إيران جديدة لشرق أوسط جديد: حول ضرورة انتظام السرديات والسلوكيات

إيران جديدة لشرق أوسط جديد: حول ضرورة انتظام السرديات والسلوكيات

الرئيس_الإيراني_حسن_روحاني2

تصغي منطقة المشرق العربي، في أعقاب الاتفاق الذي عقدته «مجموعة الخمسة زائد واحد» مع إيران، إلى رسالتين ضمنيتين تخرجان من طهران، على قدر كبير من التناقض بينهما. وإحداهما موجّهة إلى العالم أجمع، وقوامها الوعود والنوايا، فيما الأخرى مقصدها المنطقة ذاتها، وقيامها على الأفعال قبل الأقوال.

وإذا جاز، من باب إحسان الظن والتفاؤل، اعتبار التجاور بين الرسالتين حالة عابرة عائدة إلى طبيعة المرحلة الانتقالية لنظام تعرّض للإقصاء والعزلة على مدى عقود، إذ هو اليوم يسير باتجاه الانفتاح والتواصل، فإن الواقع المستتب في أكثر من دولة من دول المنطقة، حيث لا يبدو أنه ثمة تبدّل على الإطلاق في مسلك الأعوان والأدوات التي تعتمدها إيران سوى باتجاه المزيد من التمدد والتصلب، لا يحبّذ مقولة التدرّج باتجاه وعود التفاؤل، بل يظهر الأمر وكأنه مناورة تهدف إلى تعزيز المواقع وفق رؤية توسعية لم تتغيّر إلا في شكل الإفصاح عنها منذ كان الحديث عن تصدير الثورة قبل عقود.

وفيما الإشكال اليوم عند أقصاه بشأن الدور الإيراني في أرجاء الشرق الأوسط، فإنه بالطبع لا بد لإيران من أن تستقر في المنطقة كعنصر فاعل ومؤثر، خلافاً لمن يريد لها العزلة والإقصاء، ولكن أيضاً مع الخروج من أوهام الهمينة ومن أضغاث أحلام السيادة والتفوق على محيطها. وفك الارتباط في السلوكيات يتطلب أولاً فرزاً للسرديات. والتداخل والتناقض في السرديات حول دور إيران ومكانتها ليس مقتصراً على المنتجات المحلية.

فالرسالة الأولى، حول إيران الواعدة، تبني على رجاء أو قناعة متجسدين بما يقارب السردية المتطورة في أكثر من وسط غربي تعتبر أنه ثمة تباين بين طبيعة المجتمع الإيراني وشكل النظام الحاكم في طهران. والصفات الإيجابية التي تغدقها هذه السردية على المجتمع الإيراني تبدو موضوعية، إذ هو المجتمع العريق بتاريخه وحضارته، ومحركّه هي الطبقة الوسطى ذات الثقافة العالمية والمتأصلة بقيم الانفتاح والتسامح، والمطالبة بالتمثيل الصادق والتعددية السياسية. فانطلاقاً من هذه القراءة تمسي الجوانب القمعية والشمولية لنظام ولاية الفقيه عوارض طارئة مفروضة على مجتمع ينبذها، وتصبح الممارسات التي يشرك فيها هذا النظام عموم المجتمع، ولا سيما الانتخابات، تنازلات مفروضة عليه لاستيعاب الطاقة التحولية الكامنة، وإرهاصات انتقال نحو المستقبل الإيجابي الذي يوافق بين الرؤية المعتمدة في المجتمع ونظام الحكم في البلاد.

فمن وجهة النظر الغربية هذه، فإن فوز حسن روحاني بالرئاسة، كما بروز الإصلاحيين في الانتخابات النيابية، من الأدلة على صحة السردية الإيجابية في قراءتها للحال الإيراني. إيران الحقيقية هي إذن إيران روحاني الصاعدة، ورسالته حول الانفتاح على العالم والإصرار على حسن الجوار وتصويب العلاقات المضطربة وتذليل الملفات الخلافية هي التي تستحق أن يصغى إليها. وإذا كان ثمة ما ينافسها، فإن احتضانها يقوّيها ويسمح لها بالتغلب عليه.

إلا أن الأمور تفتقد هذا الوضوح من وجهة نظر مشرقية. ابتداءاً، فإنه ثمة علامات استفهام حول السردية الغربية الإيجابية بشأن إيران. والمسألة هنا ليست التشكيك بصحة التوصيف الذي تتضمنه هذه السردية للمجتمع الإيراني، من حيث العراقة والحضارة والطبقة الوسطى والقيم العالمية، بل بانتقائية استدعائها ودواعيها. فما يصحّ بشأن إيران التاريخ يصحّ طبعاً بشأن تركيا مثلاً، بل على الأغلب بشأن مصر، إذ هي الدولة ذات الاستمرارية الحضارية والمؤسساتية الأقدم في العالم. والحديث عن شرائح مثقفة منفتحة على العالم ومنسجمة بقيمها مع الغرب ينطبق كذلك على مصر، بل وعلى تركيا بشكل أكثر بروزاً، حيث مفهوم علمانية الدولة مستقر حتى في الأوساط الدينية. إلا أن الخطاب الغربي بشأن تركيا ومصر مثلاً لا يستهلك نفسه بالثناء والإطراء على هذه وتلك بشأن حضارتها وثقافتها. فهل إن إيران فعلاً على هذا القدر من التميّز الذي يفرض هذه النقلة النوعية في الخطاب، أم هل إن هذا الاستدعاء قائم في بعض أشكاله على الأقل على اعتبارات ذاتية غير موضوعية؟

قد يكون الجواب على هذه التساؤلات في ما يكاد أن ينتظم كسردية أخرى في العديد من الأوساط الغربية، والذي يصل في واشنطن إلى حد الصنمية المعيارية التي تدّعي كسر الأصنام، ألا وهو الطعن بدول الخليج العربية، ولا سيما منها السعودية وقطر. فالسردية الإيجابية حول إيران بكافة مقوماتها، تتحدث عمّا تفتقده دول الخليج العربية، من وجهة النظر الأهوائية الاختزالية المعتمدة، بقدر ما تشير إلى ما هو لدى إيران. وقلّ ما يأتي ذكر السردية الإيجابية هذه خارج إطار المقارنة والنسبية مع دول الجوار. وغالباً ما تنتفي الإشارة الواضحة إلى هوية هذه الدول، إلا أن أسماءها وأحوالها ليست أسراراً. فهذه دول، وفق الرأي السائد وإن همساً، دون تاريخ أو حضارة أو ثقافة أو طبقة وسطى، وعلى تعارض مع الغرب في قيمها وتصوراتها السياسية. ومعظم الانتحاريين في هجمات أيلول ٢٠٠١ جاؤوا من السعودية والخليج، كما يتكرر التذكير بتسطيحية منهكة تقدم نفسها على أنها جرأة وبداهة. فغالباً ما يجري تأطير الطعن بدول الخليج العربية على أنه تغريد خارج السرب، في حين يبدو أن السرب في واشنطن بمعظمه، بما في ذلك طليعته، يغرّد بهذا الشكل.

أما النتيجة الفعلية للسردية الإيجابية بشأن إيران (ورديفتها السلبية بشأن دول الخليج) فهو القبول دون التمحيص بالرسالة الإيرانية اللينة الموجهة إلى العالم من طاقم الرئيس روحاني، وإهمال الرسالة المتصلبة المتجسدة بسلوكيات «الحرس الثوري» وتصريحات الولي الفقيه وممارسات أدوات إيران على الأرض.

وعلى أي حال، لا يبدو، من أرض المنطقة، أن التباعد المفترض بين الإصلاح والمحافظة داخل الهيئة السياسية الإيرانية، وهو ما يعوّل عليه الغرب لتحقيق الاختراق الإيجابي، يطال السعي إلى فرض الحضور والهيمنة الإيرانية في عموم الشرق الأوسط. فقد يكون منطلق الولي الفقية و«الحرس الثوري» المشروعية الدينية، وقد يكون منطلق روحاني وطاقمه تصحيح ميزان القوى في المنطقة بما يعكس الأهمية الموضوعية لإيران، إلا أن النتيجة واحدة، وهي أن طهران مستمرة في دعمها لقوى وأنظمة تمنع سير المنطقة نحو الاستقرار والسلم الأهلي. والواقع أن افتراض اصطفاف الدوافع بين أصحاب الرسالتين الصادرتين من طهران على أساس العقيدة للأولى والمصلحة للثانية قد لا يكون وافياً. فـ «الحرس الثوري» قد أثبت عن مرونة عملية في تعاطيه مع مختلف الملفات تنبئ عن واقعية تتجاوز العقائدية، فيما التصريحات المتوالية الصادرة من شخصيات مقرّبة من الرئيس روحاني، والتي تضع التوسع الإيراني في سياق العودة إلى المجد التاريخي، تكشف عن أهوائيات عقائدية، وإن كان أساسها القومية لا الدين.

وبغضّ النظر عن النظريات، فإن إيران، بتدخّلها المتشعّب والمتعدّد المستويات في العراق، تعترض قيام النظام المتوازن الجديد لنهضة وطنية طال انتظارها (دون أن تكون بالطبع العامل الأوحد، ودون أن يعفي دورها الدول العربية من مسؤولياتها بشأن التخلي عن العراق في ساعة ضيقه)، وهي بدعمها للنظام القاتل في دمشق، قد أطالت بعمر المأساة السورية وساهمت بشكل رئيسي بتحويلها إلى مواجهة أهلية طائفية عضال، كما أنها بتعزيزها لأداتها اللبنانية، أي «حزب الله»، قد منعت قيام الدولة في لبنان وصولاً إلى اغتيالات ممنهجة لخصوم مشروعها، وبمحاولتها تكرار التجربة اللبنانية في اليمن، أسقطت الثورة اليمنية ودفعت اليمن باتجاه حروب استنزافية دامية. كل هذا، فيما بعض الأصوات المحسوبة على الإصلاحيين في طهران تجاهر وتفاخر باحتلال أربع عواصم عربية، وفيما الأجهزة الأمنية في مختلف دول المنطقة تكشف الخلايا والخطط الإيرانية لأعمال تخريبية متنوعة، وتتبين نية إلقاء اللوم بشأنها على جماعات عنفية غير مرتبطة بها.

بل أخطر ما تمارسه إيران على مستوى المنطقة هو علاقتها الملتبسة بالجهادية القطعية السنية وتوظيفها لها، بعد أن انتقلت بالجهادية الشيعية من موقع العداء للغرب إلى مهادنته، ثم التحالف الموضوعي معه في مواجهة الجهادية السنية. والسعي إلى اختراق المنظمات الجهادية، بل والتأثير على خططها ودفعها باتجاه أو آخر، ليس حصراً على إيران. فالأجهزة الأمنية والاستخباراتية لمعظم دول كل من محوري الاعتدال والممانعة وغيرها قد أولغت بهذه المحاولات، إلا أن الدور الإيراني يرتقي إلى التمكين المباشر، بالنسبة لـ تنظيم «القاعدة» مثلاً، إذ شكلت إيران بالنسبة له ممراً بين الساحتين الأفغانية والعراقية، أو إلى الإتاحة المتعمدة، بالنسبة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». والدلائل بشأن ذلك متوفرة ووفيرة، وآخرها ما كشفت عنه أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة من مراسلات مؤسس تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، إذ يتحدث بصراحة عن الترابط، وإن على التباس، مع إيران.

والسؤال لدى أوساط عديدة في الشرق الأوسط هو هل أن الغرب عامة، وواشنطن خاصة، على استعداد للتغاضي عن كافة هذه الممارسات المؤذية في بحث عن شريك قادر على ضبط الأوضاع في هذه المنطقة الدائمة الفوضى والاضطراب؟ وما الذي يوحي بأن إيران، وهي التي جاء كامل انتشارها وتوسعها على مبدأ ملء الفراغ، من إخراج «منظمة التحرير» من لبنان في الثمانينات، واندثار مزاعم الصمود والتصدي العربية، إلى سقوط نظام صدام حسين، دون أن تساهم في أية من الساحات التي دخلتها في إرساء الاستقرار، قادرة عليه على مستوى المنطقة، فيما هي تشكل عامل استفزاز على أكثر من صعيد؟

قد تكون الإجابة من الغرب أن السياسة هي فن الممكن، وأن الخيارات اليوم محدودة. إلا أن السعي وراء المصلحة الآنية هذه يشكّل تفريطاً لا باحتمالات الاستقرار على المدى البعيد، ويورّط إيران، والتي تعاني ثقافتها السياسية للتوّ من صورة ذاتية واهمة تضعها في مصاف القوة العظمى، بمغامرات تأتي عليها وعلى المنطقة بالضرر المتلاحق.

فتصحيح السياسة الإيرانية لتجنب التهوّر يتطلب ابتداءاً ترشيداً للخطاب السياسي والثقافة السياسية الإيرانية بعيداً عن أوهام الهيمنة، وهذا بدوره يقتضي تصويباً للسردية الغربية التي انتقلت في اعتبار إيران من التفريط إلى الإفراط، ومعالجة للعلاقة المأزومة بين الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة من جهة، وبين العالم العربي عامة والخليج خاصة من جهة أخرى، بما يتجاوز السطحيات والنظريات الشعاراتية.

حسن منيمنة

معهد واشنطن