عندما كان الرئيس أوباما يقدم كشف حساب عمّا تحقّق من انتصارات على «داعش» و«القاعدة»، كان باحثون استراتيجيون آخرون يقولون: لكنّ ضرب «داعش» وتحجيمه بالعراق وسوريا لا يجعل أوروبا في مأمن. فالداعشيون تستطيعُ شبكاتُهم الضربَ في أوروبا من خلال الأنصار مهما بلغت قِلّتُهُم. لذلك فالمشكلة هي مشكلةٌ مع شبان المسلمين في كل مكان، والذين يستطيع أحدهم أن يقرر فجأةً تفجير نفسه في الحضارة الغربية!
أوباما يرى تقدماً محسوساً في مكافحة «داعش» وبخاصة في العراق. لكن الوضع السياسي في العراق انهار عندما فقد معظم النواب ثقتهم بمحاولات العبادي الإصلاحية. هناك 170 نائباً (من 328) يريدون الخلاص من الرئاسات الثلاث، وقد بدؤوا بمن يمونون عليه في نظرهم وهو رئيس مجلس النواب، فقد تسربت تشكيلة أُولى لحكومة التكنوقراط، حظيت ببعض الرضا وبخاصة من جماعة الصدر. إنما بعد اجتماع العبادي برؤساء الكُتَل، وبأقطاب «حزب الدعوة»، قدّم تشكيلة أُخرى وقّع عليها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، وتيار عمار الحكيم؛ فأثار ذلك حفيظة النواب (ومنهم إياد علاوي)، والذين ذهبوا إلى أن المحاصصة عادت تحت ستار التكنوقراط! وبحسب الدستور فإن الكتل السياسية هي التي تشكل الحكومة، وهذه الكتل تأبى أن يتولى الوزارات أُناس لا تعرفهم أو ليسوا منها، وهذه محنة لرئيس الحكومة، لأنه إنْ حظي باستحسان الصدر والنواب، غضبت عليه الكتل السياسية في حزبه وخارجه، وغضب عليه الأكراد، وإن أرضى الكتل السياسية غضب عليه النواب أو معظمهم. إن الذين اعتصموا بمجلس النواب (=171) ليسوا جميعاً من المستقلين أو المتنزهين؛ بل منهم أعضاء في «حزب الدعوة» يريدون إحراج العبادي لإخراجه، والأكراد لا يريدون استبدال ممثليهم في الحكومة؛ بينما الكتل السياسية الأخرى ترغم العبادي على مُراعاة مصالحها! أما النواب السنة، وبين المعتصمين مجموعات وازنة منهم؛ فهم ساخطون، لأنهم يأتون من محافظات مهجَّرة أو تحكمها «داعش»، ويراد منهم القبول بتسوية لا تصحح شيئاً، ولا تشي بأي أمل في الخلاص من التركيبة التي أنشاها الاحتلال عام 2003.
إن هذا الوضع بالعراق لا يَسُرّ الأميركيين، الذين يريدون من العراقيين التركيز على «داعش»، وبعدها لكل حادث حديث، ولا يَسُرُّ الإيرانيين لأنّ المجموعات التي صنعوها هي التي ثار السخط عليها من جانب مرجعية السيستاني، ومن جانب جمهور عريض، فبمن تسيطر في العراق إذا زال هؤلاء؟! لذلك فالمأزق السياسي والأمني مستحكم، ولا حلَّ له في الأُفق، وبخاصة أن حلَّ مجلس النواب لإجراء انتخابات جديدةٍ دونه خرط القتاد!
ولنمضِ إلى سوريا، فـ«داعش» يتراجع، لكن «النصرة» تتقدم. المعارضة استعادت بعض ما فقدته بالطيران الروسي. إنما وسط التوازُنات التي صنعها التدخل الروسي، تزداد آمال النظام بالبقاء، وهو يستورد مقاتلين من العراق وأفغانستان وباكستان وإيران. ووسط هذه الحشود، لماذا يدخل النظام في مفاوضات من أجل الانتقال السياسي، وقد أجرى اليوم انتخابات، ويستطيع إجراء مثائل لها غداً!
أما حكومة السراج في ليبيا ومجلسها الرئاسي، فقد دخلت طرابلس، وقد تذهب إلى طبرق، لكنْ وقبل الحديث عن مصارعة «داعش» وسط تحيات وزراء الخارجية الأوروبيين: ماذا عن ميليشيات «فجر ليبيا» المسيطرة في طرابلس ومصراتة؟ وماذا عن الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال حفتر، والذي لم يقل شيئاً بعد عن الوضع الجديد؟!
إن المشكلات لا تنحصر في انتشار الدواعش وأشباههم أو في الميليشيات المسلَّحة من كل لون؛ بل هناك الهشاشةُ السياسيةُ الهائلة في البرلمانات والحكومات، والتي يتشاجر أعضاؤها على كل شيء بما في ذلك القاعات التي ينبغي أن يجتمعوا فيها! وهذا الوضع سائد في لبنان والعراق وليبيا، أمّا في سوريا فالرئيس الأسد يستطيع إجراء انتخابات كل يوم، وتشكيل الحكومات كما يشاء في دمشق، إنما ليس في جوارها!
الخبراء الاستراتيجيون يزعمون أن ضرب الدواعش بالعراق وسوريا، لا يحمي أوروبا من الانتحاريين، ولا من المهاجرين. وإذا كان هذا صحيحاً، فالصحيح أيضاً أنه ليس هناك من يعتبر نفسَه مسؤولاً من السياسيين المتبقّين بعد كل تفجير، عن مصائر البلدان والأوطان. يقول المثل: النار لا تحرق إلاّ في موضعها، لكنّ الشاعر يقول أيضاً:
والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!
رضوان السيد
صحيفة الاتحاد