تثير شخصية الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما الجدل من نقطتين أساسيتين: الأولى كونه أول رئيس أسود للولايات المتحدة، والثانية جذوره الإسلامية. وستظل حقبة رئاسته للولايات المتحدة الأميركية مختلفة عن كل الحقب الرئاسية المتعاقبة على حكم أكبر دولة في العالم.
المفارقة أن الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه ويحكم باسمه أوباما، كان عند نشأته حزبا ذا توجه محافظ يحمي مؤسسة العبودية قبل أن تندلع الحرب الأهلية الأميركية في 1862؛ إلا أن تحولا جذريا طرأ على الحزب بعد انتخاب الرئيس فرانكلين روزفلت في 1932، من حزب محافظ ليصبح ممثلا للتيارات الليبرالية ومناصرا للنقابات العمالية وللتدخل الحكومي في الاقتصاد، بينما تشير الخلفية التاريخية للحزب الجمهوري المنافس إلى دوره في تبني السياسات التي أفضت إلى تحرير الأميركيين من أصل أفريقي من العبودية، حيث إن فكرة تأسيس الحزب انبثقت من تحرير العبيد في القرن التاسع عشر.
ولعل أوباما بلونه وبجذوره المسلمة فيه شيء ما يجذب جزء من الأفارقة والمسلمين إليه، لاسيما من اكتسب منهم الجنسية الأميركية وعاش في أميركا، فمنذ الإعلان عن فوزه رئيسا في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2008 عاشت تلك الشعوب نشوة الانتصار، وعند تنصيبه رسميا في 20 يناير/كانون الثاني 2009، كان المشهد مبهرا وكاد ينطلق لسان البعض مهللا ومكبرا، بيد أن أولئك كانوا كمن يهيم في الأحلام تدفعه عاطفة جياشة ريثما يتنبه لواقعه المؤلم فيبكي وينشد مرثية عصماء.
الخلفية المركبة
ولد أوباما في الرابع من أغسطس/آب 1961، في هونولولو، بهاواي لأب كيني مسلم وأم أميركية بيضاء مسيحية من ولاية كانساس الأميركية، وبعد انفصال والداه عاد الأب إلى كينيا، وانتقل أوباما مع أمه إلى جاكرتا صغيرا بعد أن تزوجت طالبا أندونيسيا مسلما كذلك، وانتظم أوباما في تلك الفترة لمدة سنتين في مدرسة إسلامية، ثم التحق بعد ذلك بمدرسة مسيحية كاثوليكية.
“يشعر الكثيرون بالشفقة تجاه أوباما وهو يعيش حالة من التنازع الداخلي سياسيا واجتماعيا، ويسعى حثيثا لنيل رضى السود والبيض في آن واحد في مجتمع مازال يرزح في ظلام العنصرية المستترة في كثير من الأحيان والظاهرة أحيانا أخرى”
وتقول جدة أوباما: “نحن عائلة مسلمة لكن باراك حفيدي اعتنق المسيحية، ديانة والدته وتزوج في الكنيسة بشيكاغو“. ومعلوم أن أوباما اعتنق المسيحية -بحسب طائفة كنيسة المسيح المتحدة- في عام 1995. ويصر باراك على تأكيد مسيحيته باستمرار، وسط جدل كثيف ومستمر حول ديانته، حيث يبدو أحيانا كثيرة وكأنه يدفع عن نفسه تهمة رغم أنه في مجتمع يؤمن نظريا بحرية الاعتقاد.
ويظهر استطلاع أجرته سي أن أن مؤخرا أن 29% من الأميركيين يعتقد أن أوباما مسلم، وترتفع هذه النسبة بين المؤيدين للحزب الجمهوري حيث تصل إلى 43% وتصل النسبة ذروتها عند مؤيدي المرشح ترامب، لتصل إلى 54%.
ويشعر الكثيرون بالشفقة تجاه أوباما وهو يعيش حالة من التنازع الداخلي سياسيا واجتماعيا، ويسعى حثيثا لنيل رضى السود والبيض في آن واحد في مجتمع مازال يرزح في ظلام العنصرية المستترة في كثير من الأحيان والظاهرة أحيانا أخرى.
ففي مقابلة معه في العام 2006 قال أوباما عن تنوع أسرته الكبيرة: “إن الأمر يشبه قليلا الأمم المتحدة المصغرة، وإنه لديه أقارب يشبهون بيرني ماك وآخرون يبدون مثل مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق. وفي كتابه “أحلام من أبي 1995” قام بربط تاريخ العلاقات الأسرية لوالدته بتاريخ بعض الأجداد الأميركيين الأوائل، وحتى إلى أقارب جيفرسون ديفيس رئيس مجلس الولايات الأميركية خلال الحرب الأهلية الأميركية.
ظل أوباما أكثر الرؤساء الأميركيين اهتماما بالعالم الإسلامي وقطع وعودا في حملته الانتخابية الأولى في 2008 بـ”مد يد الصداقة إلى العالم الإسلامي” وأنه سوف يوجه خطابا خاصا إلى المسلمين، من عاصمة إسلامية كبرى خلال أول مائة يوم من توليه الرئاسة. وأوفى بوعده وألقى في أبريل/نيسان 2009 كلمة في أنقرة بتركيا قوبلت بالترحيب من قبل العديد من الحكومات العربية، واستبق زيارته بتصريح قال فيه: “سوف نعبر عن تقديرنا العميق للدين الإسلامي الذي ساهم في صياغة عالم أفضل، بما في ذلك بلادي، عبر قرون عديدة”. وفي 4 يونيو/حزيران من نفس العام ألقى أيضا كلمة سُميت “بداية جديدة” بجامعة القاهرة.
وفي زيارة قام بها إلى ماليزيا دعا أوباما الإمام الأكبر هناك لأن يدعو له كي يستطيع وقف قمع المسلمين حول العالم. وكشف الإمام عن أن أوباما ردد خلال زيارته لأحد المساجد عبارات مثل “إن شاء الله”. وافتتح أوباما كلمة له بتحية الإسلام (السلام عليكم) (باللغة العربية) وذكر الآية القرآنية “اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدا” (الآية 70 من سورة الأحزاب.
“مهما طغى اللون الرمادي على حقبة أوباما، فإن تجربة الرجل تظل تجربة فريدة باعتباره أول رئيس أسود له جذور إسلامية لأكبر دولة في العالم. فاللون الرمادي قد يكون مرحلة متقدمة على اللون الأسود الذي ظل طاغيا على حقب ما سبقوه من رؤساء لأميركا”
وتناقلت العديد من وسائل الإعلام الأميركية ردود أفعال سياسية وشعبية وإعلامية حول تأييد أوباما بناء “مسجد قرطبة” قرب موقع هجمات 11 سبتمبر/أيلول، معتبرا ذلك حق من حقوق المسلمين المكفولة في الولايات المتحدة، استنادا للدستور الذي يحمي جميع المعتقدات والأديان بلا تمييز.
وتساءل أوباما ذات مرة علنا: “هل الإرهابيون أكثر خطورة من أحواض الاستحمام الزلقة”؟ وانتقدته مجلة “ذي أتلانتيك” لأنه يردد لفريقه أن الخوف من الإرهاب مبالغ فيه، وأن احتمالات موت أميركيين بسبب السقوط في أحواض الاستحمام، أكثر من احتمالات موتهم بهجمات الإرهابيين.
البطة العرجاء
ملفات كثيرة ساخنة عصفت بأحلام الرئيس أوباما ووضعته في خانة المنطقة الرمادية، فعلى صعيد السياسة الخارجية تحمل أوزار سلفهجورج بوش الابن الذي تورط في حروب العراق وأفغانستان تحت مزاعم مكافحة الإرهاب وأضيفت إليها لاحقا الأزمة في سوريا.
وزاد من مصاعب أوباما سيطرة الجمهوريين على الكونجرس بغرفتيه وانتزاع الأغلبية في مجلس الشيوخ عقب نتائج الانتخابات التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وقد بدأ صعود الجمهوريين للسيطرة على الكونجرس بشكل تدريجي منذ عام 2010، وبهذا أصبح أوباما “بطة عرجاء” وهو تعبير يطلق في الولايات المتحدة على الرئيس الذي يفقد القدرة على التحرك الحر نتيجة سيطرة معارضيه على مجلسي الكونجرس أو أحدهما.
وقد شكل الملف السوري تحديا جديا لأوباما، بل كان شاهدا على فشل بيّن. وترك أوباما نظام بشار الأسد جانبا وركز على خطر تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، واعترف وزير الدفاع آشتون كارتر بأن نتائج البرنامج التدريبي للمعارضة السورية في حالة يرثي لها.
وكانت نتيجة الفشل في سوريا تمدد روسيا وإيران في سوريا مما عقد الأزمة. ويزعم أوباما أنه أوقف تقدم البرنامج النووي الإيراني وساهم في الحدّ من المخزون النووي، لأول مرة منذ عقد من الزمن بسبب سياساته في التفاوض، بل حذر الكونجرس الجديد من تقييد حركته وسنّ تشريع يقضي بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران.
إن نظرة أوباما تجاه القضية الفلسطينية لا تقوم على أساس الحقوق الفلسطينية وإنما يؤمن الرجل بأن المواجهة الاسرائيلية الفلسطينية تمنع الولايات المتحدة من تحسين علاقاتها مع العالم العربي، وكم كانت إرادة أوباما تجاه قضية فلسطين واهنة ومرتبطة عنده بموازنة الملفات الأخرى في المنطقة.
“أظهر وجود أوباما على سدة حكم أكبر دولة “العنصرية الخفية” إلى الواجهة، وهناك نظرية تفترض وجود نوع خفي من العنصرية يظهر بصورة غير واعية لدى الأشخاص الذين يعلنون التزامهم بقيم المساواة، وليس خافيا أن ناخبين بيضا ينبذون العنصرية، لكنهم يقنعون أنفسهم دون وعي بأن عدم تصويتهم لأوباما يعود لكونه “قليل خبرة””
وفي سياق حالة التنازع التي تنتاب الرجل وتضعه في المنطقة الرمادية صرح أوباما ذات مرة في خطاب له أمام منظمة أيباك المؤيدة لإسرائيل أن “القدس ستبقى عاصمة إسرائيل ويجب أن تبقى موحدة”. ولاحقا سئل حول حق الفلسطينيين في المطالبة بالقدس في المستقبل فأجاب أن هذا الأمر متروك للتفاوض بين طرفي الصراع، إلا أنه عاد وأكد حق إسرائيل المشروع في القدس.
ربما يكون أوباما قد حقق بعض الإنجازات في ملفات خارجية أخرى منها تحسين العلاقات مع كوبا، وإقامة مناطق تجارية حرة، لكنه فشل في نظر خصومه في كبح سرعة الانطلاق الصيني، أو تضييق فجوة السرعة بين الصعود الصيني والانحدار الأميركي. فالصعود الصيني وتزايد مؤشرات القوة الاقتصادية والعسكرية يهدد مصالح أميركا وحلفاءها في المنطقة فضلا عن انتعاش العلاقات الصينية الروسية التي مضت في اتجاه تصاعدي.
أجواء المغادرة
مهما طغى وتمدد اللون الرمادي على حقبة أوباما، فإن تجربة الرجل تظل تجربة فريدة باعتباره أول رئيس أسود له جذور إسلامية لأكبر دولة في العالم. ومقاييس والنجاح تحكمها هذه الخاصية وما يترتب عليها من عوامل؛ فاللون الرمادي قد يكون مرحلة متقدمة على اللون الأسود الذي ظل طاغيا على حقب ما سبقوه من رؤساء، وهذا من وجهة نظر المستضعفين من السود وشعوب دول العالم الثالث الذي يضم الدول العربية والإسلامية.
لقد أثبت أوباما قدرة الأقليات على تولّي زمام المبادرة في قيادة الدول، تحديدا في دولة بعظم الولايات المتحدة، إلا أن الرجل ظل مستهدفا، حتى في حياته بسبب خلفيته الإثنية والدينية، ففي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2008 وبعد تأكد ترشح الرجل لمنصب رئيس الولايات المتحدة تم الكشف عن محاولة لاغتياله حين ألقت قوات الأمن في ولاية تينيسي القبض على شخصين من النازيين الجدد من البيض كانا يخططان لاغتياله.
وأظهر وجود أوباما على سدة حكم أكبر دولة “العنصرية الخفية” إلى الواجهة، وهناك نظرية تفترض وجود نوع خفي من العنصرية يظهر بصورة غير واعية لدى الأشخاص الذين يعلنون التزامهم بقيم المساواة، وليس خافيا أن ناخبين بيضا ينبذون العنصرية، لكنهم يقنعون أنفسهم دون وعي بأن عدم تصويتهم لأوباما يعود لكونه “قليل خبرة”، وهذه هي “العنصرية الخفية”.
اليوم يعيش الرجل أجواء ما بعد انتهاء ولايته الرئاسية، خصوصا في الاهتمام ببعض التفاصيل الخاصة، من قبيل تركيزه على إنشاء مكتبة رئاسية تتضمن أوراقه الخاصة والعامة، أسوة بمن سبقوه من الرؤساء، وقد يلجأ لعزل نفسه داخل فقاعة تُدخل إليه بعض الطمأنينة الذاتية بانتظار يوم مغادرته البيت الأبيض، في 20 يناير/كانون الثاني 2017.
ياسر محجوب الحسين
الجزيرة نت