إن المحاولة الانقلابية التي قامت بها عناصر الجيش التركي، من القوات الخاصة ومن سلاح الجو ومن مشاة جيش البر، تثبت أنّ هناك أزمة داخلية عميقة داخل هذه المؤسسة التي تعد إحدى ركائز الدولة التركية المعاصرة. وإذا ما أخذنا بالاعتبار التصريحات التي صدرت عن رئيس الدولة ، رجب طيب أردوغان ورئيس حكومته بن علي يلدريم، وكبار المسؤولين الأتراك، فإن ما حدث لم يكن بالأمر الهيّن، سواء على المستوى الداخلي أو حتى على المستوى الخارجي.
خارجياً، بدت الساعات الأولى كأنها عملية انتظار مما ستؤول إليها الأوضاع، ففي بروكسل وواشنطن وموسكو، كانت المواقف ضبابية ولم تكن هناك إدانة واضحة للانقلاب إلا بعد فشل الانقلابيين في استكمال مخططهم. وهذا يطرح أكثر من سؤال جدي حول الدوافع الحقيقية التي عطّلت صدور الإدانات في إبانها. في واقع الأمر، كانت المواقف الغربية المتشدّقة بالديمقراطية بعيدة كل البعد عن حسم المواقف مما يحدث في منطقة الشرق الأوسط. والمواقف إما مترددة، أو هي صامتة صمت الداعم لما يحدث.
هنا كان يمكن لتركيا أن تلتحق بقائمة دول الفوضى ، ولن نسمع في نهاية المطاف سوى الدعوة لحماية المدنيين وتلك الأسطوانة المشروخة، عن حقوق الإنسان والديمقراطية والاستقرار الدولي. فهل كانت المواقف المتخاذلة في بداية العملية الانقلابية هي رغبة مفضوحة في انتشار الفوضى في تركيا؟
ما حدث في تركيا لا يمكن فصله عن الفوضى العارمة الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط، وكل دولة من دول المنطقة يوضع لها سيناريو غير متوقع، لإشاعة الخراب فيها. وينطلق السيناريو من استغلال عوامل داخلية، مساعدة على تفجّر الوضع. وفي تركيا، لم يستطع النمو الاقتصادي أو التجربة الديمقراطية أن ينهيا صراع الأجنحة، أو ما يعرف بالصراع بين «الدولة الشرعية» و«الدولة الموازية» أو «الدولة العميقة». أردوغان نفسه تحدّث عن هذه الدولة الموازية، التي على درجة متقاربة من النفوذ والقوة مع السلطة الشرعية.
الرئيس التركي قال إنه حان الوقت لتنظيف الجيش، وبدأت فعلاً عمليات التنظيف بإقالة عشرات الجنرالات في الجيش، كما بدأت عمليات تطهير القضاء، بإطاحة أكثر من 2500 قاض، في انتظار أن تتجه البوصلة لتنظيف قوات الشرطة. ويمكن أن نتكهن بمصير هذه المحاولة وأثرها في الاستقرار في تركيا.
اهتزاز صورة الجيش التركي باعتباره حامياً للبلد وللشعب. فعلى خلاف جيوش المنطقة التي ظهرت حامية للشعب من بطش قوات الأمن. يظهر الجيش التركي في صورة سلبية، وكأن العملية كانت من أجل إهانة الجيش وضرب صورته المعنوية. فالجنود الانقلابيون ظهروا عراة مستسلمين، وتقودهم قوات الشرطة إلى مراكز الاعتقال في صورة مذلّة.
حجم القادة الكبار المشاركين في العملية الانقلابية، يثبت انقسام المؤسسة العسكرية. فالجيش مؤسسة ضخمة وقوية وذات نفوذ وهي خاضعة لصراعات الأجنحة وموازين القوى.
العملية الانقلابية، كشفت وحدة القوى السياسية التركية على احترام صناديق الاقتراع، ورفض الانقلابات العسكرية، وهذه الوحدة مهمة للاستقرار السياسي. لكن هذه الوحدة، تظل معرضة دائماً لأشكال من التصدع، إن لم يفهم النظام الحاكم تلك الرسائل، ولم يسع إلى تعزيز الديمقراطية. سياسات أردوغان، خلقت أزمات داخلية وأزمات خارجية، وورطت تركيا في جملة من المخاطر التي باتت تهدد استقرارها، وكل هذا تسجله قوى المعارضة، وتحتج عليه، وتدفع باتجاه تغيير الأوضاع وفي اتجاه تغيير مواقف تركيا من تلك القضايا الإقليمية. ولعل إزاحة داوود أحمد أوغلو من منصب رئاسة الوزراء، كان تعبيراً عن رغبة الرئاسة التركية في قلب المشهد التركي تحت ضغط الداخل المتأزم.
إن الأحداث الدرامية التي عاشتها تركيا في غضون الأسبوع المنقضي، ستشكل منعطفاً حقيقياً في هذا البلد الذي يقع في مفرق طرق التحولات العاصفة في المنطقة. فتركيا مستفيدة من ربيع الخراب العربي، وجزء من أسس النمو الاقتصادي الكبير يعود إلى أزمات المنطقة. وهي تقف في صف توجهات سياسية معينة، وتتدخل بصفة مباشرة في الشأن الداخلي لعدة دول. ولذلك لا يمكن أن تكون تركيا في حصانة من الزلازل التي تهز المنطقة العربية. فالمخطط الذي وضع للمنطقة، والذي أطلق عليه اسم «الفوضى الخلاقة»، يبدو أنه ينفذ على مهل، ويحقق أهدافه الاستراتيجية بعيدة المدى، والتي ستأتي تتويجاً للخراب العاجل.
كمال بالهادي
صحيفة الخليج