بكائيات على أسوار «سايكس – بيكو»

بكائيات على أسوار «سايكس – بيكو»

2016051408

بمناسبة ذكرى مرور مئة عام على الاتفاق الاستعماري المشؤوم، الذي عُرِف باسم «اتفاق سايكس – بيكو»، والذي انطوى على تفاهمٍ على تقاسم النفوذ الكولونيالي بين بريطانيا وفرنسا في المشرق العربي، ازدهر خطابٌ عربي مُراجع للموقف من الاتفاق المشؤوم بذريعة أن ما يجري اليوم من تفَتّت وتفكّك لقسم من البلدان العربية، منذ اندلاع حوادث «الربيع العربي»، يعيد الاعتبار إلى اتفاقٍ أخرج صيغةً كيانية (هي «الدولة الوطنية») ما لبثت أن أصبحت، اليوم، موضعَ دفاعٍ عنها.
و- بالتالي – فإن ما كان في حكم المرفوض، قبل جيلٍ أو ثلاثة أجيال، بات التمسّك به مطلباً عزيزاً، حتى عند الذين ناصبوه العداء طويلاً، وشنعوا عليه، وأقاموا الأحزاب والحركات من أجل نقضه ومَحو آثاره. وفي هذا المشهد العام من المراجعة – التي انبرت للقيام بها أقلام وأصوات عدّة في منابر الصحافة والإعلام – ما عدمنا وجود مَن بلغت بهم الجرأة حدَّ القول إن العرب لم يكونوا يستحقون حتى «سايكس – بيكو»، لأن هذه منحتهم أكثر مما هُمُ أهلٌ له، وفي جملة هؤلاء من ابتذل لسانَه إلى حدود القول إنه بمثل ما فضحت «سايكس – بيكو» «أوهام» الأمة الواحدة، التي أسفرت عن حقيقة وجود شعوب، فضحت الأوضاع الراهنة «أوهام» الشعب الواحد، حين كشفت عن أننا طوائف ومذاهب وأعراق وقبائل وعشائر أكثر من كوننا شعوباً.

من النافل القول إن مثل هذه الأصوات المشؤومة موجود في أي مجتمع، وداخل كل بلد، وإنها عادةً ما تكون خرساء أو مهمَّشة في أحقاب متطاولة من الزمن، قبل أن تستفيق من سباتها، وتخرج من مهاجعها وكهوفها فتستَلّ ألسنتها المسمومة لِتُطلِقها في كل شيء جامع، ما أن يصيب مجتَمَعها مصاب. وغنيّ عن البيان أنّ أدوارها القذِرة مدمِّرةٌ في الأحوال كافة، لكن خطورتها تغدو أشدّ في لحظات الأزمة والتراجع، حيث تنهض بوظائف تدميرية للنسيج الاجتماعي والنفسي: التخذيل والتحبيط والتيئيس، فضلاً عن تزوير الحقائق وتزييف الوعي. وليس يَعْنينا، هنا، أن نردّ على ترّهاتها، وإنما يَعْنينا أن نوجِّه الخطاب إلى بعضِ من يقعون في أحابيل روايتها- من الذين كانوا مناهضين لتجزئة «سايكس – بيكو» – ويردّدون بعضاً من دعواها باسم السياسة، أو بزعم أن ما ليس مشروعاً في حقبةٍ من التاريخ قد يصبح مشروعاً في أخرى.
لم تكن «سايكس – بيكو» مشروعة في الماضي، ولا هي مشروعة اليوم، ولن تكون مشروعة في المستقبل أيًّا يكُن المدى الذي قد يبلُغه التفكك في الوطن العربي. ولن تكون هذه الاتفاقية المشؤومة أفقاً للعرب حتى ولو تبعثروا إلى عشرات الدويلات، لأنها – بكل بساطة – الرحم الذي نشأت فيه التجزئة، في صيغةٍ أولى منها قبل مئة عام، والذي تولَّدت من مفاعيله سيروراتُ التفكيك التي شهدناها ماضياً، ونشهدها حالياً. انقسامات اليوم وحروبُه الأهلية الطائفية والمذهبية ثمرة مُرّة لمفاعيل ذلك الاتفاق ومحطّة من محطاته، وليست منفصلة عنه على أي نحوٍ من الأنحاء، ولا يمكن أن يكون ما هو في حكم السبب – في توليد تلك الانقسامات والحروب – في مقام المخرج منها إلا في عقلٍ بهلواني.

إنّ أيَّ نضال تخوضه، اليوم، الشعوب والقوى الوحدوية والديمقراطية ضد التفكيك، والحروب الأهلية والفتن الطائفية والمذهبية، وفيالق الموت من الميليشيات المسلحة هو، في المطاف الأخير وفي حساب الأشياء، نضال ضد «سايكس – بيكو» ونتائجها الفورية والبعيدة المدى في الجسم الكياني العربي، نضال ضد محطَّةٍ قد تكون الأخطر في مسلسل التفكيك الكولونيالي الذي أطلقته قبل مئة عام، وهي المحطة التي تُمثِّل مدافعتُها ومغالبتُها والردّ عليها ردّاً يُلحِق الهزيمة بها، شرطاً لا مناص منه لضرب «سايكس – بيكو» في حلقةٍ رئيسية من حلقاتها. وبالمثل، يكون أيّ نجاح لهذه الحلقة/المحطة في تمزيق مجتمعاتنا نجاحاً للمشروع الذي حمل اسم «سايكس – بيكو». لم يُبرَم التفاهم الاستعماري بين مندوبي بريطانيا وفرنسا (سايكس وبيكو) لمجرَّد تقاسم النفوذ الكولونيالي بين دولتين كانَتَا تحاولان تنظيم التنازُع بينهما على المستعمرات، وضبطِه بتفاهمات لمنعه من الانفجار، ولم يُبرَم لمجرّد الرغبة في تجزئة بلاد العرب إلى دويلات لا حول لها ولا قوّة غير التبعية والخضوع للغرب الاستعماري، ولا هو أبرم قصد منْع العرب من تكوين دولةٍ كبرى ترث الدولة العثمانية وتُنافِس الدول الأوروبية الكبرى، ولا لمجرّد وضع نخب سياسية موالية على رأس السلطة في تلك البلاد بعد الجلاء منها.. إلخ، وإنما هو أبرِم – فوق ذلك كلّه – تمهيداً لزرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وتمهيداً لتوليد نزاعات أهلية داخلية تمنع تلك البلاد المجزَّأة من التماسك والتقدّم أو مواجهة الكيان الصهيوني، أو حتى الدفاع الذاتي عن النفس. مَن يجادل في هذه الحقيقة، عليه أن يتأمل في هاتين السابقتين: في وعد بلفور، الذي أُعلن عنه أشهراً معدودات بعد إبرام اتفاق «سايكس – بيكو»، وفي فبركة خرائط كيانية وأنثروبولوجية تلعب على وتر العصبيات الأهلية. إذا كان الهدف من وعد بلفور قد تحقَّق بإقامة الدولة الصهيونية، فإن التفكيك العصبوي دخل مسار التحقق منذ حرب لبنان الأهلية، ويشهد اليوم على فصلٍ خطر منه.

التجزئةُ لا يُردُّ عليها بالتجزئة، وإنما بمشروع توحيدي: وطني وقومي. أمّا هذه البكائية على أسوار «سايكس – بيكو» فمضيعة للوقت، وقمارٌ سياسي بامتياز وهي، في أحسن أحوالها، تمرينٌ سيئ على قول أبي نوّاس: «وداوني بالتي كانت هي الداء».

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخليج