ساعدتني عودتي إلى العراق بعد عامين من الغياب في أن أضع إصبعي على السؤال المركزي الذي يقض مضاجع السياسة الخارجية الأميركية حول الشرق الأوسط اليوم: ماذا يمكنك أن تفعل عندما يكون الضروري مستحيلاً، لكن من المستحيل تجاهل المستحيل –في حين يكون حلفاؤك الرئيسيون مستحيلين أيضاً؟
لا شك أن سحق مجموعة “الدولة الإسلامية”، أو “داعش”، هو أمر ضروري لتحقيق الاستقرار في العراق وسورية، لكن تحقيق ذلك يكون مستحيلاً طالما ظل الشيعة والسنة هناك يرفضون تقاسم السلطة وتشاركها حقاً. ومع ذلك، يبقى تجاهل سرطان “داعش” وقدرته على التفشي والانتشار مستحيلاً أيضاً. انظروا إلى بلجيكا.
وإذا لم يكن كل ذلك مستحيلاً بما يكفي، فإن محاولتنا جعل العراق آمنا من أجل الديمقراطية يتطلب منا غضَّ الطرف عن حقيقة أن أهم “حليف” في الناتو لدينا في المنطقة، تركيا، يجري تحويلها من ديمقراطية إلى دكتاتورية على يد رئيسها، رجب طيب أردوغان، الذي يجب أن يطلق عليه الآن لقب “السلطان أردوغان” بسبب الطريقة التي يغلق بها صحف المعارضة ويقدم الصحفيين إلى المحاكمة. ولكن، لأننا بحاجة إلى القواعد الجوية في تركيا وإلى تعاونها من أجل تعزيز قدر من الديمقراطية في العراق غداً، فإننا نسكت على تدمير أردوغان للديمقراطية في تركيا اليوم. فكر واستنتج.
ثم هناك التفكير بأن لدينا في أميركا كل هؤلاء الناس يتنافسون ليصبح أحدهم رئيساً ويحصل على الفرصة لتحمل المسؤولية عن هذه المشكلة! ألم يقل لهم أحد أن هذا بالضبط هو أسوأ وقت في 70 عاماً لإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟
لأوباما تعاطفي. وإذا كنت تعتقد أن هناك إجابة بسيطة لهذه المشكلة، فما عليك سوى أن تأتي إلى هنا –إلى العراق- لمدة أسبوع. وقد استغرقتني مجرد محاولة معرفة الفروقات بين الأحزاب والميليشيات الكردية في سورية والعراق –حزب العمال الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردي، وحزب الوحدة الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب، والاتحاد الوطني الكردستاني- يوماً كاملاً.
دعونا نعود إلى مستقبل العراق. “المشكلة في العراق ليست داعش”، كما قال لي نجم الدين كريم، المحافظ الحكيم لمحافظة كركوك التي يحتل “داعش” جزءا منها. “إن داعش هو عرض من أعراض سوء الإدارة والطائفية”. وبهذا، وحتى لو تم طرد “داعش” من معقله في الموصل، كما أشار كريم، فإن “الوضع في العراق يمكن أن يكون أسوأ بعد” الإطاحة بـ”داعش”، إذا لم يتم نزع فتيل الاقتتال الداخلي وسوء الإدارة في بغداد والتوترات الطائفية بين الشيعة والسنة.
لماذا ؟ لأنه سيكون هناك فقط تدافع ضخم آخر بين العراقيين السنة والأكراد والتركمان، والميليشيات الشيعية وتركيا وإيران، لتحديد من هو الذي سيسيطر على هذه الأراضي التي يحتفظ بها “داعش” الآن. وببساطة، ليس ثمة إجماع هنا على الكيفية التي سيتم بها تقاسم السلطة في المناطق السنية التي كان قد احتلها “داعش”. وهكذا، إذا سمعت في يوم من الأيام أننا قضينا على خليفة “داعش” أبو بكر البغدادي وأنزلنا علم التنظيم من فوق الموصل، فإنك يجب أن لا تندفع إلى التصفيق.
وإليك حقيقة أخرى غير ممتعة كثيراً أيضاً من شمال العراق: على الرغم من كل ما قرأته عن “المقاتلين الأجانب” الذين انضموا “داعش”، فإن الغالبية العظمى من المواطنين الذين جاءوا للقتال مع “داعش” في محافظة كركوك كانوا من السنة المحليين، الذين رأوا في “داعش” قوة حماية لهم من الحكومة الشيعية الموالية لإيران في بغداد. أو أنهم كانوا من السنة الأكثر فقراً وحرماناً، والذين وجدوا في الانضمام إلى “داعش” وسيلة لكسب السلطة على الطبقة العليا الأكثر ثراء من السنة.
وبالإضافة إلى ذلك، انقسمت العديد من القبائل السنية في منطقة الموصل، حيث انضم بعض أعضائها إلى “داعش” والبعض الآخر لم يفعلوا. ويقول لي مسؤولو الاستخبارات الأكراد أنه سيكون هناك الكثير من الانتقام ضد السنة الذين انضموا “داعش”، على يد أولئك الذين لم ينضموا إليه -إذا وعندما يهزم “داعش”. كما أن نساء من الطائفة اليزيدية في العراق اللواتي كان قد أسرهن واغتصبهن مقاتلو “داعش” وهربن في نهاية المطاف إلى مخيمات اللاجئين في كردستان، أخبرن عمال الإغاثة الأكراد أنهن تعرضن للاغتصاب في عدد غير قليل من الحالات -ليس على يد المقاتلين الأجانب من الشيشان أو ليبيا، وإنما على يد العراقيين السنة من بلداتهن نفسها. وقال لي عامل إغاثة هناك: “إنهن لن يثقن أبداً بجيرانهم مرة أخرى”.
لم أعد أعرف بعد الآن ما هو الذي سيكفي للقضاء على “داعش” -وإنشاء نظام لائق في مكانه- لكن ما هو ضروري بوضوح هو: لا بد من تخفيف حدة الصراع الجاري بين السنة والشيعة، والذي تغذيه المملكة العربية السعودية وإيران.
إن “داعش” هو صاروخ، نظام توجيهه سليل مباشر للأيدولوجية الوهابية المتزمتة، المناهضة للشيعية، والمعادية للتعددية، ونظام وقوده رد فعل مباشر على دفع إيران الشيعية العدواني للإبقاء على السنة العراقيين ضعيفين بشكل دائم. وطالما استمرت إيران والسعودية في ذلك، فسيكون هناك دائماً “داعش” آخر. وهو السبب في أن “عملية السلام” التي تمس إليها الحاجة في الشرق الأوسط اليوم أكثر ما يكون، يجب أن تكون بين السعودية وإيران.
لكن مجرد انتظار حدوث ذلك ليس خياراً سهلا أيضا. من المستحيل تجاهل المستحيل لأن “داعش” هو تنظيم شرير، وذكي بطريقة شريرة. وكلما طال أمد وجوده، كلما أصبح أكثر خطورة. وقد ذكرت صحيفة “الاندبندنت” البريطانية مؤخرا أن مسلحي “داعش” كانوا يخططون لاختطاف عالم نووي بلجيكي وأخذه رهينة من أجل الحصول على مدخل إلى منشأة الأبحاث النووية في بلجيكا.
ربما يفعل أوباما أفضل ما يستطيع المرء أن يفعله مع “داعش”: إضعافه، واحتواؤه والتقليل من شأنه، والاستمرار في تنبيه السنة والشيعة حتى يعودوا إلى رشدهم. لكن لدي شعور سيئ إزاء أولاد “داعش” هؤلاء. إنهم مرتبطون بشبكات وقد تخلصوا من جميع المعايير والأعراف المتحضرة. وليس لدينا طريقة للرد عليهم.
وهذا يتطلب عمل أهل البلدة أنفسهم. إن العرب والمسلمين فقط هم الذين يستطيعون أن يسقطوا “داعش” وينزعوا عنه الشرعية. لكن بلدتهم الآن مقسمة جداً، وأكثر غضباً وتردداً وارتباكاً من أن تفعل ذلك.
علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد