسكو، تجري تساؤلات عدّة حول نيات طهران، فكما أشار الرئيس حسن روحاني، أمام وسائل الإعلام الأميركيّة، في 25 سبتمبر/أيلول في نيويورك، على هامش الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة: “لا يوجد تحالف بين إيران وروسيا في ما يتعلّق بالحرب ضدّ الإرهاب”، وخلال مداخلته في مؤتمر فالداي، ذكر أحد الإيرانيّين أنّ فلسفة بلده تقوم على عدم تدخًّل القوى الخارجيّة في شؤون دول الخليج، بما فيها روسيا.
يبدو خطاب فيودور لوكيانوف، وهو رئيس تحرير مجلّة Russia in Global Affairs أكثر وضوحاً: “رحيل الأسد مقبول لدينا، لكنّه غير مقبول لدى الإيرانيّين”. ويؤكّد على جانب
مهمٍّ في القرار الروسي: “منذ ربيع 2015، وافتنا الأجهزة الاستخبارية بتقارير مثيرة للرّيبة عن انخراط متطوعين روس من آسيا الوسطى في صفوف تنظيم الدولة الإسلاميّة”. يقدّر عددهم ببضعة آلاف. وقد أعلن رئيس الوزراء، ديميتري مدفيديف، في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، على القناة الروسية الأولى “نريد أن نحمي الشعب الروسي من التهديد الإرهابي، ومحاربته في الخارج أسهل من محاربته داخل البلاد”. وهذه حجّة استعملها زعماء أوروبيّون كثيرون، على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، وكذّبها الواقع بوضوح.
يعترف الجميع أنّ مستقبل اتّفاق وقف إطلاق النار يعتمد على الفاعلين المحليين. فقد ولّى زمن الدول العظمى التي تقرّر عوضاً عن حلفائها. لا تدفع مداخلة بثينة شعبان، مستشارة الرئيس الأسد، التي تفسّر الأزمة السوريّة على أنّها “مؤامرة من الخارج” ضدّ بلدٍ “علماني” و”عربي” على التفاؤل. ويعترف أحد المسؤولين الفلسطينيّين المقيمين في دمشق، والذي كان موجوداً في موسكو، بأنّه “لم يكن هناك لدى حكومة دمشق أيّة نيّةٍ بالتفاوض، فهي تعتبر المجموعات المسلّحة كلّها إرهابيّة. تريد النصر الكامل”. ولكنّه أكّد، بعد لقائه بمسؤولين روس، أنّ روسيا لا تريد الانزلاق “وتمديد تدخّلهم من خمسة أشهر إلى خمسة أشهر إلى ما لانهاية”، فحرب أفغانستان لم تسقط في النسيان، وتذكّر موسكو أنّه لم يتمّ إرسال أيّ جندّيّ إلى الجبهة السوريّة.
“القيصر والسلطان”
في حين يبدو أنّ السعوديّة دعمت اتّفاق وقف إطلاق النار، ودفعت المعارضة السوريّة بهذا الاتّجاه، تبدي تركيا تحفّظاتها بوضوح، فهي تطلب تصنيف حزب الاتّحاد الديمقراطي الكردي PYD تنظيماً إرهابيّاً غير مشمول باتّفاق وقف إطلاق النار، على الرغم من أنها توقّفت عن قصف شمال سورية الذي يسيطر عليه ذلك الحزب الذي أعلن أنّه سيحترم وقف إطلاق النار. وهو القوّة الوحيدة التي تحظى بدعم نشطٍ من الولايات المتّحدة وروسيا. يعترف ممثّل الحزب في موسكو بأنّ ذلك الدعم المزدوج يشكّل ضغطاً، لأنّ الحزب يرفض “الخيار”، فخلال يناير/كانون الثاني الماضي، افتتحت “الإدارة الذاتية” لمنطقة روجافا الواقعة تحت سيطرة حزب الاتّحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية مكتباً لها في موسكو.
ويشكّل تدهور العلاقات بين موسكو وأنقرة، منذ رفضت الأخيرة تقديم اعتذار، بعد إسقاطها طيّارةٍ حربيّةٍ روسيّةٍ في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، عاملاً يدفع إلى الاحتراس والقلق. وقد زادت شخصيّة الزعيمين بوتين وأردوغان (القيصر والسلطان) من حدّة هذا التصعيد، مع أنّه تمّ الحفاظ على العلاقات بين البلدين طوال سنوات الحرب الباردة، وحتى خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، على الرغم من الخلافات في وجهات النظر، إلا أنّنا نشهد، منذ ذلك التاريخ، تصعيداً شفويّاً وعمليّاً. فرض بوتين عقوباتٍ على المنتجات المستوردة من تركيا، وأعطى نصائح صارمة للمواطنين الروس بعدم الذهاب إلى تركيا. ولا بدّ طبعا من استثناءات: فاستثمارات تركيا في مجال البناء في روسيا تقدّر بـ16 مليار دولار، ولا سيّما في تحضير الألعاب الأوروبيّة في 2018، إلّا أنّ التنديدات المتبادلة تحول دون إيجاد شروط تنسيق مناسبة في سورية.
خطّة بديلة؟
غداة اتّفاق وقف إطلاق النار، أعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أنّه من الضروريّ التفكير بخطّة بديلة، إن فشل تنفيذ هذا الاتّفاق، من دون أن يحدّد بالضبط معالم هذه الخطّة. استاءت موسكو كثيراً من هذا التصريح، ورأت فيه تهديداً بالتصعيد، ربّما عن طريق زيادة الدعم “للمتمرّدين” السوريّين، إلّا أنّ الجميع يعلم أنّ فشل الاتّفاق في التوصّل إلى انطلاق المفاوضات يعني أنّ التصعيد العسكريّ هو الحلّ الوحيد الموجود. وموسكو تعرف أنّها ستدفع الثمن غالياً في هذه الحالة.
ألان غريش
صحيفة العربي الجديد