تجاذب علاقات أوروبا مع العالم العربي عاملان، أولهما الإرث التاريخي الذي اتسم بالعداء، ويتمثَّل في الحروب الصليبية والعهد الاستعماري، ثم بث إسرائيل في المنطقة العربية. وثانيهما إيجابي، حين اقتنع السلطان أحمد الثالث بضرورة الأخذ بالعلوم العسكرية الأوروبية وافتتاح أول مدرسة للهندسة، كما اقتنع محمد علي بإرسال الطلاب إلى فرنسا للتعرف على العلوم التي تُمكِّن من إنشاء جيش قوي. وبعد ذلك كتب طه حسين أنه إذا كانت بلاده تريد الاستقلال الفعلي، فإن هذا لا يتحقق إلا بامتلاك وسائله؛ أن نتعلم كما يتعلم الأوروبيون، ونشعر كما يشعرون، ونحكم كما يحكمون، ثم نعمل كما يعملون.
وبفعل هذا توجهت أجيال من المثقفين العرب إلى جامعات أوروبا، وأسَّست حكومات عربية علاقات سياسية واقتصادية وثقافية واسعة وكان هذا التوجه يشير إلى أن العرب قد تجاوزوا مظالمهم التاريخية تجاه أوروبا وتصرَّفوا باعتقاد أن لدى أوروبا ما يساهم في تطور مجتمعاتهم.
غير أن الديبلوماسي والمؤرخ اللبناني خالد زيادة، خلُصَ أخيراً إلى أنه «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب». وتنطلق هذه الرؤية من استعادة التاريخ المشترك بين أوروبا والعرب، وهو ما لا يملكه أي شعب من شعوب العالم، ويمثل علاقة فريدة بحكم التاريخ والجغرافيا، بين المجموعات الحضارية، فهو تاريخ طويل يمتد مسافة أربعة عشر قرناً تختلط فيه الصراعات والحروب بتبادل البضائع والأفكار والمؤتمرات والاجتماعات عبر ضفتي المتوسط.
في هذا السياق يذهب زيادة في كتابه المعنون «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب»، إلى أنه مثلما كان تأثير الإسلام والمسلمين في تشكيل هوية أوروبا المسيحية، كذلك لا يمكن على الاطلاق انكار تأثير أوروبا في تطور العالم العربي والإسلامي وتحديثه، وفي تطور الإنسانية جمعاء. غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت منعطفاً في صورة أوروبا الكونية إذ بدأت تفقد صدارتها في مجال التقنيات، لحساب بلد مثل اليابان، ولم تعد الرائدة في صناعة وسائل النقل والطائرات، فالصدارة هنا هي للولايات المتحدة الأميركية. وإذا كانت الأفكار والنظريات الكبرى والتيارات الأيديولوجية التي جذبت المفكرين والمثقفين العرب قد صدرت عن أوروبا إلا أن هذا العصر قد انتهى، بل إن العرب الذين يعبرون إلى أوروبا لدراسة الطب والهندسة، يعودون إلى بلادهم مشبعين بأفكار الماركسية الليبرالية وقد اكتشفوا هويتهم وأصبحوا يتبنون أفكاراً نقدية لأوروبا.
فهل حقاً أن أوروبا لم تعد تملك ما تقدمه للعرب؟ بما يعني ضمناً أن العرب لم يعودوا يعتمدون على أوروبا وأنهم يستطيعون الاستغناء عنها؟ حقيقة أن العرب أصبحت لديهم بدائل، بخاصة في مجال التكنولوجيا والسلاح، في اليابان والصين والهند وروسيا. غير أن هذا لا ينفي أن أوروبا مازالت مصدراً رئيساً لمصدرين رئيسيين التكنولوجيا المتقدمة، والسلاح، وهو ما يفسر ما حصلت عليه مصر أخيراً من طائرات رافال الفرنسية وحاملات الطائرات ميسترال وغوَّاصات دولفين الألمانية، وهو ما تفعله دول عربية أخرى مثل السعودية ودول الخليج، فضلاً عن استمرار بل تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية، وحيث أصبح الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لدولة مثل مصر. وقد جاء عنصر آخر جعل أوروبا تتداخل في شكل غير مسبوق مع العالم العربي وهو الإرهاب، حيث أصبح همَّاً مشتركاً يدفع إلى التعاون والتنسيق لمكافحة آثاره المدمرة، والحقيقة أن التطور الذي لحق بالقوى الدولية قد وسَّع قاعدة الاختيار أمام الدول العربية وهو تطور صحي يصب في مصلحة استقلالية الدول العربية وقرارها الوطني، ولكنه لم ينف التلاقي والتعاون بين العرب وأوروبا في مجالات حيوية.
السيد أمين شلبي
صحيفة الحياة اللندنية