ثمة وجه مألوف عاود الظهور في المشهد العراقي في الأسبوع الماضي. رجل الدين المتشدد مقتدى الصدر – ربما المعروف أكثر ما يكون بقيادة ثورة شيعية ضد القوى الغربية في أعقاب غزو العراق في العام 2003- بدأ اعتصاماً يوم الأحد من الأسبوع الماضي داخل المنطقة الخضراء المحصنة جيداً في العاصمة العراقية، بغداد، احتجاجاً على عجز الحكومة عن الوفاء بالإصلاحات التي طال تأجيلها لمجلس الوزراء، والتي كان قد وعد بها رئيس الوزراء حيدر العبادي.
على الرغم من أنه تم حل جيش المهدي الذي أسسه الصدر في العام 2008، فإن المجموعة –تماماً مثل مؤسسها- لم تذهب من المشهد العراقي حقاً، وإنما أعادت تحديد أغراضها لتقوم بتقديم الخدمات الاجتماعية والأمن لمجتمعها الشيعي في ضواحي بغداد وجنوب العراق. كما تحول جيش المهدي أيضاً إلى قوة سياسية في السنوات التي تلت. وفي العام 2014، كسبت كتلة الأحرار التابعة للتيار الصدري 34 مقعداً في البرلمان العراقي.
كما قدم ذلك العام نفسه فرصة سياسية أخرى للصدر أيضاً. ففي ذلك الصيف، انتشرت المنظمة السنية المتشددة المعروفة باسم “الدولة الإسلامية” في أنحاء واسعة من شمال العراق، واحتلت العديد من المدن والمحافظات في طريقها. وبالنسبة للصدر وأتباعه، أفسح احتمال زحف جيش سني انتقامي على بغداد مجالاً لكسب المزيد من النفوذ في السياسة الوطنية. وعلى الأثر، قام الصدر بتغيير اسم جيش المهدي إلى “سرايا السلام”، ونشر مؤيديه المسلحين من أجل حماية الأماكن الشيعية المقدسة والمجتمعات الشيعية من متمردي “الدولة الإسلامية” السنيين.
وفي حين شكل ذلك بالتأكيد أول مرة يلف بها رجل دين شعبي نفسه بالعلم العراقي، فإن الصدر ذهب في الاسابيع الأخيرة إلى تقديم نفسه، أولاً وقبل كل شيء، كفيدرالي عراقي.
في أواخر شهر شباط (فبراير)، تظاهر عشرات الآلاف من مؤيدي الصدر في بغداد، مطالبين الحكومة بمواصلة متابعة تدابير الإصلاح التي وعدت بها في العام الماضي في أعقاب موجة من الاحتجاجات التي جرت في الصيف. ولوح أتباع الاتجاه الصدري بالأعلام الوطنية العراقية، ودعوا رئيس الوزراء إلى الوفاء بوعوده بوضع حد للفساد وبتحسين الخدمات الأساسية. كما انتقل الصدر مؤخراً إلى بغداد من مدينة النجف المقدسة، ليكون أقرب إلى مركز الفعل السياسي في العاصمة، وعملت “سرايا السلام” التابعة له مع ميليشيات “الحشد الشعبي” التي تقرها الحكومة في حملتها ضد “الدولة الإسلامية”.
لكنْ هناك تهديد ضمني يختفي تحت قشرة القومية: الإصلاح، وإلا… ويكتب المحلل السياسي العراقي عمر النداوي: “إذا ما تجمدت خطة العبادي للمناقلات والتعديلات الوزارية أو فشلت في المرور من البرلمان، فإنه (العبادي) يخاطر بمواجهة مفتوحة مع الصدر. وفي الحالة الأكثر تطرفاً، يمكن أن يعني ذلك قيام الآلاف من أتباع الصدر باجتياح المنطقة الخضراء، لكنه سيزيد منسوب الغضب الشعبي في كل الحالات”.
في القلب من أحدث خطوة للصدر، ثمة محاولة للاحتفاظ بوصول إلى السلطة والنفوذ في الحكومة العراقية. وبوصفه سليل أسرة بارزة من رجال الدين، يبقى الصدر شخصية تحظى بالشعبية في أوساط الأغلبية الشيعية العراقية، خاصة بين الورعين والفقراء من الشيعة الذين يتركزون في جنوب البلاد. لكن الاستقلال عن واشنطن في بغداد سمح بقدر أكبر من النفوذ الإيراني على الشؤون العراقية. وقد تحولت قوات “الحشد” إلى قوة هائلة موازية للجيش العراقي، كما انخرطت ميليشيا الصدر الخاصة -بينما تنحاز ظاهرياً إلى “الحشد”- في اشتباكات متقطعة مع أعضاء منافسين من المنظمة المظلة التي يخشى البعض أن موالين لها يقيمون في طهران وليس في بغداد. وتتمتع نفس هذه الميليشيات المدعومة إيرانياً بدعم سياسي متزايد من فصائل معينة من بين مجموعة الفصائل الشيعية العراقية المنقسمة، مما يشكل تهديداً مباشراً لقاعدة نفوذ الصدر نفسه.
والآن، يجد رئيس الوزراء، حيدر العبادي، نفسه عالقاً وسط هذه الحرب الطائفية من الشد والجذب. وفي حين ما يزال رئيس الوزراء يضغط على مدى أشهر الآن من أجل تنفيذ قائمة من الإصلاحات السياسية، فقد واجه بشكل متكرر مقاومة من الفصائل الراسخة التي هيمنت على سياسة عراق ما بعد الحرب. وقد قوبل اقتراحه استبدال أعضاء مجلس الوزراء بقائمة من التكنوقراط بمقاومة مماثلة من السياسيين الذين يسعون إلى الاحتفاظ بوصولهم إلى نظام رعاية يعج بالفساد في بغداد. (يتم ملء المناصب الوزارية نمطياً على أساس نظام محاصصة طائفي).
ومع وجود الصدر مباشرة على عتبة منزله، وغيره الكثير من أنصار رجل الدين الذين تجمعوا للاحتجاج في مختلف أنحاء العاصمة، وجد العبادي نفسه مجبراً أخيراً على سحب جنود من حملة الجيش العراقي الحساسة والحاسمة من أجل استعادة الموصل، ثاني أكبر مدينة في البلاد ومركز المعقل السني في العراق.
لا بد أن تستعيد الحكومة العراقية السيطرة على مناطقها الخاصة، وربما الأكثر أهمية، كامل بنيتها التحتية النفطية. وقد أفضى الانكماش في سوق النفط العالمية إلى وضع ضغوط على خزائن العراق، وكذلك فعلت الحرب ضد “داعش”. وسوف تفضي مواجهة جديدة في بغداد فقط إلى المزيد من استنفاد حملة الموصل التي يقال إنها تعاني مسبقاً من فرار الجنود وانخفاض الروح المعنوية.
لم يكن مقتدى الصدر قد فوت أبداً أي أزمة عراقية كبيرة. ومع ما يقال من أن العبادي يندفع نحو تعديل مجلس وزرائه من أجل التصويت المهم جداً على الموافقة، فإن رجل الدين الشيعي الذكي والداهية يبدو مستعداً لعودة ناجحة، وربما لتحقيق انتصار سياسي كبير أيضاً.
علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية