أزمة لبنان في نظامه السياسي المقيد وطائفيته المتجذرة

أزمة لبنان في نظامه السياسي المقيد وطائفيته المتجذرة

_82252_ll3

يعيش لبنان على وقع تعقيدات مزمنة ويصارع ضمن دائرة أزمات محتقنة، حيث يرى الكاتب والباحث اللبناني عبدالله نعمان أن السبب الرئيسي فيها هو النظام القائم على الصفقات التي تبرم بين أحزابه السياسية وطوائفه، والمُقيّد بالزعامات التي تتربع على رأس السلطة.

وضمّن نعمان هذا الموقف ضمن كتابه الجريء الصادر باللغة الفرنسية بعنوان لبنان: تاريخ أمّه لم تكتمل، وقدّمه، مؤخّرا في معهد العالم العربي بباريس. وقال نعمان لـ”العرب” إن عنوان الكتاب يعكس الجرأة في تناول الموضوع.

وأكّد على أنه انحاز خلال كتابة الكتاب إلى لبنان الوطن ولم ينحز إلى أي جهة أو تيار أو قوة سياسية. وحاول في ثلاثة مجلدات نبش ماضي لبنان وتسليط الضوء على حاضره. وخاض في تاريخ بلد غير عادي ومرتبك في الوقت الحاضر، من أجل تحليل العلاقة المعقدة بين المجتمعات المؤسسة له، وتشريح الأفكار وتحليلها والتفريق بين الأساطير والحقائق.

ويؤكد نعمان “أنا لست حكواتيا وكتابي ليس خيالا، ولا تاريخا شاملا، لكنه مقاربة شخصية للمشاكل، ومناقشة مفاهيم محددة، ووثيقة لتفكيك الأساطير والتأكيدات القطعية التي شكلت رؤى مجزأة”.

يعتبر الكتاب مقاربة شخصية جريئة تخرق المحرمات التي يتفادى اللبنانيون الحديث عنها بحجة عدم الرغبة في تقويض الصرح الهش القائم للبناء الوطني، فلبنان اليوم ليس كما يعتقد الآخرون، فهو بعيد عن أن يكون مثالا للتعايش الناجح، أو أن يكون ملاذا للمساواة والحرية والإخاء، كما أنه أيضا ليس دولة علمانية.

أزمة نظام

يقول نعمان إن المجتمع اللبناني يبدو ـ في بعض النواحي ـ مجتمعا حديثا، لكنه في واقع الأمر لا يزال نظامه السياسي مقيّدا بالزعامات الإقطاعية التي تتربع على رأس السلطة حاليا، تعزّزه الإقطاعيات التجارية المربحة، فضلا عن الطائفية المتجذرة التي تسمح بتوريث المناصب والسلطة، وهناك شكوك في أن يفسح المجال للأجيال الشابة لتعزيز سيادة القانون والاندماج في قالب المواطنة.

ويدين الكاتب التلاعب بالأحداث التاريخية ويكشف الانحرافات فيها، وكذلك القرارات السياسية التعسفية، ويحاول استذكار الأحداث المنسية عمدا، ويتلمس أسباب حذفها وتزويرها، ليس بأسلوب رواية بوليسية بقدر ما هو تحليل منطقي لكل القضايا الشائكة والمتناقضات، ويقول “ثلثا تاريخنا مبنيان على أساطير وأكاذيب”.

ويؤكد نعمان لـ”العرب” “لم يكن الانتماء في لبنان أبدا إلى الدولة أو الأمة وإنما للقبيلة والعشيرة قبل الانتماء إلى المجتمع، وزعيم العشيرة هو أكثر أهمية من المجتمع، والنظام السياسي الذي يحكم (المجتمع اللبناني) لا يزال محتجزا من قبل الزعماء التقليديين الذين يبدو أنهم يسعون للبقاء في الساحة السياسية إلى الأبد”.

ولا شك أن العنوان جريء إلى حد قد يصدم بعض اللبنانيين، ففيه إشارة واضحة إلى قصور وعجز لبنان عن الوصول إلى مستوى الدولة، أي أنه لا يزال عالقا في مرحلة وسطية تحتاج إلى الكثير من الوقت والتغييرات ليصبح كذلك، وهو بذلك لم يكن متشائما بقدر ما كان هادفا لوضع الإصبع على الجروح لمعالجتها، أو على أمل أن يثير ذلك حفيظة البعض ليتقدم إلى علاجها.

تشير مقدمة الكتاب، الصادر عن منشورات “غْليف” في باريس، إلى أنه يتناول “تاريخ بلد حديث جدا وقديم جدا في نفس الوقت، يُعاني لبلوغ النضج وسط لغط غامض في كتابات مؤرخين مأخوذين بماضيه المجيد، باحثين عن ظروف تكوينه، ملاحظين مأزق جذوره في بيئته الجغرافية والجيوسياسية، راصدين تطوّره المؤسساتي ورؤى مستقبله الذي يراه المراقبون الموضوعيون مستقبلا غير مستقر”.

مستقبل أكثر سوداوية

لا يخفي الكاتب تشاؤمه أحيانا خلال سرده لأوضاع البلد السياسية والاقتصادية وعلاقاته الاجتماعية المعقدة والمصلحية. ويُعرب عن خوفه أن يكون المستقبل أكثر سوداوية إن لم يتم تدارك الأمر وتصحيح الأخطاء، ولا يتوانى عن القول بأن لبنان على شفير الهاوية، إلا أنه لم يفقد الأمل أبدا في إمكانية إنقاذه. ويضم المجلد الأول (زيارة عصرية إلى الجاهلية) 14 فصلا، يتناول خلالها مراحل متتالية زمنيا فاتحا سِجِلّ الفينيقيين ومغامراتهم، ثم الدخول العربي والتغيرات الكبيرة الإيجابية التي رافقته إلى المسيحيين العرب وأمجاد بيزنطة، فالدروز والسنّة، وينهيه بثُبت للقبائل اللبنانية.

أما المجلد الثاني (ولادة أمّة) والذي يضم 26 فصلا، فيتناول فيه العروبة واللبننة وصولا إِلى استقلال لبنان، وولادة إثنيات متخاصمة غض الطرف عنها الآباء المؤسسون ما تسبب بحروب منفجرة.

ويتناول المجلد الثالث المؤلف من 14 فصلا موضوع العلمانية والطائفية وتوليد العنصرية القاتلة والشقاق والصراع المجتمعي والانقسام والمجتمع اللبناني الحديث والمعاصر الذي يعيش مسجونا في نظام سياسي إقطاعي وراثي، ويحاول أن يبحث عن الهوية التي يمكن أن تُوحّد ولا تُفرّق، ويشدد على أن الحل العلماني الشامل (الدولة والمجتمع والثقافة والتربية) هو طريق الخلاص للبنان واللبنانيين من كل محنهم.

وينتهي القارئ بأسئلة أرادها الكاتب أن تبقى مفتوحة: هل يمكن أن يجد اللبنانيون طريق الخلاص؟ هل ينساق لبنان إِلى الهاوية؟ هل يمكن أن يقوم من الرماد؟ وهل يمكن أن يتخلى سياسيوه الإقطاعيون عن الحكم وعن النظام الطائفي والوراثة؟ هل سيتيحون المجال لانبثاق جيل جديد يبني دولة حـق ومساواة وعدل؟

باسم العوادات

صحيفة العرب اللندنية