اندمجت القارة الأمريكية فى النظام الرأسمالى العالمي باكراً فى المراحل الأولى من تكوينه. واستُخدِمت من أجل ذلك وسائل قمع لا مثيل لها. فقد أُبيد السكان الأصليون من هنود أمريكا الشمالية على يد المستعمر الإنجليزى، ليس أقل.
وقد أقيم استغلال ثروات أمريكا على قاعدة مزدوجة، من جانب: توفير منتجات زراعية للتصدير (السكر والقطن)، ومن الجانب الأخر: التعدين (الفضة بصفة خاصة)، لصالح التراكم الرأسمالى الناشىء فى أوروبا الأطلسية.
ولم يغير استقلال القارة على يد الطبقات البيضاء القائدة محلياً شيئاً من هذه الوظيفة. فتتسم القارة (شأنها فى هذا الصدد شأن أفريقيا) بالجمع بين ضآلة السكان– بالمقارنة مع آسيا الشرقية والجنوبية– وضخامة ثرواتها الطبيعية (معادن، بترول وغاز، أراضٍ قابلة للزراعة، مياه)، مما ترتب عليه توظيف هاتين القارتين لتوفير تلك الموارد بأساليب قريبة من النهب الفج. وقد تطورت عبر القرون الأشكال الاجتماعية والسياسية التى تم بناؤها لخدمة هذه الوظيفة. ففى القرن التاسع عشر اختزلت هذه الأشكال لما كان يقتضى:
1– إخضاع الفلاحين لسلطة كبار الملاك العقاريين المستفيدين من تخصص الإنتاج للتصدير، وذلك من خلال ممارسات قمع قام بها عصبات تابعة مباشرة لطبقة كبار الملاك، 2– تسهيل وصول الشركات الأجنبية إلى الموارد المعدنية. وقامت الدولة التابعة بتوفير الإطار الملائم لذلك.
ثم أخذت عملية اندماج القارة فى الرأسمالية العالمية المتطورة تتحول خلال القرن العشرين إلى ما أطلق عليه تسمية “تحديث الفقر والقمع“. فسبقت أمريكا اللاتينية آسيا وأفريقيا فى حركة الهجرة إلى الحضر حتى حل تكدس الفقراء الجدد فى الضواحى العشوائية محل الفقر الريفى القديم. وقد صاحب هذا التحول تطور موازٍ لوسائل الإشراف السياسى على الجماهير الشعبية. وأطلق على هذا التطور تسمية “تحديث وسائل القمع الطبقى“. فأقيمت ديكتاتوريات – شبه فاشية فى بعض الأحيان – ألغت ممارسات الديمقراطية الانتخابية وحظرت الأحزاب والنقابات ومنحت مؤسسات أمن الدولة جميع الوسائل المطلوبة لذلك مثل حق القبض على المعارضين وتعذيبهم بل وقتلهم. وخدمت هذه الديكتاتوريات مصالح الاحتكارات الأجنبية والطبقات السائدة محلياً من كبار الملاك العقاريين والبورجوازيات التابعة وحلفائها من الفئات الوسطى المستفيدة من هذا النمط من التنمية المزيفة.
تعانى القارة من عواقب هذه الأشكال العنيفة للاستغلال والنهب، حتى تفوقت درجة التفاوت الاجتماعى فى أمريكا اللاتينية ما هى عليه فى آسيا وأفريقيا. فالبرازيل قطر غنى (إذ إن نسبة مساحة الأراضى القابلة للزراعة للفرد تصل إلى 17 ضعف ما هى عليه فى الصين) ومع ذلك يحتل الفقر مقدمة المسرح فى البرازيل، بينما لا ترى فى الصين– القطر الفقير– مظاهر فقر متفاقم مماثلة. بيد أن المجتمع البرازيلى – بسبب اندماجه الباكر فى العولمة الرأسمالية– أصبح مجتمعاً حضرياً؛ فلا تزيد نسبة سكان الريف عن 10% فقط من إجمالى سكان القطر. وفى فنزويلا خرب النفط الاقتصاد والمجتمع تخريبًا شاملاً فأبطل جميع الأنشطة الإنتاجية الزراعية والصناعية لصالح الاستيراد. وأصبح الجميع – من أثرى الأغنياء إلى أفقر الفقراء– يعيشون من فضلات ريع النفط، ولا غير.
وفى هذه الظروف تقف تلك التطورات السلبية عقبة إضافية فى سبيل إعادة بناء منظومة إنتاجية وطنية صناعية وزراعية قادرة على ضمان السيادة الغذائية. وتتطلب مواجهة هذا التحدى إبداع سياسات منهجية طويلة النفس ومختلفة عما يمكن أن يكون فى ظروف آسيا وأفريقيا.
خطوات ثورية ملحوظة
ثَمَّ تناقض ظاهر بين الإنجازات الملحوظة التى حققتها الحركات الشعبية فى أمريكا الجنوبية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبين غيابها فى أفريقيا والعالم العربى وآسيا(باستثناء الصين وتايوان وكوريا).
انطلقت الإنجازات فى أمريكا اللاتينية من انتصار حركات شعبية واسعة النطاق فى المدن الكبرى استطاعت إسقاط الدكتاتوريات السائدة خلال الأعوام 1960/70. نشأت الحركة الشعبية فى البرازيل خلال رئاسة كاردوسو Cardosoثم تعمقت بعد انتصار لولاLula عام 2003. وكذلك فى فنزويلا مع انتخاب شافيس Chaves عام 1999. الأمر الذى يدل على نضوج الطلب على الديموقراطية فى أمريكا الجنوبية. ولم يقتصر هذا الطلب على أقسام من الفئات الوسطى، كما هو الحال فى العالم العربى، بل شمل الأغلبية الكبرى من الشعب فى الحضر والريف. وخلق هذا الوضع ظروفاً ملائمة لانتصارات انتخابية فى بوليفيا وأكوادور والأرجنتين وأوروجوى؛ فيم يشكل الاستثناء وليس القاعدة فى تاريخ الممارسة الانتخابية إقليمياً وعالمياً.
وبزغ جيل جديد من القيادات استحوذ على زمام الحكم، جيل يتمتع بثقافة سياسية تقدمية متباينة تماماً عن ثقافة الأجيال الحاكمة فى القرنين التاسع عشر والعشرين؛ جيل تجرأ على اتخاذ مبادرات فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى تناقض الليبرالية الرجعية.
ومن بين هذه الإنجازات: السعى إلى تجديد إدارة السياسة من أجل تدعيم احترام الديموقراطية (على سبيل المثال: وضع ميزانيات بلدية يشارك الجمهور فى معاينتها وإدارتها، قوانين دستورية تتيح اللجوء إلى الاستفتاء لتغيير الحكام)، وكذلك سياسات اجتماعية إصلاحية تسعى إلى إعادة توزيع الدخل، ولو دون توسع موازٍ فى الإنتاج. وأخيراً الاعتراف بالتعددية القومية فى دول جبال الأنديس.
وقد صاحب هذا التطور الإيجابى مجهود للتحرر من سيطرة الولايات المتحدة على القارة، طبقاً لمذهب مونرو Monroe المعروف. فدخلت منظمة الدول الأمريكية OAS(التى أسمتها شعوب أمريكا الجنوبية بـ “الوزارة الأمريكية للمستعمرات“ US Ministryof Colonies) مرحلة أفولها. حتى أنشئ ليحل محلها تكتل دول الألبا ALBA ثم سيلاك CELAC (عام 2011) وهى منظمة تجمع جميع دول القارة عدا الولايات المتحدة وكندا. وتمثل المسكيك الاستثناء فى هذا التحرك ، بقبولها الاندماج فى السوق المشتركة لأمريكا الشمالية (الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك). وقد قارنت هذا الخيار بما يشبه “انتحار“ القومية المكسيكية. حتى أصبح إبطال هذا الوضع يقتضى العودة إلى تراث الثورة الشعبية الكبرى للأعوام 1910/20، وليس أقل.
بيد أن كل هذه الانجازات اصطدمت بحدود بارزة. فلم تخرج القارة من نطاق توظيفها فى إنتاج الخامات؛ التى تمثل 75% من صادراتها؛ بينما دخلت الصين فى التصنيع المتعجل حتى صارت صادراتها تتكون فى معظمها من منتوجات صناعية قادرة على المنافسة فى الأسواق العالمية.
بل أخذ هذا النمط “الاستخراجى“ Extractive للتنمية يتكرس فى أمريكا اللاتينية المعاصرة. وقد شجع على هذا التطور السلبى: ارتفاع أسعار الخامات فى المرحلة الراهنة، الذى أتاح بدوره التخلص من الديون الخارجية. علماً بأن هذ التطور يشجع أوهاماً خطيرة بأن التقدم الاجتماعى لا يقتضى بالضرورة الخروج من العولمة القائمة.
تثير الإنجازات المذكورة وحدودها تساؤلات حول استراتيجية الفكر الاجتماعى التقدمى المعاصر. فقد تم تحقيقها على يد حركات شعبية جبارة قطعت مع وراثة العصور السابقة حينما كان الحزب الواحد (أو يكاد) الشيوعى أو الشعبوى “يقود“ الجماهير. كما أنها خرجت أيضاً عن نمط الكفاح المسلح للأعوام 1960/70.
وقد وضعت هذا التحول فى إطار تفسيرى عام قائم على توضيح مغزى ظاهرة “البلترة“Proletarization المعممة الجديدة وتفتت البروليتاريا المعنية إلى أقصى الحدود. أقول بروليتاريا لأن مقام العمال فى القطاعات المنظمة وغير المنظمة أصبح بمثابة وضع بائع قوة عمله ولا غير. علماً بأن التفتت ناتج عن سياسات منهجية تستهدفه وتقوم بها الاحتكارات المالية المسيطرة على المنظومة الإنتاجية. كما أن هذا الإشراف يفعل فعله على صعيد عالمى من خلال أنشطة الشركات متعدية القومية وتدعيمها بممارسات الجيواستراتيجيا السياسية والعسكرية للولايات المتحدة وحلفائها– دول حلف الأطلسى واليابان.
فى مواجهة التحدي
خلقت إنجازات العقود الثلاثة الأخيرة فى أمريكا اللاتينية ظروفاً ملائمة لمواصلة الحركة ودفعها إلى الأمام. ولكن هناك شروطاً يجب توافرها حتى يصبح الاحتمال واقعاً. وقد اختزلت هذه الشروط فى جملة مفادها هو الآتى: تبلور مشروع سيادة وطنية يجمع بين 1– إقامة منظومة صناعية قائمة بذاتها وفعالة 2– إعادة بناء زراعة تسعى إلى تحقيق السيادة الغذائية 3– تكريس التقدم الاجتماعى نحو مزيد من العدالة 4– السير فى سبيل دمقرطة السياسة والمجتمع.
وفى هذا الإطار أقول إن السيادة الوطنية تقتضى مشاركة الطبقات الشعبية فى الاستفادة من ثمار التنمية. وفى غياب توفير هذا الشرط لن تكون السيادة الوطنية فعالة، بل ستظل شعاراً ديماغوغيا، ولا غير.
وبالنظر إلى تقدم حركة الهجرة من الريف فى العديد من بلدان امريكا اللاتينية، حيث صارت نسبة سكان الحضر تتجاوز 80%، يجب معاينة سياسات إنعاش للزراعة متباينة عما يمكن أن تكون فى آسيا وأفريقيا. فانقلاب اتجاه الحركة وإرجاع فقراء المدن العاطلين إلى مناطق ريفية أمر مستحيل. وبالتالى تواجه هذه الدول تحدياً يقتضى علاجه إبداع أشكال جديدة خاصة لها. علماً بأن الأساليب القائمة على ملكيات رأسمالية شاسعة وتبذير القدرة الإنتاجية للأرض السائدة – لا سيما فى البرازيل والأرجنتين– لا تصلح.
أما فى بلدان جبال الأنديس حيث لا تزال الحياة القروية قائمة، فلا يمكن تأسيس السياسة الجديدة المطلوبة على وهم العودة إلى الماضى وإنعاش الجماعات الهندية. إذ إن اندماج هذه الأخيرة فى المنظومة الرأسمالية منذ قرون قد شوه أشكالها ووظائفها كى تتلاءم مع طلبات الرأسمالية؛ فجعلها غير صالحة لمواجهة تحدى المستقبل.
لا ريب أن بناء منظومة صناعية قائمة بذاتها أمر لا يصعب تصوره بالنسبة إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك. بيد أن السياسات المطبقة حالياً فى هذا المجال ليست على المستوى المطلوب. فيقتضى البديل اتخاذ إجراءات جريئة: تأميم العديد من المنشآت الكبرى والعمل بخطة وطنية تتيح إنماءها وتطوير إدارتها فى اتجاه دمقرطتها.
أما بالنسبة إلى الدول الأخرى فيصعب تصور إنماء منظوماتها الصناعية خارج عمل تكتلات إقليمية وإنجاز تقدم ملحوظ فى بناء التضامن على صعيد الجنوب بأكمله. علماً بأن الصين– وبعض البلدان البازغة الأخرى– تملك القدرة على مساندة تصنيع الدول المعنية (كفنزويلا مثلاً). ولكن هذا الاحتمال يفترض بدوره أن الصين تعى بأن هذا الخيار التاريخى هو فى مصلحتها فى الأجل الطويل.
خلاصة القول أن التحدى الذى تواجهه الحركات الشعبية التقدمية فى أمريكا اللاتينية هو ذات التحدى– من حيث المبدأ– الذى تواجهه الشعوب فى آسيا وأفريقيا: تجاوز المطالب الجزئية وإبداع أشكال التنظيم والعمل المطلوبة من أجل إنجاز الوحدة مع احترام التعددية.
د.سمير امين
نقلا عن صحيفة الاهرام