تكوّن النظام السياسي التركي من مبادئ غير منسجمة أو متناغمة مع بنية المجتمع التركي الدينية والقومية، ما أدى إلى بذر الشقاق في المجتمع والعقبات في طريق الدولة، ما عرّضها إلى هزّات متعاقبة، أزمات اجتماعية وسياسية وانقلابات عديدة، أثرت سلباً في استقرارها وازدهارها.
علمانية مجوّفة
لم تكن الجمهورية التركية التي أنشأها الجنرال مصطفى كمال، الملقب بأتاتورك (أبو الأتراك)، من بعض أشلاء السلطنة العثمانية؛ أعلن ولادتها في أكتوبر/ تشرين الأول 1923، علمانيةً بالمعنى المتعارف عليه للدولة العلمانية، الحياد إزاء الأديان والأقوام، حيث انطوت على افتراقٍ جوهريٍّ عنها في نقطتين رئيستين، أولاهما إعلاؤه العرق التركي، بلغ درجة العنصرية (الجنس التركي أصل البشرية والحضارة بأسرها)، و(يا لسعادة من قال أنا تركي)، وعدم اعترافه بالأقوام والأعراق داخل حدود الدولة التركية الناشئة (26 جماعة قومية وعرقية)، وثانيتهما تعامله المصلحي مع الدين (الإسلام)؛ فقد سعى بكل إمكاناته إلى إنهاء حضور الإسلام في مختلف مجالات الحياة وبين مختلف فئات المجتمع من جهة. وماهى، من جهةٍ ثانيةٍ، بين القومية التركية والإسلام حين رفض في مفاوضات لوزان 1924 الإقرار بوجود أقلياتٍ قوميةٍ في الدولة التركية، لم يعترف إلا بوجود أقلياتٍ غير مسلمة. فالمسلم تركي وغير المسلم غير تركي، وذلك للتملص من حقوق الشعوب والأعراق والإثنيات التي تعيش في أراضي ما أصبح الجمهورية التركية. ولتكريس موقفه عيّن في البرلمان الأول (1923) ممثلين عن الأقليات الدينية: نائبين أرثوذكسيين، ونائباً أرمنياً، وفي برلمان (1935- 1939) نائباً يهودياً؛ وفق النظام المللي العثماني.
قادت هذه السياسة إلى غياب إجماعٍ حول الهوية بين مكونات الجمهورية (ترك، كرد، عرب، أرمن، ويونان)، على خلفياتٍ قوميةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ؛ طالبت إثنياتٌ بحقوق قومية (الكرد والأرمن) بينما طالب أتباع أديان (اليهود والمسيحيين) ومذاهب (العلويون) بالاعتراف بتمايزهم وعدم تجاهل هذا التمايز في القوانين والسياسة. رفض العلويون (18- 20 مليون نسمة) إلحاقهم بالسنّة، بفرض التعليم الديني السنّي عليهم، انفجر صراع مذهبي بينهم وبين السنّة في ثمانينيات القرن الماضي، أدّى إلى مجابهاتٍ داميةٍ قسمت المجتمع عمودياً على أسس مذهبية.
نظر أتاتورك إلى النشاطات السياسية التي قام بها الكرد، تعبيراً عن تمايزهم؛ وعن تطلعهم
“نظر أتاتورك إلى النشاطات السياسية التي قام بها الكرد، تعبيراً عن تطلعهم القومي، وعدّها عصياناً ضد الدولة” القومي، وعدّها عصياناً ضد الدولة؛ ووصف القائمين بها من الكرد بـ”العصاة” واستخدم ضدهم القوة (ثورة الشيخ سعيد بيران 1925، انتفاضات أغري 1928- 1930 ودير سيم 1937).
أما الأرمن فقد تميز نضالهم من أجل حقوقهم، خلال فترة حكم أتاتورك، بالسلمية في الداخل التركي؛ وبتشكيل أحزابٍ سياسية في الخارج (حزبا الاتحاد الثوري الأرمني – الطاشناق اليميني، والاتحاد الثوري الأرمني – الهاشناق اليساري)، وشكل التيار اليساري الأرمني بعدها الجيش السري الأرمني الذي قام بعملياتٍ عسكريةٍ ضد المصالح التركية في الخارج من 1975 إلى 1988، اغتال 19 دبلوماسيا تركيا، اغتيل قائده هاكوب هاكوبيان في منزله في أثينا يوم 28 إبريل/ نيسان 1988 بعد ساعات من إعطائه مقابلة صحافية لصحفي أردني، وقد تباينت مطالبهم من الاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية التي اقترفتها الدولة التركية بحقهم عام 1915؛ والمطالبة بـولايات طرابزون، أرزنجان، موش، تبليس لضمها إلى جمهورية أرمينيا، باعتبارها أرضا أرمنية، والمطالبة بحقوق المواطنة بالنسبة لمن بقي منهم في تركيا، كان الصحافي الأرمني البارز هرانت دينك أبرز المنادين بها؛ اغتاله أوجان سماست، يميني تركي، عام 2007، وكان لافتا نشر صورة القاتل بين أفراد الشرطة الذين اعتقلوه ملفعا بالعلم التركي والجميع يضحكون، ما يعكس طبيعة موقف الترك من حقوق الأرمن، مع وجود استثناءاتٍ في الوسط الثقافي واليساري.
مراجعات تحت ضغط الظروف
تراجعت السلطة التركية، تحت ضغط المتغيرات السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية، عن إجراءاتها ضد الدين (الإسلام)، حيث أعادت في ثمانينيات القرن الماضي الاعتبار إليه، ووظفته في مواجهة جملة تحديات:
1- التيار الماركسي. حيث نُظر إلى الإسلام وسيلةً فاعلة لتقويم الأخلاق ومحاربة الشيوعية وتقليم أظافر التيار اليساري التركي النشط.
2- الموقف السياسي في قبرص. حيث استخدمت ورقة الهوية الإسلامية لتبرير اجتياح شمال قبرص، وإقامة جمهورية مستقلة هناك.
3- الأزمة الاقتصادية الحادّة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث سعت إلى الاستفادة من الثروة النفطية الخليجية باستخدام العامل الديني، بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وتضمين دستور 1982 فرض التعليم الديني في المدارس الابتدائية.
4- الكرد المطالبون بدولة كردية في جنوب شرق الأناضول. حيث ركزت على الأخوة الدينية عاملا موحدا للشعب التركي.
وقد عُدّ عقد ثمانينات القرن الماضي فاتحة عهدٍ جديدٍ في علاقة الدولة التركية مع الدين؛ بتبنّي مواقف مخففة من العلمانية، وجعل هدف السياسة الثقافية المحافظة على الإسلام عنصراً ليس بالإمكان فصله عن الثقافة التركية.
لم تخضع السمة القومية/ العرقية للدولة التركية، كما حدّدها أتاتورك؛ على الرغم من انفجار العنف بين السلطة والكرد الذين شكلوا حزبا (العمال الكردستاني، الماركسي، بزعامة عبدالله أوجلان، يطلق عليه مريدوه لقب آبو، أي العم، وكأنهم يقولون للترك عندكم أتاتورك وعندنا آبو)، وأعلنوا ثورة مسلحة عام 1984، حيث تمسّكت السلطة بموقفها الرافض أي تعبيراتٍ عن التنوع القومي والثقافي، واستخدمت القوة مجدّداً لسحق الحركة السياسية الكردية، فالأحزاب القومية، يسارية ويمينية، التي حكمت تركيا عقوداً؛ من حزب الشعب الجمهوري إلى حزب الحركة القومية؛ مرورا بحزب اليسار الديمقراطي، اختلفت على كل شيء، واتفقت على عدم
“شكّل وصول حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة عام 2002 حلاً أولياً لعلاقة النظام التركي بالإسلام” التنازل للكرد والأرمن، مع تباينٍ في أسلوب التعامل معهم، فحزب الشعب الجمهوري، مثلا، فضّل إتباع أسلوب النفس الطويل، بينما فضّل حزب الحركة القومية السرعة والحسم. يركن الأول إلى خطاب اجتماعي اقتصادي، يرى أن مشكلة الكرد تنبع من التخلف الاقتصادي والاجتماعي المريع الذي يعيشون فيه؛ وضرورة تطوير المنطقة التي يقطنون فيها والقضاء على نفوذ زعماء العشائر والأغوات ومالكي الأراضي الكبار، وتحقيق إصلاح زراعي فيها.
أما الثاني فيتمسك بخطاب إيديولوجي يستند إلى نزعةٍ عرقيةٍ مغلفةٍ برداءٍ ديني، زادتها اشتراطات الاتحاد الأوروبي لإدخال تركيا في الاتحاد تأجّجا، يرى أن المشكلة الكردية خطة أوروبية – أميركية تهدف إلى تأسيس دولة كردية. واكتفى حزب الشعب بالملاحقة القانونية والقمع الفكري، بينما حزب الحركة القومية لم يتردد في اغتيال قوميين ناشطين، كرد وأرمن، وارتكاب جرائم القتل السياسي بحق الكتاب والمثقفين ودعاة حقوق الإنسان والصحافيين الترك المنادين بالاعتراف بحقوق الكرد والأرمن، شكّل فرق اغتيالات تحت اسم “الذئاب الرمادية” للقيام بهذه المهمة. والحال أن هذا المناخ العنصري المتجهم هو الذي دفع أبناء الأقليات القومية، الكرد خصوصا، أكثر نحو التمسّك بهويتهم، والذود عن مطالبهم.
أفرز هذا الواقع المعقد بأسسه العقائدية ومتغيراته السياسية خريطة متشابكة من الانحيازات والاستقطابات: استقطابات بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين السنّة والعلويين، وبين الترك والكرد والأرمن، وبين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية، وبين النزوع الطوراني والأوروبي.. إلخ. استقطابات على خلفية الصراع على الهوية. فقد ظهر للعيان أن الانقسام الإثني والمذهبي الذي تعرفه تركيا أرسخ من الحلول التي طرحت لحله، حيث فشلت محاولات الصهر التي يمكن من خلالها طبع الشعب كله بطابعٍ قومي واحد، وبقي شعار اليمين العلماني “نحن جميعاً أتراك”، بلا جذور، ولم ينجح شعار “الأخوة الإسلامية” في القفز على الانقسام القومي الذي تمثّله القضية الكردية بقوة. وقد أضفت المتغيرات الإقليمية والدولية تعقيدات على أزمة الهوية، فقد أدى قيام الحكم الذاتي للكرد في كردستان العراق إلى تعقيد الموقف التركي تجاه قضية كرد تركيا؛ وأضاف ورقةً إلى أوراق اللعبة تجاه مسألة الهوية، عزّزت دور المؤسسة العسكرية السياسي، فعلى الرغم من أن إلغاء المواد التي كانت تعطي الجيش حق التدخل في الحياة السياسية من الدستور، بالتعديلات السياسية المتعاقبة؛ قد قلّص نفوذ الجيش إلى حدّ ما، فإن ترك المادة 8 الخاصة بمكافحة الإرهاب أبقى الملف الكردي بيد الجيش، وغدا التصعيد العسكري ضد حزب العمال الكردستاني جزءا من الصراع الداخلي بين المؤسستين، العسكرية والمدنية، استخدمه الجيش لإحكام قبضته على الأوضاع السياسية، وفرض مواقفه على المؤسسة المدنية، وفي مد نفوذه داخل مؤسسات الدولة في مجالات الأمن والقضاء؛ في مجلس الأمن القومي خصوصا. استحوذ الجيش على ثلث إجمالي الناتج القومي من ميزانية الدولة، وكان الجنرالات والضباط والعاملون المدنيون في الجيش يحصلون على رواتب ومكافآت عالية تحت بند مكافحة الإرهاب، لذا أصبحوا أصحاب مصلحةٍ في استمرار الصراع بين السلطة والكرد.
وفي تسعينيات القرن الماضي، أدت التطورات الداخلية إلى تجاذباتٍ عقائديةٍ وقوميةٍ، عبرت عن تحول في اتجاهات التفكير داخل المجتمع التركي، وإعادة النظر في المنطلقات الأساسية للأتاتوركية، حيث طرحت فكرة “العثمانية الجديدة” التي تضمنت تجاوزاً لأحد أهم طروحات الأتاتوركية في السياسة الخارجية: الانكفاء إلى حد العزلة (سلام في الوطن، سلام في الخارج)، وفكرة “الجمهورية الثانية” التي تُختصر بتعميم كامل للديمقراطية والحريات، بما فيها حقوق الأقليات (الكرد أساساً) في التعبير عن هويتها، وتغليب النزعة المدنية في المجتمع على النزعة العسكرية، التي استبدّت بالجمهورية الأولى منذ تأسيسها، فاتحة الباب للخروج على روح اتفاقية لوزان التي رفضت فيها تركيا الاعتراف بوجود أقلياتٍ قومية.
اصطدمت هذه الدعوات بالموقف الغاضب للمؤسسة العسكرية وللقوميين الترك المتشددين، فكان تحركهما السريع والعنيف، لوقف المتغيرات الداخلية على صعيد طرح المواقف والقضايا، ووقف عملية تعديل أولويات تركيا الأتاتوركية وخياراتها الداخلية والخارجية، لاحتواء “خطر” الإسلام والكرد. وهذا أعاد الموقف إلى المربع الأول حيث لا مكان للتمايز القومي والإثني.
أعيد الزخم للنزوع العرقي وللقومية القبلية، خصوصا مع وصول أحزاب قومية متطرّفة إلى سدة الحكم، تختلف في ما بينها في قضايا كثيرة، وتتفق في إنكار التعدد القومي والإثني، فما يجمع بين حزبي الشعب الجمهوري اليساري والحركة القومية اليميني نزعتهما القومية المتطرفة، واستنادهما في مقاربة أوضاع تركيا إلى منظور صارم، يضع الانتماء إلى العرق التركي فوق كل اعتبار.
حزب العدالة والتنمية.. المبدأ والسياسة
شكل وصول حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الإسلامي، إلى السلطة عام 2002 حلا أوليا لعلاقة النظام التركي بالإسلام، وأتاح له نجاحه في إدارة البلاد، وتحقيقه إنجازات مهمة على
“وضع الخيار الأتاتوركي الجمهورية التركية في تصادم مع عاملين مكوّنين: الإسلام والتعدّد القومي” صعيد الوضع الاقتصادي (حوّل تركيا من دولة مدينة واقتصاد هش وفساد مستشرٍ إلى دولة صاعدة اقتصاديا، بلغ ناتجها القومي حدود التريليون دولار، احتلت المرتبة 16 عالميا، ما عزّز شعبية الحزب الحاكم والحكومة)، دفع المؤسسة العسكرية إلى الخلف، والحد من تدخلها في السياسة والقضاء والإدارة المدنية، وسمح له بالتعاطي مع قضية التعدّدية القومية بإيجابيةٍ، مستفيدا من حالة الإعياء من الحرب والدماء والدمار في المجتمعيْن، التركي والكردي؛ وميلٍ إلى الحل السلمي، تبنته منظمات المجتمع المدني الكردية، فتبنّى مقاربةً ديمقراطيةً في التعاطي مع المطالب الكردية، فمع تمسّكه بوحدة تركيا الجغرافية والسياسية، وعمله على احتواء التداعيات الإقليمية، خصوصا الوضع في كردستان العراق، على الملف الكردي في تركيا، سمح بإطلاق قناةٍ ناطقةٍ باللغة الكردية تبث طوال اليوم، وبتعليم اللغة الكردية في المدارس في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وعمل على تحسين أوضاع الكرد المعيشية والخدمية في منطقة جنوب شرقي البلاد، وفتح مفاوضاتٍ مباشرةً مع القيادات السياسية الكردية، فبعد لقاءاتٍ بين الحكومة ونوابٍ كرد من حزب السلام الديمقراطي الكردي (سمح لهم بزيارة عبد الله أوجلان في محبسه في جزيرة مرمرة لدراسة الوضع الجديد معه)، ومع قيادة حزب الشعوب الديمقراطية لاحقاً، جرى الاتفاق على اعتماد الحل السياسي ونبذ العنف، والاتفاق على خطة خريطة طريق، تبدأ بوقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الحزب إلى جبال قنديل في كردستان العراق، ريثما تتم تسوية أوضاعهم وإدماجهم في الدولة والمجتمع التركيين، وتبادل الأسرى، يليها تعديل الحكومة قوانين مكافحة الإرهاب، وتحويلها إلى المجلس النيابي لإقرارها، على أن تبدأ المباحثات الرسمية بين الحكومة التركية وقيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، يتلوها تعديل دستور 1982، وتضمينه الإقرار بالحقوق الكردية. وأعلن عن الاتفاق عبر رسالة من أوجلان قرأتها النائبة الكردية ليلى زانا في احتفالات الكرد في عيد النيروز في مدينة ديار بكر يوم 21/3/2013، دعا فيها إلى وقف القتال والانسحاب إلى جبال قنديل، وأكد انتهاء مرحلة الكفاح المسلح وبدء مرحلة الكفاح السياسي.
لم يكن طريق المفاوضات سالكا من دون عراقيل، فقد تعرّضت المقاربة إلى امتحان مراتٍ ومرات، فالتوتر السياسي الداخلي، على خلفية الانتخابات الرئاسية والتعديلات الدستورية، وسعي الرئيس التركي أردوغان إلى تغيير النظام التركي من برلماني إلى رئاسي، ووجود جناحٍ متشدّد داخل حزب العمال الكردستاني؛ له تحفظات على خيار المصالحة التي وافق عليها عبدالله أوجلان، وقيامه بعمليات عسكرية استفزازية لاستدراج رد من الجيش التركي يخلط الأوراق وينهي المفاوضات، وانفجار الثورة السورية وإقامة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، بتوجيهٍ من قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، إدارة ذاتية في ثلاث مقاطعات (الجزيرة وعين العرب/كوباني وعفرين) على الحدود التركية السورية، وسعيه إلى وصلها بالسيطرة على كامل الشريط الحدودي التركي السوري، 911 كم، ما شكّل استفزازا لتركيا فتدخلت في عملية عسكرية مشتركة مع فصائل من المعارضة السورية، أطلقت عليها اسم (درع الفرات) قطعت عليه الطريق، بسيطرتها على مثلث جرابلس الباب دابق، وهجوم “داعش” على مدينة عين العرب (كوباني)؛ ورفض الحكومة التركية دعم الكرد فيها، لاعتباراتٍ تتعلق بموقفها من استراتيجية واشنطن في مواجهة “داعش” وتجاهل النظام السوري الذي مارس القتل وأوجد المناخ الذي أفرز الأخير، ومن الإدارة الذاتية الكردية في سورية،
“لم يستطع أردوغان الموازنة بين منطلقات حزبه السياسية الذي ربط التنمية بالعدالة، وطموحاته الشخصية” تحفظت الحكومة التركية عليها، بسبب تخوفها من تعزيز موقف الكرد في تركيا في مفاوضات المصالحة، ما أتاح للتيار المتشدّد في حزب العمال فرصة التشكيك بنيات أردوغان وخروج تظاهراتٍ كردية في المدن ذات الأغلبية الكردية، مثل ديار بكر، وحصول صدامات وسقوط قتلى وجرحى من الكرد وقوات الأمن، ناهيك عن تنفيذ حزب العمال حكما ذاتيا في بعض المدن والبلدات في جنوب شرق البلاد، وتجنيد الشباب الكرد بالقوة في صفوفه، والدخول في مواجهة مسلحة مع أنصار حزب الدعوة الحرة الإسلامي (الكردي) الموالي للنظام التركي، في مدينة جزيرة ابن عمر أو جزيرة بوتان. انفجر القتال مجدّدا بين الكرد وحكومة حزب العدالة والتنمية، وتجدد قصف الطائرات التركية مواقع حزب العمال في جبال قنديل.
في الأثناء، شهدت تركيا تطوراتٍ سياسية عاصفة، محاولة الانقلاب الفاشلة يوم 15/7/2016، وضعف التأييد الذي حصل عليه أردوغان في الاستفتاء على النظام الرئاسي يوم 16/4/2017، حيث أيده 51.4%، وعارضه 48.6%، وخوفه من الفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما دفعه إلى تسعير المشاعر الوطنية، وإلى البحث عن ظهير حزبي، يساعده في تحقيق فوز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، فلجأ إلى اللعب على عواطف المواطنين الترك، ومشاعرهم القومية والدينية من أجل تمرير الإصلاحات باستفتاء شعبي؛ عبر نبش ملفات الخطط ومعاهدات ترسيم الحدود التي فرضها المنتصرون الأوروبيون في الحرب العالمية الأولى على السلطنة العثمانية، وعلى المؤسسة العسكرية التركية خلال المفاوضات على تشكيل الدولة التركية، وعمل على شدّ عصبهم عبر التذكير بالصراعات التاريخية، ونتائج الحروب مع الأوروبيين، والتدخلات الخارجية ضد مصالح تركيا وطموحاتها، وربط مواقف الخصوم، الداخليين والخارجيين، بالانتقام من التاريخ العثماني لتركيا، في استدعاء لذكرياتٍ سوداء، تعشّش في المخيال الشعبي التركي، وتصعيد المشاعر القومية العدائية وتوجيهها ضد الغرب بعامة، والولايات المتحدة الأميركية بخاصة، وتوظيف العمليات الإرهابية في هذا السياق؛ عبر اتهام الغرب بخلق المنظمات الإرهابية وتشغيلها وتسليحها؛ وإلى مغازلة القوميين الترك باستخدام الورقة الكردية (التصعيد ضد التعبيرات السياسية الكردية، اعتقال نواب حزب الشعوب الديمقراطية، وإحالتهم إلى القضاء بتهم مفبركة، والتخلي عن مبادرة حل القضية الكردية سلميا، والعودة إلى الخيار العسكري ضدهم)، نجح في استدراج حزب الحركة القومية العنصري للتحالف معه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، جرت انتخابات مبكرة يوم 24 يونيو/ حزيران 2018، بدلا من الانتخابات الاعتيادية يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، والتراجع عن مضمون فكرة “الجمهورية الثانية”، التي مهدت الطريق أمامه وأمام حزبه، للوصول إلى سدة الحكم، ومقتضياتها بتعميم الديمقراطية وحقوق القوميات في التعبير عن نفسها ثقافيا وسياسيا.
لم يستطع أردوغان الموازنة بين منطلقات حزبه السياسية الذي ربط التنمية بالعدالة، وطموحاته الشخصية، فعادت النزعة القومية التركية والتمييز بين مكونات الشعب على أساس قومي/ عرقي.
خاتمة
وضع الخيار الأتاتوركي الجمهورية التركية في تصادم مع عاملين مكونين: الإسلام والتعدّد القومي، وجعلهما بندا ثابتا على جدول أعمال الدولة التركية، لا تستطيع تجاهله؛ لأنه حاضر في كل خطوة تخطوها، ولا تستطيع حسمه إيجابا، لأن حسمه إيجابا يتعارض مع طبيعة النظام الأتاتوركي؛ ويستفز المؤسسة العسكرية التي كلفت بحمايته، ومنع المسّ بأسسه، لذا فهي في صدامٍ معه منذ قيامها عام 1923، وستبقى على ذلك، طالما لم تواجهه وتنهيه بإيجابيةٍ تقود إلى الاستقرار والازدهار، فسياسة الهروب إلى الأمام بخوض الحروب، داخل البلاد وخارجها، غير مجديةٍ في التعاطي مع مسائل داخلية بنيوية.
العربي الجديد