ليس من كمال الذوق الدخول على مجلس عزاء ومخاطبة أهل المصيبة والمعزين بخطاب غير خطاب المواساة والصبر فضلا عن أن يكون الخطاب فلسفيا، لكن في الوقت ذاته فإن المصائب تلين القناعات وتفتح المجال لمراجعتها.
ما تفعله فارس والمليشيات الشيعية في الفلوجة وما فعلته في ديالى وتكريت ليس هو المشهد برمته الذي يستدعي المرابطة بجواره واستنفاد الجهود فيه.. إن إشهار عنصر من الحشد الشعبي لسكينه أمام العدسات والصدع بـ “يا حسين” قبل أن يجز بها عنق ضحيته ويمزق جسده ثم يرقص منتشيا حول جثمانه وسط أهازيج طائفية، هي معركة ضجيج الرابح فيها ليست فارس.
يميز فارس عن محيطها أربعة خصائص على الأقل: أنها ليست عربية، وأنها تدين بمعتقد لا يشاركها فيه غالبية المسلمين، وأنها أقلية بطموحات إقليمية على صلة بما قبل مجيء الإسلام.
“حرب الفلوجة فصل من فصول معركة فارس مع جوارها، وهي معركة متعددة التخصصات لا تراها العدسات، ويعتبر الإرهاب أحد أدواتها، وتدار من الخطوط الخلفية في غرف هادئة فيها لوحات ضوئية تظهر تطورات الأحداث على الأرض وقت حدوثها”
القاعدة العامة التي تحكم سلوكها خارج حدودها هي: “إذا أرادت قوة خارجية التوغل في بيئة فعليها كسب العقول والقلوب ـوهو ما كان يحدث في الفتوحات الإسلاميةـ وإلا فإن المجتمع يرفضها ولن يأذن لها بالدخول وعليها حينئذ إزاحة العائق الذي هو المجتمع، كما أن الدولة التي هي الحامي الطبيعي للمجتمع عليها هي الأخرى التوقف عن العمل، ولأجل وأد أية فرصة لعودة المجتمع فإن تصفية وجهائه وأعيانه ومثقفيه ومبدعيه تصبح مطلبا لا مناص منه”.
هذه هي فصول معركة فارس مع جوارها، هي معركة متعددة التخصصات لا تراها العدسات، ويعتبر الإرهاب أحد أدواتها، وتدار من الخطوط الخلفية في غرف هادئة فيها لوحات ضوئية تظهر تطورات الأحداث على الأرض وقت حدوثها، يجلس أمامها متخصصون يقررون متى تستبدل الخطة “باء” في الفلوجة أو تكريت أو حلب عند فشل الخطة “ألف”.
لا يبدو لنا -نحن الذين كشفنا سوءة إيران بحناجرنا وأقلامنا وأنزلناها منزلتها التي تليق بها وهي الحريصة على الاصطفاف في صف الأمم والدول الطبيعية- أن لدينا أكثر مما نفعله في كل مرة تحشد المليشيات الشيعية قواتها لتدمر مدينة أخرى من مدننا.
أهلنا الطيبون يسألون أسئلة بريئة: لماذا لا يسمح لنا بالعودة إلى مدننا “المحررة”؟ أسفٌ وألف أسف فلذات أكبادنا، المدن لن تعود، والتي لن تنتزع بالسلاح ستنتزع بإغراءات المال من ضعاف النفوس كما فعلت العصابات الصهيونية في فلسطين، وخرائط التوزيع السكاني الجديد التي ستقطع المناطق المدمرة إلى جزر تعزلها عن محيطها بها أحزمة طائفية لم تعد سرا من الأسرار.
مشكلة فارس مع جوارها لا تختزل في الشعور نحو الإسلام الذي أوصله إليها العرب، كحمل السفاح الذي تكرهه المرأة لكنه في أحشائها ولا تقدر على التخلص منه، وفي المقابل فإن مشكلة العرب الحقيقية في التعايش مع جارهم لا تختزل في إساءة هذا الجار لساداتهم من الصحابة ولبيت رسولهم صلى الله عليه وسلم.
مشكلة فارس مع جوارها هي مع ما يمنعها من العودة إليه والبقاء فيه. حرمان النازحين العرب السنة من العودة إلى مدنهم المدمرة هو جزء من حرب فارس على نظام المدينة الذي أوجده الفتح وعلى هيكله الاجتماعي الأفقي المخالف لهرمية النظام الكسروي.
أجواء الحريات التي توفرها الحاضرة ونظام التسلق الاجتماعي الذي يمنح الفرد ـ أيا كان ـ فرصة الارتقاء الاجتماعي والمهني لا على أساس الوجاهة الموروثة أو الممنوحة وإنما الكفاءة المكتسبة، وأجواء المناظرات الفكرية في المدينة التي تغربل المفاهيم وصولا إلى الأصلح والأنفع للمجتمع، كلها وغيرها معطيات لا تتماشى مع متطلبات الأمن القومي لأقلية تطمح في التمدد في محيط ذي أغلبية مخالفة.
“أهلنا الطيبون يسألون أسئلة بريئة: لماذا لا يسمح لنا بالعودة إلى مدننا “المحررة”؟ أسفٌ وألف أسف فلذات أكبادنا، المدن لن تعود، والتي لن تنتزع بالسلاح ستنتزع بإغراءات المال من ضعاف النفوس كما فعلت العصابات الصهيونية في فلسطين”
هذا المجتمع لا يمثل بيئة لاستقبال نظام طبقي مثل النظام الفارسي القديم الذي أعادت فارس إنتاجه بعد انقلابها على “الإسلام العربي” تحت عناوين تشترك لفظيا مع عناوين الإسلام.
ما يتأسف عليه نقّاد “التشيع الصفوي” ومن بينهم على شريعتي ليس إساءاته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرطقته في معتقدات الإسلام الأساسية وإنما في حرمانه الجمهور من حق المناقشة والمناظرة واختصار عقوله في عقول أشخاص، ما جرده من سمة الجماهيرية ومن أن يكون تيار الأمة وأعاده إلى أبراج الكسروية، والنتيجة هي خسارة الصراع مع “الآخرين” وبقائه أقلية ضئيلة غير قابلة للنمو في أجواء المعرفة.
ملاحظات شريعتي تشخص موقف النظام الفارسي من نظام المساءلة الذي تفرزه الحواضر على شاكلة مجلس شعب أو برلمان ليس له وجود حقيقي في الكيان الفارسي الذي استهل ثورته بنسف البرلمان في 1981، وتلتحق بهذا التشخيص مجالس الأدب والمعرفة التي تزدهر في المدن وتقودها البيوتات العريقة.
من جهة أخرى فإن اتخاذ النظام الفارسي للخرافة أساسا للفكر ومن نظرية “الحق الإلهي” نظاما للحكم ممثلا بولاية الفقيه جعل من المدينة والحاضرة عقبة اجتماعية كأداء في طريق العودة إلى جغرافية كانت من توابع فارس الوثنية لكنها اليوم بيئات مسلمة.
تشير سجلات مفكري فارس إلى أن نجاح غاراتها على الجوار يتزامن مع حالة ركوده الثقافي وتتلاشى بعودة النبض الثقافي. التوغل الفارسي في المنطقة اليوم هو الأكبر منذ التوغل البويهي في القرن الرابع الهجري والذي حدث ضمن معطيات مطابقة ثقافية ودولية لما يحدث اليوم.
ما تحرص عليه فارس اليوم هو النجاح حيث أخفق الأسلاف. في القرن الرابع الهجري تحولت حواضر العالم الإسلامي (بغداد، الموصل، نيسابور، الري) بعد عقود من التوغل الفارسي البويهي إلى بؤر لما يمكن تسميته “بالثورة الثقافية الأولى لأهل السنة” وكانت مشروعا إقليميا عربيا عباسيا تركيا سلجوقيا عميق الإعداد والتنفيذ اتخذ شكل مدارس علمية (النظامية) نشرت الوعي الجماهيري ومنها الجامعة المستنصرية في بغداد انهار أمامه النظام البويهي.
هذه المدارس عادت للظهور تحت الاحتلال الفارسي الحاضر في فترة قياسية بصيغتها الرقمية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وكان للمجتمع الأكاديمي في المدن الدور الرائد فيها قبل أن تدمر المدن وتقصف الجامعات ويتحول أصحاب العقول إلى نازحين يشغلهم البحث عن لقمة الخبز عن أي هم آخر.
“الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثه الفتح الإسلامي أوجد أرضية مصالح مشتركة بين القوى التي اقتسمت المنطقة قبل الفتح (الروم والفرس) وأنشأت تنسيقا ضد حواضرها، وليس غريبا أن يعود ذلك التنسيق في سماء الفلوجة وتكريت وحلب وحمص اليوم”
إذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن الناظر إلى فلسطين المحتلة من خلال خرائط غوغل يجد تخطيط التجمعات السكانية فيها وطرقها الالتفافية على غير شاكلة الدول العادية، ولا يعكس ذوقا معماريا جماليا بقدر ما يعكس حساسية وقلقا أمنيا عند المصمم. هذه الحساسية تكتسب لدى الفرس بعدا متزايدا كأقلية متضائلة عدديا أمام شعوب تريد الهيمنة عليها ويعكسها أنموذجها السكاني والأمني والاقتصادي في الأحواز العربية الذي لا يختلف كثيرا عن النموذج الإسرائيلي.
يجدر بالملاحظة أن الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثه الفتح الإسلامي أوجد أرضية مصالح مشتركة بين القوى التي اقتسمت المنطقة قبل الفتح (الروم والفرس) وأنشأت تنسيقا ضد حواضرها التي أدارت نقل الإسلام إلى العمق الأوربي أو ذادت عنه إبان الغارات الأوربية والفارسية المنسقة غالبا، وليس غريبا أن يعود ذلك التنسيق في سماء الفلوجة وتكريت وحلب وحمص اليوم.
الحواضر كالمسطحات المائية تعتاش حولها حياة البراري الغنية والملونة، ولكن بجفافها تنتهي هذه الحياة. الريف في الشرق هو براري الحواضر الغني بالطاقات وهو رئته التي يتنفس بها، وترتبط بها حياته.
الهندسة الاجتماعية العكسية لفارس في المنطقة تمثل تحولا عميقا يطال كل جوانب الحياة الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والسياسية، لا يكافئه مراكمة جهد صحفي يصف تفاصيل الحدث أو عمل أدبي يلهب المشاعر أو مؤتمرات يدعى إليها “خبراء إستراتيجيون” في مقتبل العمر، بقدر ما يكافئه عمل أطقم متخصصة في مجالات الاجتماع والتاريخ والتخطيط مؤهلة للبحث في وسائل ترميم أو تعويض آليات التعافي الثقافي عند المجتمع التي استهل الاحتلال الإيراني عدوانه بتدميرها.
من يريد التعرف على المواصفات النهائية لبناء تحت الإنشاء يراجع بنايات أنجرها نفس المهندس، ومن أراد معرفة شكل العراق والشام واليمن والمناطق التي ضربها الوجود الفارسي فعليه بالأحواز التي استولت فارس على ثرواتها الطبيعية وعلى مزارع السكر فيها وجففت أنهارها. فارس ليست عضوا في نادي “الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار” والأحواز اليوم عضو في ناد للأمية والمرض والعطش والجوع بامتياز.
من غير المنطقي أن تثبت الأحداث الميدانية ضعف عدو ـ أي عدوـ في نقطتين أساسيتين: الرسالة الفكرية ومقدرته على القتال، ثم يمضي ذلك العدو في كسب الجولات.
ربيع الحافظ
الجزيرة نت