افقت الأيديولوجيات، التي اتسمت بالشمولية كما النموذج الإيراني أو الكوبي، ظواهر تدعو إلى الكثير من التأمل حول ما آلت إليه من نتائج على المستوى الإنساني، وعلى مستوى الجاذبية الحضارية لها. في كوبا ومع زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الفاتح لها من دون قتال، كشفت الأيديولوجيا الشيوعية في جعل الشعب الكوبي من الشعوب الأكثر فقرا في محيطه، فيما نشأت طبقة من الحكام ومن حماة النظام استمرت بقوة الأيديولوجيا والعداء للنموذج الرأسمالي، إلى أن بدا أن الحلم الأميركي يستلب خيال الشعب الكوبي وأحلامه. ولكأن النموذج الأيديولوجي المتحكم باسم الاشتراكية، هو الطريق المثالي لسيطرة النموذج الأميركي.
إيران لا تختلف عن كوبا. فالشعب الإيراني هو الذي أجبر أصحاب الأيديولوجيا الدينية الحاكمة للنظام الإيراني، على طيّ شعار “الموت لأميركا”، وهو الذي ابتهج بإعادة فتح قنوات العلاقة مع الغرب الرأسمالي وعلى رأسه الشركات الأميركية.
فيما إيران تحاول الخروج من دوامة الشمولية يكشف عنه صراع معقد بين الإصلاحيين والمحافظين، يبقى حزب الله كامتداد للأيديولوجيا التي طلعت من إيران غارقا في لعبة فن كسب الأعداء. وهذا ما تظهره الوقائع على الأرض. الأعداء من حوله ومن كل الجهات. واحد يعلن العداء وآخر يسمي نفسه حليفا ويتربص لينقضّ في اللحظة المناسبة على من اضطر أن يكون حليفه. لا تكفي مقولة “إنهم يكرهوننا”، لتبرر حجم المعادين لحزب الله وكثرتهم، ولا سيما أنّ إيران، نفسها، وجدت طريقة ما لتفتح بابا من أبواب السلام مع الشيطان الأكبر، وهي نفسها لا تجد غضاضة في وقف التصريحات الداعية إلى إزالة إسرائيل من الوجود. وهي التي يتفادى مسؤولوها، في الحرس الثوري أو في رأس الهرم، شتم العائلات الحاكمة في دول الخليج وغيرها من دول العالم.
حزب الله قادر أن يأتي بمن يشاء رئيسا للجمهورية اللبنانية، لكنه مربك. طأطأ له الجميع وقالوا له “تفضل”. لأنه لم يضع في باله يوما أن يكون حزبا في دولة كما بقية الدول، ولا أن يضع في حسابه يوما أن يتحمل مسؤولية تطبيق خطة تنموية واقتصادية ومالية تظهر فيها كفاءاته في بناء الدول. ولم يعدّ العدة ليوم يكون فيه شريكا ومنافسا ديمقراطيا لأحزاب وقوى، ولا أن يتحمل مسؤولية الحكم. فقط اعتاد على أن يكون له الغنم وعلى سواه الغرم.
ليس صحيحا أن حزب الله يتعفف عن المواقع الرسمية والرئاسات، بل الصحيح أن لديه شهية إلى السلطة أكثر من غيره. لكن السلطة التي تتيح له أخذ مكاسبها دون أن يتحمل أعباءها. حزب الله مربك لأنه وصل إلى مرحلة حيث لم يعد من الممكن الفصل بين السلطة والمسؤولية. هذا ما يفرضه عليه اليوم خيار سليمان فرنجية أو ميشال عون.
ربما يبقى لبنان بلا رئيس للجمهورية لسنة وسنتين وأكثر، وربما ستستمر الأزمة السورية. ويمكن لحزب الله، الذي يظن أنه يزداد تمددا في أصقاع العالم العربي دفاعا عن قضايا الشعوب، أن يستمر في الترويج لمقولة تحرير العالم من التكفيريين… سيظل عاجزاً عن أن يحرر لبنان من التعطيل، أو أن يقدم نموذجا لما يمكن أن تكون عليه الدول الطبيعية. وهو يشيع أنه هزم إسرائيل وبات يهدد وجودها ونجح في حماية نظام الأسد وغير ذلك من “إنجازات إلهية”، سيبقى عاجزا عن أن يكون حزبا سياسيا في دولة لبنان.
الحرب الناعمة الأميركية، كما يسميها حراس الأيديولوجيا في إيران، جنودها هم ملايين من الشعب الإيراني، الذين أدركوا أن الشعارات التي ملأت شوارع المدن تفقد معناها. فالشعب الإيراني لمس أن الخيار الأيديولوجي الذي قام على ادّعاء تقديم نموذج لإدارة الشأن العام يقوم على رفض الرأسمالية والاشتراكية وتقديم نموذج بديل اسمه التجربة الإسلامية في السياسة والاقتصاد، كانت نتيجته أن الإيرانيين ازدادوا تطلعا إلى النموذج الغربي والأميركي تحديدا. هذا بغض النظر عن “الإنجاز النووي” الذي تدعيه إيران، لكن ذلك ليس الهدف الذي قامت من أجله الثورة الإسلامية، التي عجزت أن تحقق لشعبها أهداف الثورة.
الردة الشعبية على النموذج الأيديولوجي المسيطر في إيران هي ما تجعل واشنطن غير آبهة بالشعارات الأيديولوجية، لأنها تدرك أن هذه الشعارات هي ما يدفع الإيرانيين للتعلق بخيار الانفتاح على النموذج الرأسمالي، من دون أن يعني ذلك أن الإيرانيين في موقع ضعيف، بل الضعف هو في الأيديولوجيا وشعاراتها، وهي تتهاوى لصالح سياسة الانفتاح، ولخيار الانخراط في العولمة.
سقوط الأيديولوجيا وانهيارها أمام النموذج الرأسمالي يستند إلى وقائع منطقية ومادية. والجاذبية الأميركية والغربية للشعبيْن الإيراني والكوبي هي من إنجازات الأيديولوجيا الإسلامية بنموذجها الإيراني، والأيديولوجيا الاشتراكية بنموذجها الكوبي. بدا أن كلّا من هاتين الأيديولوجيتين وسيلة أوباما لنقل أميركا من رتبة “الشيطان الأكبر” إلى رتبة “الحلم”. ليس النموذج الأميركي كما هو في أذهان الإيرانيين والكوبيين، لكن بؤس التجربتين الإيرانية والكوبية كان كفيلا بأن يكسب أوباما دون استخدام السلاح.
المفارقة في المشهد الإيراني وامتداده حزب الله، أنه فيما العقوبات الدولية تنزع تدريجيا عن إيران، تزداد بالمقابل على حزب الله، العقوبات المالية التي تصدرها الخزينة الأميركية ويؤكد عليها الكونغرس، توقع حزب الله في وضع لا يحسد عليه، ذلك أن حزب الله الذي يدرك أن مسار الانفتاح الإيراني على الشيطان الأكبر مسار يشقه الإيرانيون بقوة، يعلم أن كلّا من طبيعته الأيديولوجية والوظيفة التي تأسس من أجلها آيلة إلى نهاية… هذه النهاية هي التي تجعل حزب الله أمام إشكالية وجودية غير قادر على حسمها، وتساهم العقوبات في تعميقها. حزب الله عاجز عن أن يكون حزبا سياسيا في دولة مدنية، لذا سينحاز دوما، لخيار الحرب والقتال باعتبارهما سبيله الوحيد للبقاء.
علي الأمين
العرب اللندنية