الغرام الأميركي – الإيراني: ميراث الخميني

الغرام الأميركي – الإيراني: ميراث الخميني

2016130175848921303661

ليست مفاجأة أن تظهر إلى العلن خفايا عن علاقات تحت أستار الظلام بين إيران والولايات المتحدة، على رغم الخطاب العدائي المتبادل، لكن المفاجئ هذه المرة أن ذلك الغزل من جهة إيران ليس وليد العامين الأخيرين اللذين أسفرا عن الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني، وليس حتى وليد الغزو الأميركي لأفغانستان في العام 2001 أو الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 اللذين حققت فيهما إيران مكاسب استراتيجية هائلة من دون تكبُّد أي جهد، وتغيرت خريطة المنطقة لمصلحتها تماماً، بل إن جذور العلاقة بين «الثورة الإسلامية» و «الشيطان الأكبر» تعود إلى الخميني نفسه، وإلى ما قبل ثورته بأكثر من 15 عاماً.

كتب الخميني رسالة إلى الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي في العام 1963، حينما كان حبيس سجون الشاه محمد رضا بهلوي، وفقاً لما كشفته «بي بي سي» الفارسية التي تقول إن كينيدي ربما يكون قرأ الرسالة وربما لم يقرأها لأنه اغتيل بعد وصول الرسالة بأسبوعين. وبغض النظر عما إذا كان كينيدي قرأها أم لا، فإن فحوى الرسالة التي أرسلت قبل 53 عاماً هو الأكثر أهمية، وهو ما يجب التوقف لديه ملياً، لأنه يفسر كثيراً من المواقف التي حدثت في ما بعد، ويوضح أن التلون والانتهازية والنفاق سمات ملازمة للخطاب الإيراني «الثوري» منذ فترة تسبق الثورة نفسها بكثير، وأن الأهداف الحقيقية تكون مختفية خلف جعجعة كلامية تتناقض تماماً مع ما يجري التخطيط له بالفعل.

أهم ما تضمنته رسالة الخميني إلى كينيدي هو مطالبة الأميركيين بـ «عدم إساءة تفسير تهجمه اللفظي، لأنه يؤيد مصالح الولايات المتحدة في إيران»، وذلك توضيحاً منه لخطاب عاصف ألقاه وأدى إلى اعتقاله. والترجمة الصحيحة لحديث الخميني أن الأفعال غير الأقوال دائماً، وأن الهجوم الكلامي تكون له أهدافه التي تخص قطاعات بعينها، لكن السياسة الحقيقية تكون في مربع آخر تبرم فيه الاتفاقات «تحت الطاولات». وبذلك يكون الخطاب العلني حقق هدفه، وهو موجه إلى فئات معينة داخل إيران وخارجها، وفي الوقت ذاته تتحقق المصالح الإيرانية من طريق تفاهمات تظل طيّ السرية والكتمان، وتُبرم هذه التفاهمات غالباً مع من يوصفون بأنهم «أعداء ومستكبرون وشياطين»، ولا تُقطع إطلاقاً الخطوط المفتوحة معهم عبر قنوات عدة وأشخاص مجهولين.

في رسالة الخميني إلى كينيدي أيضاً تأكيد أهمية وجود الولايات المتحدة في إيران، وأن هناك إمكانية للتعاون الوثيق، من خلال الإسلام، مع أديان العالم، وخصوصاً المسيحية. وهذا الملمح أيضاً أحد عناصر ميراث الخميني الذي أعلن نفسه في وقت مبكر، وما زال مُستخدماً من إيران، ويتمثل باستخدام الدين أداة لتحقيق مكاسب سياسية وإسباغ طابع ديني ذي طبيعة انتقائية على قضايا سياسية بطبعها. وتبدو المراوغة واضحة في التعبيرات التي اختارها الخميني، فالتعاون مع «أديان العالم» يمكن أن يشمل الديانة اليهودية مثلاً، حين تدعو الحاجة السياسية إلى ذلك. واختار الخميني «المسيحية خصوصاً» لأنه كان يتحدث إلى رئيس أميركي، ولا مانع من أن يمتد ذلك إلى أديان ومذاهب أخرى في اللحظة التي يبدو فيها أن هناك مصلحة سانحة.

ضمن الوثائق التي كُشفت أخيراً أيضاً مراسلات بين الخميني والرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في الفترة التي سبقت الثورة الإيرانية مباشرة، وذلك عبر الوسطاء الجاهزين دائماً. وفي هذه المراسلات تعهد كامل من جانب الخميني بإقامة علاقات ودية مع الحكومة الأميركية، وعدم قطع النفط عن الولايات المتحدة، مع عرض لفكرة ولاية الفقيه على كارتر باعتبارها فكرة داعمة للسلام والتعاون مع العالم. ومن جانبها فإن الإدارة الأميركية كانت جاهزة لالتقاط إشارات الخميني، إذ أسهمت في إضعاف موقف الشاه حليفها الأوثق، وسهّلت نجاح الثورة الإيرانية بطرق عدة، وساعدت الخميني في الإمساك بزمام السلطة.

كما أن فضيحة «إيران – كونترا» التي عرفت أيضاً باسم «إيران غيت» لا تزال حاضرة في الأذهان، إذ باعت إدارة الرئيس رونالد ريغان في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية أسلحة لطهران التي كانت مصنفة في لائحة الإرهاب في الولايات المتحدة، في صفقة قيل إن عائداتها كانت ستستخدم لتمويل حركات «الكونترا» المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا.

العلاقات الإيرانية – الأميركية الحالية إذاً تستند إلى أفكار ثابتة لدى القيادة الإيرانية، وتتجلى في ممارسات لم تختلف طبيعتها عبر خمسة عقود تقريباً، فالجانب الإيراني الثوري ظاهرياً جاهز دائماً لمد يد الصداقة للولايات المتحدة وتقديم التنازلات وعقد الصفقات، حتى في الأوقات التي يبدو فيها أن الصراع والمواجهات بين الطرفين وصلت إلى ذروتها. والجانب الأميركي جاهز للبحث في مدى استفادته من هذه الصفقات. وإذا تشددت إدارة أميركية في قبول العروض الإيرانية فإن تغييرها أو تغيير بعض الأشخاص فيها ما يلبث أن يفتح الباب أمام عروض إيرانية لا تتوقف.

يبدو جانب من هذه العلاقات في كتاب صدر في العام 2007 بعنوان «التحالف الغادر» ألفه تريتا بارسي الإيراني الأصل الذي يعيش ويعمل في الولايات المتحدة، وهو يتحدث عن عروض مستمرة من جانب إيران منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لخطب ود الإدارة الأميركية، ومن أهمها عرضٌ قُدِّم في العام 2003 بعد غزو العراق، يتضمن استخدام إيران نفوذها في العراق لتحقيق الأمن والاستقرار وإنشاء حكومة غير دينية، وتقديم كل أنواع الضمانات التي تؤكد أنها لا تطور أسلحة دمار شامل، وإيقاف دعم الجماعات الفلسطينية المعارضة والضغط عليها لإيقاف عملياتها ضدّ إسرائيل، وتحويل «حزب الله» اللبناني إلى حزب سياسي ينتظم في العملية السياسية، وقبول المبادرة العربية للسلام للعام 2002، وأخيراً الاستعداد للاعتراف بإسرائيل. ورُفض هذا العرض، وفق ما يقول بارسي، بسبب الموقف المتشدد لدونالد رامسفيلد، وعدم قبوله أي حوار مع إيران في ذلك الوقت الذي كانت الولايات المتحدة حققت خلاله انتصاراً ساحقاً في العراق. لكن فكرة العروض الإيرانية بقيت قائمة إلى أن تم عقد الاتفاق الأميركي – الإيراني في لحظة رأى فيها الطرفان أنهما يمكن أن يحققا مصالح مشتركة. وعلى رغم ذلك أبقيا الحروب الكلامية على حالها بوتيرة تعلو وتنخفض وفقاً للظروف.

الملاحظة على العرض الإيراني في العام 2003 أنه كان يُساوم بأوراق عربية في الغالب، تتعلق بالعراق ولبنان والفصائل الفلسطينية وعملية السلام، وكلها قضايا تُبدي فيها إيران تشدداً، لكن الهدف هو رفع قيمتها في المساومة ليس إلا، والحصول على مقابل مناسب.

البازار الإيراني مفتوح دائماً، وكل المواقف فيه معروضة للبيع بشرط وجود الثمن، والولايات المتحدة من جهتها لا تتردد في التضحية بحلفائها استجابة للغزل الإيراني في لحظات مفصلية. وتكرر ذلك مراراً في السنوات الماضية، سواء في المواقف المتسرعة وغير المحسوبة التي اتخذتها واشنطن تجاه «الربيع العربي» أو مغازلتها «الإخوان المسلمين» والخطوط التي لا تزال تسعى إلى فتحها معهم، أو الاتفاق الإيراني – الأميركي الذي تلته أزمات متوالية نجمت عن إحساس طهران بقوتها وبالزخم الذي اكتسبه سعيها إلى تعظيم مكانتها في المنطقة على حساب العالم العربي وأمنه واستقراره. ويبدو أن حسابات واشنطن وطهران التقت الآن على تغذية عوامل الاضطراب وعدم الاستقرار في العالم العربي، وأن جزءاً من اتفاقهما يرتكز على هذه الرغبة المشتركة، ما يشكل تهديداً أمنياً مستمراً لمنطقة الشرق الأوسط لا يمكن تجاهله.

راشد صالح العريمي

صحيفة الحياة اللندنية