ناغورنو كرباخ واختبار حدود القوة والبراغماتية الروسية

ناغورنو كرباخ واختبار حدود القوة والبراغماتية الروسية

580

يوجه استئناف القتال على نطاق واسع في منطقة ناغورنو كرباخضربة قوية للمنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية التي سعت روسيا إلى هندستها في منطقة ما وراء القوقاز وآسيا الوسطى وحوض بحر قزوين منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل نحو ربع قرن.

وتجهد الدبلوماسية الروسية منذ اللحظات الأولى لتوارد الأنباء عن بدء الأعمال العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان، على حدود إقليم ناغورنو كرباخ لوضع حد للتصعيد الجديد، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه منذ عام 1994 واستمرار حالة “تجميد الصراع” مع خروقات محدودة لا تنذر بمواجهة شاملة بين البلدين اللدودين.

نار تحت الرماد
في بداية القرن التاسع عشر كان إقليم ناغورنو كرباخ في عداد الإمبراطورية الروسية، وبعد ثورة أكتوبر/تشرين أول 1917 دخل الإقليم ضمن جمهورية أذربيجان، ولكن المؤتمر الأول للأرمن في 1920، أعلن الإقليم منطقة إدارية مستقلة، لكنه ظل تحت حكم جمهورية أذربيجان حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991.

“يحمل استئناف الأعمال القتالية في ناغورنو كرباخ أخبارا سيئة لموسكو، فالتوقيت ليس مناسبا بالمطلق مع استمرار تدخلها العسكري في سوريا، وتركيزها على التنسيق مع الجانب الأميركي من أجل الدفع بتسوية سياسية للأزمة يضمن لها جزءا كبيرا من مصالحها في سوريا”

ومع بروز بوادر تفكك الحكم الشيوعي قرر مجلس نواب الشعب في ناغورنو كرباخ وأرمينيا توحيد الإقليم مع أرمينيا في 1988، وهو ما رفضته أذربيجان التي ألغت في 1991الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به، وأرسلت لاحقا جيشها ما أدى إلى اندلاع حرب استمرت بين عامي 1992 و1994، ونتيجة لها فقدت أذربيجان الإقليم الواقع ضمن أراضيها، إضافة إلى خسارة سبعة مناطق محاذية له، وفقدت نحو خمس أراضيها وشرد نحو مليون أذري من الإقليم وساحات المعارك في المناطق التي سيطرت عليها أرمينيا.

ومنذ اتفاق بشكيك الذي وضع حدا للحرب، برعاية إقليمية ودولية، شهدت المناطق المحاذية للإقليم خروقات محدودة لوقف النار، وخاصة في فترة ذوبان الثلوج في الربيع، وفي مطلع الشهر الحالي اشتعلت الحرب مجددا بين أرمينيا وأذربيجان على نطاق واسع لتكسر حالة “تجميد الصراع” المستمرة منذ نحو 22 عاما.

انقلاب ميزان القوى
استثمرت باكو (عاصمة أذربيجان) في السنوات الأخيرة جزءا من موارد النفط والغاز لتحديث قواتها المسلحة، وتزويدها بأحدث المعدات، فيما تعاني يريفان (عاصمة أرمينيا) أزمة اقتصادية خانقة، وبالكاد تحصل على التسليح من روسيا في إطار مساعدات عسكرية وقروض ميسرة مقابل تمركز القواعد الروسية على أراضيها.

وتتفوق أذربيجان من الناحية العسكرية بتعداد الجيش، وعدد جنود الاحتياط، والإمكانات الاقتصادية، على أرمينيا. وحسب تقديرات مؤسسات روسية، يبلغ تعداد الجيش الأذربيجاني نحو 82 ألف مقاتل، مقابل 36 ألفا في الجيش الأرميني، وتملك أذربيجان 339 دبابة و279 عربة نقل مشاة، و383 مدرعة، مقابل 110 دبابات و202 عربة نقل مشاة و183 مدرعة لدى أرمينيا.

كما يتسلح الجيش الأذربيجاني بنحو 62 قاذفة صواريخ و28 قطعة مدفعية متنقلة و210 قطعة مدفعية ثابتة، في حين أن جيش أرمينيا يملك 51 قاذفة صواريخ و38 قطعة مدفعية متنقلة و131 قطعة مدفعية ثابتة. وفي مجال الطيران، يتكون الأسطول الأذربيجاني الحربي من 41 طائرة مقاتلة، مقابل 16 طائرة فقط لدى الجانب الأرميني.

كما أن استمرار الحرب وتوسعها سوف يفرض ضغوطا إضافية على النظام الاقتصادي والاجتماعي المنهك أصلا في أرمينيا، وإضافة إلى النفقات الحربية سوف تضطر أرمينيا لاستقبال أعداد كبيرة من النازحين عن مناطق الصراع في حين أن معظم الأذريين غادروا الإقليم والمناطق المحيطة به منذ بداية التسعينات من القرن الماضي.

خيارات روسية صعبة
يحمل استئناف الأعمال القتالية في ناغورنو كرباخ أخبارا سيئة لموسكو، فالتوقيت ليس مناسبا بالمطلق مع استمرار تدخلها العسكري في سوريا، وتركيزها على التنسيق مع الجانب الأميركي من أجل الدفع بتسوية سياسية للأزمة يضمن لها جزءا كبيرا من مصالحها السياسية والاقتصادية في تركيبة الحكم المستقبلية في سوريا.

كما يحرم هذا التصعيد موسكو جهودا دبلوماسية كان يمكن استثمارها في حل قضية شرق أوكرانيا مع بروكسل وواشنطن، والمضي في جهودها لرفع العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ ضم القرم، والتي أدخلت البلاد في أزمة اقتصادية خانقة تنذر بانهيار بعض القطاعات، وتفجر الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية على أبواب الانتخابات البرلمانية خريف العام الحالي.

“حساسية الموقف الروسي تكمن في أن عدم مساعدة أذربيجان يمكن أن تقربها أكثر من تركيا، التي أكدت في أكثر من تصريح أنها تدعم مطالب باكو بتحرير أراضيها وترغب في أن تنتصر على يريفان. وقد تزيد باكو تنسيقها مع واشنطن وبروكسل وخاصة في قضايا نقل الغاز والنفط من حوض بحر قزوين إلى أوروبا من دون المرور بروسيا”

ومن الواضح أن التصعيد الحالي لا يصب في مصلحة روسيا. ويخضع دور روسيا كضامن للأمن والاستقرار في منطقة ما وراء القوقاز وحوض بحر قزوين لاختبار جدي وصعب، لمدى قدرتها على الاستمرار في لعب هذا الدور في حال تواصل الصراع أو اتسع.

ولا تسيطر روسيا على سير العمليات العسكرية، ولا تستطيع إجبار أي من أرمينيا أو أذربيجان على وقف القتال، وفي الوقت ذاته لا تستطيع دعم أي منهما عسكريا، فباكو نسجت علاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع موسكو في السنوات الأخيرة، كما عقد الطرفان صفقات لتزويد الجيش الأذري بأسلحة حديثة، وينسق الطرفان جهودهما في مجالات النفط والغاز واستغلال ثروات بحر قزوين. وفي المقابل فإن روسيا تحتفظ بقاعدة عسكرية مهمة في أرمينيا، وتزودها بالأسلحة.

حساسية الموقف الروسي تكمن في أن عدم مساعدة أذربيجان يمكن أن تقربها أكثر من تركيا، التي أكدت في أكثر من تصريح أنها تدعم مطالب باكو بتحرير أراضيها وترغب في أن تنتصر على يريفان. وقد تزيد باكو تنسيقها مع واشنطن وبروكسل وخاصة في قضايا نقل الغاز والنفط من حوض بحر قزوين إلى أوروبا من دون المرور بروسيا، مما يشكل ضربة لدبلوماسية الطاقة الروسية التي عمل عليها الكرملين منذ صعود فلاديمير بوتين.

ولا ترغب موسكو في خسارة نفوذها شبه المطلق على يريفان المعتمدة عليها اقتصاديا وعسكريا، ودفعها إلى أحضان الولايات المتحدةوالاتحاد الأوروبي، خاصة أنها تقع على مفترق طرق نقل الطاقة من آسيا الوسطى وبحر قزوين، وفي خاصرتها الرخوة في القوقاز، فخسارة أرمينيا بعد جورجيا تدمر كامل المنظومة الأمنية في “حديقة الكرملين الخلفية”، وتهدد بخلل المنظومة الأمنية داخل روسيا ذاتها.

المستفيد من التصعيد
أثار التصعيد في ناغورنو كرباخ جدلا واسعا في موسكو، وأبرز خلافات عميقة بين النخب السياسية والاعلامية في تحديد المسؤولية، والمستفيد من تجدد الأعمال القتالية، وكيفية تعامل روسيا بعد تفجر الأزمة. وتجمع التحليلات على أن استمرار الحرب أو خروجها عن نطاقها احتمال مرتفع ولا يصب بالمطلق في مصلحة موسكو.

ويذهب قسم من الإعلاميين والخبراء إلى تحميل واشنطن المسؤولية عن إثارة الصراع من جديد، وكشاهد على ذلك يلفتون إلى أن رئيسي البلدين كانا في واشنطن تزامنا مع استئناف القتال، ويرى أصحاب هذا الرأي أن واشنطن تريد أن تخفف من حجم إنجازات بوتين “الكبيرة” في سوريا والقرم، ولا تريد عودة روسيا إلى سابق عهدها كقوة عظمى، ولهذا دفعت نحو اندلاع الحرب في هذه المنطقة الحيوية لروسيا.

لكن خبراء آخرين يشيرون إلى أن إدارة الرئيس باراك أوباما نسقت مواقفها مع الكرملين في الموضوع السوري، وأن أوباما لن ينهي فترته بمواقف وسياسات جديدة مخالفة لما دأب عليه طوال السنوات الثمانية الماضية التي شهدت انسحاب واشنطن من عدة مناطق في العالم.

ويطال الجدل دور تركيا في إثارة النزاع من جديد. وفي وقت تنفي فيه موسكو رسميا أي دور لتركيا في تجدد العمليات العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان، فإن بعض محللي وسائل الإعلام الروسية ذهبوا إلى أن تركيا متورطة ضمن “محور أميركي صهيوني” من أجل إضعاف دور روسيا، والهروب إلى الأمام بعد “الخيبة في سوريا، وعدم القدرة على مواجهة الإرهاب داخليا”. وفي المقابل يرى خبراء في موسكو أن التصعيد لا يخدم تركيا على المدى البعيد رغم عداوتها التاريخية مع أرمينيا، وثقتها برجحان كفة حليفتها أذربيجان عسكريا.

بنظرة أعمق للأحداث؛ تركيا غير معنية بتوسع الصراع مع موسكو خاصة في ظل وجود مؤشرات إلى تقارب يمهد له اعتقال المتهم بقتل الطيار الروسي في حادثة السوخوي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ولو على ذمة قضية أخرى، واهتمام روسيا بتسريبات تشير إلى ضلوع محسوبين على الداعية الإسلامي فتح الله غولن في قضية إسقاط الطائرة بدعم أميركي لتوتير العلاقات مع موسكو، ومنح شركة تركية امتياز تطوير أكبر مطار في موسكو.

“ستسعى روسيا إلى التنسيق مع أنقرة لاستخدام نفوذها في باكو ما قد يسهم في كسر الجليد بين البلدين، وربما اضطرت إلى القبول بمشاركة تركيا في إطار مجموعة مينسك في تسوية قضية كرباخ، ما قد يمهد لنزولها عن سقف مطالبها العالي لتسوية الأوضاع مع تركيا”

ومن المؤكد أن روسيا سوف تسعى إلى التنسيق مع أنقرة من أجل استخدام نفوذها في باكو ما قد يسهم في كسر الجليد بين البلدين، وربما اضطرت إلى القبول بمشاركة تركيا في إطار مجموعة مينسك في تسوية قضية كرباخ، وهي التي تضم إضافة إلى روسيا الولايات المتحدة وفرنسا، ما قد يمهد لنزولها عن سقف مطالبها العالي لتسوية الأوضاع مع تركيا، وربما تعاونا أكبر في عدد من القضايا.

اللافت أن خبراء وضعوا سيناريو يظهر فيه الرئيس الروسي بوتين وراء تجدد الأعمال القتالية حتى يكشف عجز واشنطن في المنطقة، ويثبت أنه صانع السلام الحقيقي، ويتوصل إلى اتفاق جديد يتم بموجبه إدخال قوات حفظ السلام الروسية إلى كرباخ.

اختبار قوة روسيا
أيا كانت أسباب والأطراف المستفيدة فإن خروج الصراع عن حدوده سيؤدي إلى عواقب غير محمودة بالنسبة للأمن الإقليمي في منطقة ما وراء القوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى.

وربما استغلت باكو قوتها العسكرية، والأجواء الدولية والإقليمية لشن هجوم من أجل تحرير ناغورنو كرباخ والمناطق المحاذية له، لكن هذه العملية -على الأرجح- لن تكون أكثر من محاولة للتذكير مرة أخرى بأن النار مازالت مشتعلة تحت الرماد بعد أكثر من عقدين على الحرب التي أفقدتها جزءا كبيرا من أراضيها، وأنها ستواصل العمل على استرجاع الإقليم.

ومن المرجح أن لوبي أرمينيا القوي في واشنطن وبروكسل سيضغط باتجاه إطفاء الحريق بسرعة، وعدم منح باكو فرصة لاستغلال تفوقها العسكري، وترجمته على الأرض، ولا يُستبعد أن تضطر موسكو إلى التنسيق مع تركيا، على مبدأ “أهون الشرين”، من أجل التوصل إلى حل يعيد تجميد النزاع، ويمنع بروز حرائق جديدة في القوقاز وجنوب روسيا،وهو ما يعاكس تماما توجه “الصقور” في دوائر صنع القرار والحرب الإعلامية في موسكو.

ومن المؤكد أن الأزمة تمثل اختبارا حقيقيا لقوة موسكو في الفضاء السوفيتي السابق ولقدرتها على إدارة هذه الأزمات أو حلها، كما تمثل اختبارا لبراغماتية موسكو في التعامل مع القوى الإقليمية والدولية المعنية والمشاركة بنزاع ناغورنو كرباخ.

سامر إلياس

الجزيرة نت