لعل أهم ما يفيد ذكره بعد مرور ثلاثة عشر عاما على جريمة احتلال العراق هو اعترافات قادة الاحتلال وأركانه باعتذارهم أمام العالم بخطأهم التاريخي في ارتكاب تلك الجريمة ونتائجها الكارثية، والتي تتراكم يوميا في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن المفيد التذكير بتلك الحقائق أمام الرأي العام العراقي والعربي، خصوصا أن أبطال مسيرة التدهور الشامل والفوضى في الحياة العراقية الذين جلبهم المحتل ونصبهم مازالوا مستمرين ومصرّين على اللعب بمقدرات الشعب العراقي، ويبدو أن تلك الشهادات والاعترافات حصلت خلال العام الماضي 2015.
أهم تلك الاعترافات ما أعلنه الرئيس الأميركي أوباما بتاريخ 5 أغسطس 2015 بقوله “الحرب على العراق كانت خطأ كبيرا، وقتل عدو إيران اللدود صدام حسين ساهم بشكل كبير في مضاعفة قوة إيران في المنطقة”، ومعلوم أنه سبق له ادّعاء وقوفه ضد تلك الحرب خلال فترة ترشيح نفسه للرئاسة، وأدان عقلية الحرب بعد تسلمه الرئاسة لكنه لم يعمل شيئا على مستوى الواقع لرفع الأذى الذي لحق بالعراقيين من بطش الاحتلال العسكري.
الاعتراف الآخر المهم هو تصريحات شريك جورج بوش في تلك الحرب رئيس وزراء بريطانيا توني بلير حيث قال “إنه ارتكب خطأ عندما قرر مع بوش غزو العراق عام 2003” أما مايكل فلين، قائد العمليات الحربية الاستخبارية الأميركية في العراق، فقد صرح لصحيفة ديرشبيغل بتاريخ 29 نوفمبر 2015 “غزو العراق وقتل صدام كان خطأ فادحا سيحاسبنا عليه التاريخ”.
الاعتراف الآخر صرح به قبل أيام السفير الأسبق في العراق زلماي خليل زادة مهندس الاحتلال وعضو الارتباط بين واشنطن وطهران في التمهيد لاحتلال العراق، فقد قال بأن قرار حل الجيش العراقي “تم في بغداد من قبل بول بريمر ولم يخضع للنقاش داخل البيت الأبيض”، وإن زادة حسب ادّعائه قد تحدّث في حينه مع مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول، وقد أبلغوه ما نقلوه عن بريمر بأن الجيش العراقي قد حل نفسه بنفسه، وهذه كذبة كبرى لأنه لو كان قرارا فرديا من قبل الحاكم بريمر، وهو أمر مستبعد، لاستطاع الرئيس جورج بوش إلغاءه. ولكن الواقع هو أن قرار حل الجيش العراقي لم يكن وليد مزاج بريمر، وقد ذكر في مذكراته “عام قضيته في العراق” بأنه سمع تشجيعا من قيادة مسعود بارزاني وكذلك من القيادات الشيعية العراقية لتنفيذ ذلك القرار.
بعد هذا الإجراء الكارثي فتحت حدود العراق التي كان يحميها هذا الجيش الوطني أمام المتسللين من الحدود الشرقية ومن كل حدب وصوب لإشاعة الفوضى والقتل في البلاد، وتحويل العراق إلى حقل لكل المخابرات العالمية ومن بينها الإسرائيلية. وتحولت عوائل أربعمئة ألف منتسب عسكري تم تسريحهم إلى الفاقة والبطالة، ثم باشر المحتل إنشاء جيش من الميليشيات لم تستطع فرق كبيرة منه الصمود أمام الإرهابيين الداعشيين في الموصل والأنبار وصلاح الدين.
قرار حل الجيش الوطني كان سببا مباشرا لدخول داعش إلى العراق، كما أن غياب المؤسسة العسكرية الوطنية ساعد على تمادي الأحزاب الإسلامية الشيعية في السلطة، فالجيش الوطني يحمي الناس وحقوقهم في الأزمات والكوارث. ولعل أوباما أكد هذه الحقيقة حين تراجع عن تنفيذ الضربات الجوية على أوكار نظام بشار الأسد عام 2012 لكي لا تجد المعارضة السورية طريقها السهل إلى الحكم رغم أنها أكدت على بقاء الجيش السوري وجميع المؤسسات بعد التغيير المنشود، لكن أوباما، وحاشيته ومستشاريه، لم يجدوا في قادة مشروع الحكم السوري القادم من يتلاءم ودعواتهم للتقسيم الطائفي مثلما حصل في العراق.
اعترف أوباما بأن الحرب على العراق كلفت الخزانة الأميركية تريليون دولار، لكنه لم يعترف بأن تلك الحرب خلّفت مليون قتيل عراقي حسب إحصائيات منظمات مستقلة، ولو كان أوباما صادقا في دعاواه الإنسانية لقرر إعادة حقوق العراقيين وفق القانون الدولي الذي يلزم “الدولة المحتلة” لبلد آخر بتعويض المتضررين أو عوائلهم لا أن يُحرم حتى أولئك الذين فضحتهم جريمة أبوغريب المشهورة من حقوقهم، وكذلك عشرات الألوف ممن أصابتهم الأمراض السرطانية بسبب الأسلحة المغطاة باليورانيوم، أو تعويض عشرات الألوف من النساء العراقيات الأرامل أو اللائي أنجبن أطفالا معلولين، أو السماح ودعم إقامة دعاوى عوائل المئات من العلماء والأطباء والمهندسين الذين اغتالتهم فرق الموت في ظل الاحتلال، إنها قائمة طويلة من الانتهاكات الصارخة ضد حقوق الإنسان نفذتها قوات الاحتلال خلال ثماني سنوات.
فلماذا كل هذه المغالطة التاريخية التي يحاول أوباما إيهام الرأي العام الأميركي والعالمي بها. لقد كرس أوباما سياسة سلفه بوش في العراق في الجانب السياسي، والأهم من ذلك كلّه هو دعمه للنظام الطائفي القائم بكل الوسائل، وقد أعلن السفير زلماي خليل زادة في ذات المقابلة أنه هو الذي رشح نوري المالكي للسلطة عام 2006 فقد كان يعتقد فيه المقدرة في فترة حكمه الأولى حسب وصفه.
ألم يكن الأميركان يتحملون المسؤولية الأولى تجاه شعب العراق، أليسوا هم من جلبوا الإرهاب إليه، يقول الكاتب الأميركي بينجامين نورتن “الاحتلال الأميركي وليس صدام كان السبب في ظهور تنظيم القاعدة وداعش”، وهل توجد أسس للمقارنة بين واقع العراق قبل 2003، نزولا إلى بداية تأسيسها عام 1921 وما بعد 2003؟ كانت الدولة قبل هذا التاريخ تضم مؤسسات مهمتها بناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية وكوادر يتمّ التعب عليها بالتأهيل والتدريب الداخلي والخارجي، وهنا الكلام عن محتوى الدولة ونظامها المؤسساتي وليس السياسي. فلم يكن يعرف رئيس هذه المؤسسة أو تلك من هو الشيعي أو السني أو الكردي أو التركماني أو المسيحي داخل مؤسسته. كان هناك أمن عام وحدود لا تجرؤ أحد على اختراقها، وقبل الحصار كان الأمن الغذائي والصحي والتربوي متوفر في البلاد بنسب عالية، وبعد الحصار وضعت نظم ضامنة للأمن الغذائي، أما حصيلة نظام الحكم بعد 2003 فهي:
– حسب بعثة المنظمة الدولية للهجرة في العراق عدد النازحين منذ عام 2014 بسبب احتلال داعش ثلاثة ملايين، وهم ينحدرون من محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى، وعدد المهاجرين أربعة ملايين، وربع سكان العراق تحت خط الفقر.
– ثلث مساحة العراق تحت سيطرة داعش وجيش منهك، وانعدام للأمن والأمان.
– ميليشيات متورطة في أعمال القتل والتخريب والتغيير الديموغرافي.
– عجز مالي في الميزانية بنسبة 30 بالمئة وإفلاس حكومي يتمّ استقطاعه من رواتب الموظفين بسبب انخفاض أسعار النفط.
– اتهام لمسؤولين كبار في النظام بصلتهم باختفاء مليارات الدولارات من ميزانية الحكومة.
– تفكك وتناحر سياسي طوائفي بين أطراف المثلث الطائفي، وداخل البيت الشيعي على زعامة السلطة.
– الأميركان صنعوا بديلا طائفيا لحكم العراق وندموا على تلك الفعلة لكنهم لا يصححونها.
– صعوبة بناء جيش وطني مهني في العراق في ظل هيمنة الميليشيات.
– الأكراد يعيشون في دولة شبه مستقلة ومن الصعب على حكومة بغداد إخضاعهم لإرادتها بسبب تحالفهم الوثيق مع الأميركان.
– تشتت العرب السنة بسبب قياداتهم الهزيلة، والأميركان يعرفون هذه الحقيقة لكنهم لا يريدون إيجاد بدائل من قيادات عربية سنية ليبرالية تتحالف مع مثيلاتها من العرب الشيعة. السنة لديهم شعور بأن نتائج حرب داعش لن تكون لصالحهم ولن تنقذهم من التهميش والاستبداد.
– داعش سيتفكك وينهزم ولن ينشئ دولة خلافة لأنه فقد حاضنته الاجتماعية ولن تكون له حصة في الانهيارات بالمنطقة.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية