ما زلنا في حقبة ما قبل الدولة المعاصرة؛ فقد غمرتنا الدولة العلية العثمانية بأفضالها طوال 400 سنة. وفي تلك الحقبة، لم تتطوّر لدينا، في عصر القوميات، أي هوية قومية على الإطلاق، ولبثنا عند هوياتنا المحلية التقليدية. فالدولة الحديثة في أوروبا أُسِّست على قاعدة الاندماج الاجتماعي والمواطنة المتساوية والقانون والحداثة. ولم يحدث هذا الأمر لدينا قط، بل ظهرت مؤسسات الدول العربية الحديثة على أيدي المستعمرين، بعد زوال الحكم العثماني عن بلادنا. وظهرت تلك الدول، لا في سياق تاريخي متدرّج وطبيعي، بل في سياق الاقتحام الاستعماري وتقسيم المنطقة العربية على أسسٍ دينية أحياناً، واستعمارية في جميع الأحايين. ففرنسا رغبت في الاستيلاء على لبنان وسورية والأناضول والإسكندرون، لأن فيها المدارس اليسوعية والكاثوليك والموانئ وخطوط النفظ من كركوك إلى حيفا وطرطوس التي بدأت ترتسم حينذاك. وأرادت إنجلترا الاستيلاء على العراق، حيث نفط كركوك والنساطرة وبوابة الخليج العربي في البصرة وموانئ فلسطين. والحدود التي رسمها السيدان سايكس وبيكو لم تُرسم كأي اتفاقية بين دول موجودة، بل نتيجة اتفاق سياسي بين فرنسا وبريطانيا، وبموافقة روسيةٍ آنذاك؛ فهي حدود مناطق النفوذ لكل دولة من هذه الدول الاستعمارية التي تحفّزت للاستيلاء على أملاك “الرجل المريض”، أي تركيا، وتفكيك الامبراطورية العثمانية.
مهما يكن الأمر، فإن اتفاقية سايكس – بيكو لا يمكن فهمها إلا في سياق الاتفاقات اللاحقة، مثل إعلان بلفور (1917) ومؤتمر سان ريمو (1920) وصك الانتداب على فلسطين (1922). وفي هذا الميدان، جرى فصل الموصل عن سورية، وضُمّت إلى العراق، (ماشي الحال… من عرب إلى عرب)، وأنشأ مؤتمر سان ريمو الذي حضره الرؤساء، لويد جورج الإنجليزي وكليمنصو الفرنسي ونيني الإيطالي، علاوة على حاييم وايزمان مراقباً، إدارتين للإسكندرون والجزيرة الفراتية. وجرى، في ضوء ذلك، تقسيم ولاية حلب بين سورية وتركيا، فنالت تركيا أكثر من نصف مساحة حلب، وضُمَّ الإسكندرون لاحقًا إلى تركيا، ونالت تركيا أيضاً جزءًا من الجزيرة الفراتية والأناضول. أما فرنسا، فقد قسّمت سورية فور احتلالها، بعد معركة ميسلون العظيمة في سنة 1920، إلى دول طائفية: دولة لبنان للمسيحيين وللموارنة خصوصاً، ودولة للعلويين، ودولة للدروز، ودولة دمشق للسُنّة، ودولة حلب للسُنّة أيضًا، فضلًا عن سنجق الجزيرة.الدولة الحديثة والاندماج الاجتماعي
فشلت الدول الوطنية الحديثة في المشرق العربي التي نالت استقلالها في النصف الثاني من
أربعينيات القرن العشرين فصاعدًا، في عملية الدمج الاجتماعي لمكوّنات المجتمعات المحلية، لأن من غير الممكن أن ينجح هذا الدمج، إلا في إطار دولةٍ حديثةٍ للمواطنين الأحرار؛ دولة المواطنة المتساوية ذات النظام الديمقراطي الذي يحترم ثقافات جميع المجموعات المكونة للمجتمع، وتحترم هذه المجموعات، في الآن نفسه، وحدة تراب هذه الدولة، وثقافة الأغلبية القومية فيها؛ إنها الدولة الديمقراطية العلمانية من بابها إلى محرابها. والدمج الاجتماعي عملية نهضوية في الجوهر، لا يمكن أن تجري الجريان الصحيح، إلا في سياق حداثي، وفي إطار مؤسسات الدولة الحديثة والمجتمع المدني معاً، كالجيش والأحزاب والجامعات والنقابات والنوادي الثقافية والتعليم… إلخ. لكن المجتمعات العربية في المشرق العربي ظلت، إلى حدّ كبير، مجتمعات تقليدية موروثة من العهد العثماني؛ ولم تغمرها الحداثة حقًا، وبقيت مؤلفةً من مجتمعين منفصلين لم يندمجا: مجتمع أهلي تقليدي ذي طابع ريفي وفلاحي، وفيه نسبة عالية من الأمية، ويسيطر عليه زعماء العشائر والعائلات ورجال الدين، ومجتمع حديث وفاعل، فيه نسبة لا بأس بها من التعليم، ويتبنى قيم الليبرالية، وميدانه المدن الكبرى، وتسيطر عليه نخبٌ عصريةٌ تلقت تعليمًا في الجامعات المحلية أو الأوروبية.
في المجتمع الأول، استمرت مفاهيم الرعية ووسائط المجتمع الأهلي وشبكاته، كالروابط العائلية والهويات المحلية وعصبيات المنشأ الإثني (شركس، شيشان، أرناؤوط، تركمان…، أو ديري، حوراني، رقاوي، أو علوي، درزي، سني، إسماعيلي… إلخ). وفي المجتمع الثاني، تطوّرت فكرة الوطن والمواطن والمواطنة ومفاهيم الدستور والقانون والدولة والمجتمع المدني الحديث (الصحافة والأحزاب والنقابات والجامعات والنوادي). وكانت الدولة الحديثة هي المؤهلة للحدّ من التفسخات المجتمعية، وإعادة جبر الجماعات المكوّنة للمجتمع.لكن، مع العياء المتدرّج للسلطة، ولا سيما بعد هزيمة 1967، انفجرت، في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة جميع عوامل التفسخ مرة واحدة، وتصارعت الهويات القاتلة. وهذا ما نشهده بوضوح اليوم في العراق وسورية واليمن وليبيا، وقبل ذلك في أفغانستان ونيجيريا والصومال.
حاول جمال عبد الناصر (والبعث أيضاً) دمج المجتمعين معاً، في محاولةٍ لإيجاد مجتمع عصري جديد، فجعل التعليم متاحاً للجميع، وكذلك الوظائف العامة، بما في ذلك الكليات الحربية، وأصدر قوانين الإصلاح الزراعي التي كان يؤمل منها الانتقال إلى طرازٍ ما من العدالة النسبية في الأرياف المظلومة، واستبدال سيطرة ملاكي الأرض بسيطرة جهاز الدولة. لكن هذا الدمج لم يجرِ بسهولة، جرّاء التحديات الكبرى التي واجهت هذا المشروع، كالتحدّي الإسرائيلي في الخارج، وشبكات الأعيان في الداخل، فضلاً عن مقاومة البنى الاجتماعية التقليدية (ملاك الأرض والتجار والأغوات) مبدأ المساواة، وهو عماد الدول الحديثة، والأساس الذي تُبنى عليه عملية الاندماج الاجتماعي، خصوصاً مقاومة مشايخ الدين الذين يستمدّون قوتهم من احتكارهم التعليم الديني والإفتاء والقضاء الشرعي وإدارة المساجد والأوقاف. ولم يكن مبدأ المواطنة المتساوية (غير مبدأ مساواة المواطنين أمام المحاكم والقوانين) عنصراً جدّياً في الدول العربية الحديثة، بوجود بند في الدساتير (المادة الثانية) ينص على أن الإسلام هو دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للقوانين. فهذا النص مانعٌ للمساواة من وجهة نظر مجموعاتٍ تأسيسيةٍ للمجتمعات العربية، وأقصد المسيحيين. فالدولة لا دين لها؛ للأفراد دياناتهم، أما الدولة فهي فوق ديانات الأفراد والجماعات، لأن الدول تتفكّك، إذا بُنيت على أساسٍ ديني. تفكّكت الهند مثلًا بين هندوس ومسلمين في 1947. لنتذكّر أن هناك دولتين ظهرتا في سنة 1947 على أساس الدين، هما إسرائيل وباكستان. وكانت معمودية هذا الظهور المذابح والتهجير. ومع ذلك، عادت باكستان نفسها إلى الانقسام على أساس جغرافيٍّ وثقافيٍّ، فانشطرت إلى باكستان الشرقية، أي بنغلادش، وباكستان الغربية أي دولة باكستان الحالية.
انقسمت يوغسلافيا على أساسٍ ديني: المسلمون في البوسنة والهرسك، والكاثوليك في كرواتيا،
والأرثوذكس في صربيا، مع أن معظم المسلمين صربيو القومية. وفي ميدان بناء الدول الحديثة، فإن القومية هي العنصر الذي يوحّد أشتات الجماعات، بينما الديانات هي العنصر الأبرز للانقسام. والقومية عنصر دمج، بينما الدين حين يتسيّس، يصبح عنصر تفريق. وقد وجدت الجماعات الإسلامية في المجتمع الأهلي ميدانها الملائم، وناضل الإسلاميون ضد الاستعمار وضد الثقافة الحديثة في آن. لكن جمال عبد الناصر، على سبيل المثال، لم يحارب ديكارت أو أرسطو أو ماركس أو كانط، بينما حاربت الجماعات الإسلامية الثقافة المعاصرة. والقوميون العرب، كالبعث وعبد الناصر، خاطبوا الفرد العربي، مسلماً أكان هذا الفرد أم مسيحيًا أم غير ذلك، أما الإسلاميون فكانوا يخاطبون المسلم وحده.
الاندماج الناقص
من غرائب ما يجري، اليوم، أن العالم يتوحّد، لكنه، في الوقت نفسه، يتشتت ويتفتت وينقسم؛ فهو ينحو نحو الوحدة في الثقافة وأنماط العيش وتقنيات التواصل وضروب التحضر وفنون التجارة، غير أنه يتمزّق في ميدان الهويات، قوميةً أَكانت هذه الهويات، أم اثنية أو قومية. وها هو العالم العربي، بدوره، يتفكّك بشكلٍ متسارع. وتفكك دوله التي استقرّ عليها بعد الحرب العالمية الأولى يترافق، كما يجري أمام أعيننا، مع تفسّخ المجتمعات. وفي الحالتين، يقترنان بالمجازر ضد الأقليات المتسربلة بهوياتها الموروثة. فانهيار الإمبراطورية العثمانية الذي سبق نشوء الدولة القومية التركية الحديثة، بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك)، اقترن بمجازر مروِّعة ضد الأرمن والسريان والأشوريين واليونان. وها هي بعض الدول العربية تنهار وتتفكّك في معمعان المذابح ضد الأقليات، كالمسيحيين واليزيديين والصابئة والشبك والصارلية في العراق، وضد المسيحيين والعلويين والإسماعيليين في سورية. ولعل “الصحوة الدينية” التي دشّنتها حقبة النفط العربي بعد حرب أكتوبر/ تشرين االأول 1973 تعبر، في بعض وجوهها، عن انحلال الروابط الوطنية وفشل مشروع الحداثة وانحطاط الطبقة الوسطى. وتعبر أيضاً، في وجوهها الأخرى، عن اشتعال النزعات العرقية والإثنية التي لم تخمد قط، لنكتشف أن الطوائف والإثنيات في العالم العربي إنما هي “أشباه أمم”، لها هوياتها ونزعاتها وتطلعاتها وهواجسها ومصالحها ومشكلاتها التي لم تُحلّ في إطار الدولة الحديثة.
مفهوم الوطن هو أحد مفاهيم الحداثة المعاصرة. وقد تبلور في السياق المعرفي الأوروبي، قبل
أن ينتقل إلى المناطق المجاورة، ومنها العالم العربي. وكان من شأن هذا المفهوم أن يساهم في عملية تكوين الهوية والدمج الاجتماعي. لكن معظم التيارات الإسلامية أدار ظهره لهذا المفهوم، بذريعة أن الإسلام يتعالى على الوطنية والقومية، وراح يلوك الكلام على دار الحرب ودار الإسلام. وفي المقابل، لم تتقبل الأقليات الإثنية الاسلامية في الدول العربية الحديثة العروبةَ فكرة جامعة، لكنها تقبلت الإسلام المسيس إطاراً لها، وحافظت، من خلال الانخراط في شبكات إسلامية على هويتها الإثنية. فكأن الإسلام المسيّس، بجماعاته المتعدّدة، مجرد برقعٍ لإخفاء النزعات الإثنية والعرقية. وها هي بعض الجماعات الاسلامية اليوم تجهد لتصفية بقايا الدولة الوطنية الحديثة، في سبيل تأسيس الدولة الدينية القائمة على جماعة محدّدةٍ هي الطائفة.
لم يكن لدى الدول العربية الحديثة التي نالت استقلالها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خيارات كثيرة أمام التحدّيات الكبرى، ولا سيما التحدّي الإسرائيلي، فمال معظمها إلى تغليب خيارٍ محدّد، هو الحكم المركزي التسلطي، لاعتقاد النخب الجديدة الحاكمة أن اللجوء إلى هذا الخيار يحمي المجتمع من التفسّخ الأهلي، ولا سيما أن هذه الدول لم تتمكّن من تطوير هويةٍ قوميةٍ جامعةٍ على أنقاض الهويات الأهلية. وكان من الصعب إعادة تأسيس هذه الدول على قاعدة الديمقراطية البرلمانية والمساواة التي شهدت مصر وسورية والعراق ملامح أولية منها، بين 1920 و1948، لأن تلك الدول لم تعرف الاندماج الحقيقي للعناصر التكوينية فيها، ولأن النخب شبه الليبرالية التي حكمت، في تلك الحقبة، فشلت في التصدّي للصهيونية في فلسطين، وللمسألة القومية (الوحدة) وللعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. وكان لهذا الفشل شأن كبير في اتجاه النخب العسكرية والحزبية الجديدة إلى السيطرة، إما بالجيش، أو بالإسلام السياسي المقترن بالثروة، أو بالحزب الواحد، أو بمقادير من هذا أو ذاك. ومن نافل الكلام أن الاندماج الاجتماعي وتكوين هوية قومية تتعالى على الهويات المحلية يفترضان وجود مجتمعٍ مدنيٍّ ودولة ومواطن. والمواطن، هنا، هو دافع الضرائب الذي يموّل الجزء الأكبر من نفقات دولته التي نشأت في الأساس لإدارة مصالح مجموع مواطنيها. وبهذه الصفة، المواطن هو شريكٌ سياسيٌّ للدولة في قراراتها، وله الحق في محاسبة السلطة (أي الحكومة) بجميع أشكال المحاسبة، كالتعبير والتظاهر والإضراب والاحتجاج. ودولة المواطنين تلك تحمي، بقوانينها وسلطانها، حقوق المواطنين وحرياتهم وحقوقهم في المحاسبة والاحتجاج، غير أن سوء حظ المواطن العربي أنه موجود في دولٍ ريعيةٍ أو شبه ريعية، وهو يعتاش على الدولة خلافاً للمواطن في المجتمعات الحديثة التي تعتاش الدولة على مواطنيها الأحرار. ولا يستطيع هذا المواطن، في الدول الريعية، أن يقول لا حتى في تشهّده إلا إذا كان فردًا في طائفةٍ أو قبيلةٍ أو جماعة، أي أنه ما زال فردًا في مجتمع أهليٍّ، لا مواطنًا في مجتمع مدني.