هل تستطيع تركيا أن تتجنب الكارثة؟

هل تستطيع تركيا أن تتجنب الكارثة؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان - (أرشيفية)

اعتباره شخصاً سجن ومنع من احتلال منصب، فإن أردوغان هو نتاج مدرسة سياسة للبطش؛ حيث يتمكن المرء من النجاة عن طريق البطش بخصومه بشكل كامل. ونتيجة لذلك، صنع أردوغان العديد من الأعداء المحليين والدوليين على الطريق.
*   *   *
كان التفجير الانتحاري في قلب العاصمة التركية أنقرة قبل نحو أسبوعين هو التفجير الثالث من نوعه الذي يضرب المدينة في الأشهر القليلة الماضية. وكان واضحاً أن هذا التفجير الأخير الذي أسفر عن مقتل 34 شخصاً وجرح أكثر من 125 آخرين قد استهدف المدنيين، نظراً لأنه وقع في ساحة عامة. وقبل أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عنه رسمياً، كانت المقاتلات التركية تقصف أهدافاً تعود للثوار الأكراد.
على الرغم من أن هذا المقال لا يتحدث عن المأزق الكردي، فإنني سأكون مهملاً إذا لم أتطرق إلى ذكر تعقيدات هذا الموضوع وتاريخه الدامي وضرورة إيجاد صيغة جديدة.
في التعامل مع تهديده المباشر، يجب على الحكومة التركية تعليق النشاط السياسي الهادف إلى كسب الأصوات أو الدعم، والفصل بين العنيف وغير العنيف، وإصلاح الصلات مع النوع الأول. ويبقى شرب هذا الدواء المر ضرورياً لجعل الإرهاب “يركع على ركبتيه”.
خلال العقد الأول من ارتقائه سدة السلطة في العام 2002، نسب الفضل لحزب لعدالة والتنمية في شل “الدولة العميقة” في تركيا -الشبكة السرية من المسؤولين العسكريين رفيعي المستوى ووسطاء السلطة الملتزمين بحماية نسخة نظام أتاتورك من العلمانية المطلقة التي تعاني رهاب الخوف من الإسلام. وبالإضافة إلى ذلك، نسب الفضل إلى الحزب في التوسع الاقتصادي والجيوسياسي المشهودين في تركيا، بالإضافة إلى التحول الكاسح للدولة والمجتمع التركيين، والدور القيادي الذي أصبحت تركيا تلعبه في الشؤون العالمية. ويقال إن أياً من هذه الإنجازات لم يكن ليتحقق لولا التحالف بين حزب العدالة والتنمية وبين حركة غولن.
التسوية تعاني نقصاً في المعروض
منذ وقت متأخر من العام 2013، عندما اختلف حزب العدالة والتنمية -بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان- وحركة غولن (حزمت) بقيادة العالم الديني فتح الله غولن، وجدت تركيا نفسها تغوص سريعاً في رمال متحركة. وفي الحقيقة، ثمة ما يكفي من اللوم الذي يوجه إلى الجانبين.
وباعتباري شخصاً لديه احترام لكلا الزعيمين، وله أصدقاء في كلا جانبي السياج، وكشخص آمن بديمومة وحيوية الأنموذج التركي للحوكمة وحركة غولن مركزية التعليم، فإنني أشعر بإحباط عميق من المآلات الأخيرة للأحداث. في الجوار، في الشرق الأوسط، ثمة المشهد السياسي المليء بالقبور الجديدة للدول التي فنيت بسبب سوء استخدام السلطة والفشل في التفكير بطريقة استراتيجية.
قبل عامين، وفي مقال تحت عنوان “تركيا تختبر الإرادات”، كنت قد كتبت: “يعي أردوغان وغولن تماماً أن تركيا تهم أكثر من مصلحة أي شخص أو منظمة أو حزب”. لكنني لم الآن واثقاً من ذلك. فكلا الزعيمين، وهما أيضاً إمامان مدربان أو واعظان إسلاميان، يبدوان وأنهما لا يمانعان الصراع في القفص السياسي التافه الذي وجدا نفسيهما منخرطين فيه بفعالية. ومن المؤكد أن أحد الطرفين هو أكثر عدوانية بوضوح.
انقسام على أسس شخصية
ولكن، ما الذي قاد إلى هذا الانقسام بين حزب العدالة والتنمية وبين حركة غولن؟
هناك ثلاثة عوامل رئيسية تقفز للذهن. أولاً، الفساد وسوء استخدام السلطة من جانب التابعين لحزب العدالة والتنمية، وتسييس المسألة من جانب الموالين لغولن. ثانياً، عناصر محلية وأجنبية مدفوعة باعتقاد أيديولوجي بأن أي نموذج حكم يدعي أن بوسع الإسلام أن يوجد في إطار عمل دستوري وأن يتبنى الحداثة والمشاركة في فضاء مجتمع تعددي يعد تهديداً. ثالثاً، أن القادة في الجانبين يعانون مما يمكن وصفه بأنه متلازمة عدم الإدراك السياسي.
وعدم الإدراك هو حالة نفسية تعطي المرء شعوراً بأن ما يحيط به ليس حقيقة واقعة. ويخلق ذلك الشعور بالتالي مبررات خادعة ويلحق الضرر بالذات في بعض الأحيان. وعلى نحو مأساوي، يعرض حزب العدالة والتنمية وحركة غولن في سجالهما المستعر ونزعتهما الانتقامية حالة جيدة لهذه المتلازمة.
وضع يزداد سوءا
تصور الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية أي شيء وكل شيء على أنه غولني -المدارس، والإعلام والنشاطات التجارية، إلخ- وأنهم متعاطفون إرهابيون أو خائنون، وهي اتهامات ينفيها بعض الغولنيين ويقولون إنها انتقام حكومي منهم ومن كل من يعارضها. ويعتبر آخرون هذا السلوك إساءة استخدام للسلطة من جانب الرئيس أردوغان.
وكشخص كان قد سجن ومنع من احتلال مناصب، كان أردوغان نتاج مدرسة سياسة قائمة على البطش؛ حيث يضمن المرء نجاته الخاصة عبر تحطيم خصومه تماماً. ونتيجة لذلك، صنع أردوغان العديد من الأعداء المحليين والدوليين على الطريق. ومع ذلك، وبكل المعايير الموضوعية، ذهب أردوغان بهذه الفكرة إلى أقصى الحدود عندما أعلن في كانون الأول (ديسمبر) 2014 عن أن غولن البالغ من العمر 74 عاماً هو رئيس لتنظيم إرهابي يتآمر لتأسيس “دولة موازية”. وفي الحقيقة، فإنه أصاب نفسه بكارثة عندما أغلق مجموعة إعلامية لأنها انتقدت سياساته.
مع ذلك، قد يفسر المرء هذا السلوك، إصدار الأوامر للشرطة بمداهمة مجموعة إعلامية معارضة ووضعها تحت إشراف مجلس أمناء حكومي -في هذه الحالة صحيفة زمان التابعة لغولن- على أنه تدبير مخيف ومنذر. ويجعل هذا النوع من التعدي على حرية الصحافة الرئيس أردوغان والحكومة التركية يبدوان مثل الرئيس السيسي والنظام المصري.
وفق منتقديه، فإن أردوغان متهم بالمبالغة في السيطرة على كل وسائل النفوذ ومفاتيح السلطة -التنفيذية والقضائية والتشريعية والاجتماعية والاقتصادية. وقال صديقي الدكتور عبد القادر يلديريم ، العالم الباحث في معهد بيكر في جامعة رايس: “هذا الوضع يجسد طمعاً لا يخمد في السلطة، ويظهر كيف أن نظاماً تابعاً يعمل جيداً من حيث النسب الملحمية، يستطيع تغيير وجهات نظر الجماهير تجاه الساسة”.
وأضاف يلديريم: “لقد تخلص أردوغان من رفاقه الأيديولوجيين لردح طويل من الزمن، مثل بولنت إرينك وعبد الله غول، فقط لأنهما وجها إليه بعض الانتقادات”.
من الجهة الأخرى، يضع مؤيدو أردوغان كل اللوم على غولن. وفي هذا المقام، قال صديق موالي للحكومة أبدى تردداً في الكشف عن هويته: “إنه (غولن) هو الذي سيَّس المسألة وذهب إلى الوريد الرئيسي. وعندما داهن الجيش، فإنه أراد الانقضاض على حزب العدالة والتنمية بكل السبل”. وتجدر ملاحظة أن مؤيدي غولن في الولايات المتحدة يفوقون المؤيدين لأردوغان من حيث العدد والتنظيم والقيام بحملات ضغط، وفي معاهدهم ومراكزهم النشطة.
حيث تتوفر الإرادة، هناك طريقة
كخارجي ينظر في المسألة بحياد، فإنه ليس من الصعب جداً رؤية كيف يحتاج كلا الجانبين إلى استراتيجيتين من معسكريهما المعنيين، تذكرانهما بضرورة عدم فقدان رؤية الصورة الكبيرة. ومن الصعب التنبؤ إلى أين ستفضي الأزمة الراهنة والتفجيرات المميتة في قلب تركيا. والمعروف أن تركيا تحظى بأهمية كبيرة لا تستحق معها أن تفشل: ليس بالنسبة لمواطنيها وحسب، بل وبالنسبة للشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة أيضاً في حقيقة الأمر.
لا شك أن تركيا تقف على تقاطع طرق -محلياً وفي ما وراء حدودها. وفي هذا المنعطف الحاسم، قد تثبت استراتيجية الحكومة الرامية إلى التغلب على الصراعات السياسية أنها غير قابلة للاستدامة، إن لم تكن انتحارية. ومن أجل المحافظة على الدولة التركية، يجب أن يكون النظام الجديد براغماتياً.
يتطلب الحال في تركيا والشرق الأوسط والعديد من الأجزاء الأخرى في العالم قادة تحويليين يتوافرون على رؤية وحكمة ومزاج خاص، يخرج على القواعد المعمول بها. ويحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من كسب الانتخابات لصياغة مجتمع متجانس وتأسيس دولة عاملة على أفضل وجه، وأمة تضع مصالحها الوطنية فوق الشخصية أو الحزبية أو الحركية. والمعروف أن الأمة المنقسمة تكون أمة ضعيفة، كما أن القيادة من منطلق الغضب تشكل خياراً انتحارياً.
بعبارات أخرى، حتى يتمكن من إنقاذ تركيا، ربما يكون على الرئيس أردوغان تنظيف الركام السياسي ومد غصن الزيتون للمعارضة. وبغير ذلك، فليرحم الله تركيا.

ترجمة: عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية