بعد تراكم عوامل عديدة لعقود، أسهمت في تآكل شرعية الدولة العربية، انهارت هذه الدولة، أو ضعفت سطوتها في أكثر من قُطْرٍ عربي كبير. بات مستقبل الكيانات القُطرِية مهدّداً، بعد أن ظن محللون أن هذه الكيانات صارت متجذّرة وغير قابلة للتغيير، وأن سايكس – بيكو ومثيلاتها رسمت حدوداً غير قابلة للكسر والتجاوز، فإذا بالانهيارات المتتالية لعدة دول عربية تؤكد هشاشة الكيانات والحدود. عندما تواجه هذه الكيانات خطر التقسيم والتفتيت، تصبح الأولوية هي التأكيد على وطنياتٍ قُطرية، سورية وعراقية وليبية، فيما الحديث عن أي شكل من الوحدة العربية أقرب إلى الهذيان في هذه المرحلة التي أصبح عنوانها الحفاظ على الوحدة داخل الكيانات القائمة.
قام مفكرون عروبيون بارزون بمراجعات عديدة للفكر القومي العربي، أدت، في ما أدت، إلى نوعٍ من المصالحة مع الدولة القُطرية، واعتبار تمتينها وتعزيز الهوية العربية فيها مدخلاً إلى اتحادٍ عربي غير اندماجي، ينتج تكاملاً بين الدول العربية في مجالات الاقتصاد والأمن والدفاع والسياسة الخارجية، فيما توقفت الأصوات العروبية البارزة عن المطالبة “الراديكالية” بوحدة عربية اندماجية، تنصهر فيها الكيانات القائمة داخل دولةٍ واحدة.
اليوم، تقف هذه الأصوات موقف المناهض لتقسيم المُقَسَّم، وهي تنحاز للكيانات والدول القائمة في وجه مخاطر التفتت، وهذا ضروري وفق المنطلقات القومية، لكن كثيراً من هذه الأصوات العروبية يفوّت فرصة إعادة مطلب الوحدة العربية إلى طاولة النقاش مجدداً، فليس الحديث عن الوحدة العربية اليوم هذياناً، بل ضرورةً لمواجهة استحقاق إعادة بناء شرعية الدولة في الوطن العربي.
كشفت الأحداث المتسارعة، في السنوات الأخيرة، عن ضعف الدولة العربية، في غياب المأسسة عنها، كما في غياب هويةٍ جامعة لمواطنيها. استندت الهويات القُطرية، غالباً، إلى محتوى “متحفي”، يوجد فقط في المتاحف وأماكن الآثار السياحية، ولا أثر له في حياة الناس ووجدانهم، فالهويات البابلية والسومرية والسريانية لم تشكل وجداناً مشتركاً، ولا ذاكرة مشتركة، وعلى الرغم من كل الادعاءات حول وطنيةٍ سوريةٍ أو عراقيةٍ متجذرة في التاريخ، تبيّن أن هذه الهويات خاوية، وأنها غطاء للهويات المذهبية والعشائرية والجهوية.
من يتحدّث عن فشل العروبة، بسبب نظامي الحكم البعثيين في العراق وسورية، يتجاهل أن العروبة لم تكن هويةً فاعلة في الدولتين، لأن أنظمة الحكم البعثي استخدمت العروبة غطاءً تبريرياً، في الوقت الذي اعتمدت فيه على العصبوية العشائرية، لتثبيت حكمها. لم يكن حزب البعث سوى واجهة للحكم، وتم إبعاده عن السلطة تدريجياً في عهدي الرئيسين، صدام حسين وحافظ الأسد، إذ إن الرئيسين اعتمدا على الولاءات العشائرية في تثبيت حكميهما، وانتهيا إلى حكم العائلة محاطاً بالعشيرة، وقد كانت العروبة خطاباً أيديولوجياً، فيما العشائرية هي الهوية الفاعلة في تشكيل السلطة.
تقويض حزب البعث، الحزب القومي الحداثي (بغض النظر عن تقييم تجربة الحزب وسلوكه)، لمصلحة صيغةٍ عشائريةٍ، ما قبل حديثة للحكم، وقمع الأحزاب الحديثة، والتناقض بين القومية الحداثية في الخطاب والعشائرية التقليدية في تركيبة الحكم وممارساته، كلها أدت إلى تسييس الهويات الأولية، وبالذات الهوية المذهبية، إذ انبرت الحركات الإسلامية الطائفية في العراق وسورية إلى تفسير العشائرية الحاكمة من منظور طائفي، واتهمت النظامين بالطائفيّة لتبرير طائفيتها بوصفها حركاتٍ إسلامية تعتمد مذهباً محدداً، تحشد وتجنّد على أساسه، وفي إطار صراعٍ طائفي مع السلطة.
حين تآكلت الدولة وانهارت في البلدين، تكشّفت سيادة الهويات الطائفية والعشائرية، وخواء الهويات القُطرية، وهشاشة الحدود التي ذابت عملياً بين البلدين، وهي التي تم تركيبها اعتباطياً من المستعمرَين البريطاني والفرنسي، غير أن الأحداث كشفت، أيضاً، عمق الهوية العربية على المستوى الثقافي، وقدرتها على صناعة وجدانٍ عام، ورسم فضاءٍ موحّد، تتحرك في إطاره الأنظمة والنخب والجماهير العربية.
بدءاً من الحراك الجماهيري في الثورات العربية عام 2011، ووصولاً إلى الفوضى القائمة والحروب الأهلية، تبيّن عمق الهوية العربية، من دون أن تحصل ترجمةٌ سياسيةٌ لها ضمن مشروعٍ في المنطقة، وسط هيمنة مشاريع الصراع الطائفي، لكن الخيار يظل بين الهوية العربية التي تجمع الغالبية الساحقة من شعوب هذه المنطقة، بوجدانٍ وثقافةٍ وذاكرةٍ حيةٍ مشتركة، وتعريفٍ واضح للأمة والصديق والعدو، وبين هويات جماعاتٍ مذهبية، ترسم حدودها الثقافية والوجدانية والسياسية، وربما الجغرافية لاحقاً، في مواجهة جماعاتٍ مذهبية أخرى.
ليس من الهذيان، والحالة هذه، الحديث عن الهوية والوحدة العربية حلاً لأزمة الدولة في جانب هويتها، ليُضاف إلى حلولٍ أخرى، تتعلق ببناء المؤسسات وتبني المواطنة، وفتح المجال العام وتغيير نمط الاقتصاد وغيرها. لم تعد الحلول الترقيعية لكيانات سايكس – بيكو مجديةً، ولا يمكن استحداث وطنياتٍ عراقيةٍ وسوريةٍ بدون الهوية العربية، بما يعني أن الطرح العروبي يمكنه تحويل خطر التقسيم إلى فرصة الوحدة، ليس فقط عن طريق تبني الهوية العربية هويةً للدولة القُطرية، بل أيضاً عن طريق العودة إلى الحديث عن الوحدة العربية، وتغيير حدود سايكس – بيكو التي هُدمت بالفعل، وعدم المطالبة بإعادتها، وإنما الدفع نحو تقليصها لصالح تكامل عراقي سوري، وربما نوعٍ من الدمج بين البلدين، وتكاملٍ عربي عام، لأن الصيغة السابقة لهذه الكيانات غير قادرة على الصمود.
بدر الإبراهيم
صحيفة العربي الجديد