وعلى الرغم من محاولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التقليل من حدّة هذا التوتر عبر التأكيد على العلاقة الإستراتيجية التي تربط البلدين، وبأنها تقوم على المصالح، وليس العواطف، فإنّه أكد أنه مصرٌّ على مطلبه تسليم الولايات المتحدة رجل الدين التركي المعارض، فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا، على أساس أنّ جماعة الخدمة التي يقودها هي التي تقف وراء المحاولة، إلا أنّ الولايات المتحدة تبدي تردّدًا في الموضوع. وتتهم أنقرة جماعة غولن بتشكيل “كيانٍ موازٍ” داخل أجهزة الدولة، بهدف السيطرة عليها، وهو ما تنفيه الجماعة. وتبدي الولايات المتحدة أيضاً قلقاً إزاء محاولة أردوغان توظيف المحاولة الانقلابية، من أجل تعزيز سلطاته، وإعادة صوغ أسس الجمهورية التركية، بما في ذلك توجهه نحو إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية التي تتمتّع واشنطن بعلاقاتٍ متميّزةٍ معها.
والواقع أنّ التوتر الأميركي – التركي ليس وليد المحاولة الانقلابية، بل هو حصيلة سنواتٍ من الخلافات بين الطرفين، أبرزها التعامل مع الملف السوري، ففي حين حصرت الولايات المتحدة إستراتيجيتها في سورية بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، على أساس أنه يُمثل التهديد الأبرز لأمن الإقليم والعالم، مع غضّ الطرف عن ممارسات النظام السوري التي لا تقل سوءًا وتهديدًا لأمن الإقليم والعالم، ظلت تركيا تعدّ هذا النظام أصل المشكلة. وترى تركيا أنه، بسبب السياسة الأميركية في سورية، عاد الملف الكردي إلى التفجّر، بعد فشل عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، كما غدت مدنها عرضةً لهجمات “داعش”. في حين توترت علاقاتها مع روسيا، بعد إسقاطها إحدى مقاتلاتها أواخر السنة الماضية. وزاد من استياء تركيا شعورها بتخلي الولايات المتحدة و”الناتو” عنها، وتزايد مراهنة الولايات المتحدة على القوى الكردية المسلحة في سورية، وتقديم الدعم لها. وفضلاً عن ذلك، جاء الموقف الأميركي الملتبس من المحاولة الانقلابية الفاشلة، ليجعل التوتر في العلاقة بين الطرفين يبلغ ذروته.
ارتباك أميركي واتهامات تركية
كان الارتباك الأميركي في التعامل مع المحاولة الانقلابية في ساعاتها الأولى جليًا؛ ففي أول ردّ
فعل عليها، تنصّل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، من إدانتها، واكتفى بالتعبير عن أمله بالهدوء والسلام، ووجود سلطة تدير شؤون البلد. ولم تدن الإدارة الأميركية عملية الانقلاب، إلا بعد اتضاح فشلها، فقد عقد الرئيس باراك أوباما اجتماعاً مع فريقه للأمن القومي في البيت الأبيض، صباح اليوم التالي، وانضم إليه كيري عبر الهاتف من موسكو، واتفقوا على تجديد الدعم للحكومة التركية “المدنية والمنتخبة ديمقراطيًا”؛ ثم اتصل بعدها كيري بنظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، ليؤكد دعم واشنطن “المطلق” للحكومة التركية. كما تضمّن الموقف الأميركي دعوةً، حثّ فيها أوباما كل الأطراف في الأزمة التركية على التصرّف في إطار القانون وضبط النفس وتجنّب العنف وسفك الدماء، وأي أفعالٍ تؤدي إلى انعدام الاستقرار. كما ذكّر أنقرة بضرورة استمرار التعاون معها في الحرب على الإرهاب.
عزّز هذا الموقف شكوك بعض الجهات في تركيا بدورٍ محتملٍ للولايات المتحدة في المحاولة الانقلابية، فقد اعتبر وزير العمل التركي أنّ الولايات المتحدة “دبّرت” محاولة الانقلاب. كما أثار أتراكٌ كثيرون تساؤلاتٍ حول عدم منع القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة إنجرليك الجوية إقلاع طائرة تزويد وقود في الجو لطائرات أف 16 التي شاركت في المحاولة. وقد نفت الإدارة الأميركية هذه الاتهامات تماماً، معتبرة أنها تضرّ بعلاقات التحالف بين البلدين. كما رفضت إدارة أوباما منح اللجوء السياسي لقائد قاعدة إنجرليك التركي الذي ألقي القبض عليه، لاحقاً، لدوره في التخطيط للانقلاب العسكري.
تحذيرات أميركية
وعلى الرغم من إعلان وزير الخارجية، جون كيري، عن دعم بلاده الإجراءات التي تتخذها الحكومة التركية لتقديم المتورطين في المحاولة الانقلابية إلى القضاء، فإنه حذّر، في الوقت نفسه، “من عواقب التمادي في هذا الأمر”، وذلك في إشارةٍ إلى مساعي الحكومة التركية في تطهير الجيش، ومزاعم التضييق على الحريات الإعلامية والأكاديمية والمجتمع المدني. ووصل الأمر إلى تلويح كيري بإعادة النظر في علاقات تركيا بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، على أساس أنّ لدى الحلف “متطلبات فيما يتعلق بالديمقراطية”، وعبّر عن أمله في أن يقوم “الناتو: بقياس ما يجري (في تركيا) “بعناية فائقة”. وقد شاركت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، في ممارسة الضغوط على تركيا، في مؤتمر صحافي، جمعها بكيري يوم 18 يوليو/ تموز في بروكسل، فقالت إنّ محاولة إعادة عقوبة الإعدام لمعاقبة المتهمين بالضلوع في الانقلاب يمكن أن يؤدّي إلى استبعاد طلب تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد ردّ جاويش أوغلو بأنّ الانتقادات الموجهة من دول أخرى بشأن تعامل تركيا مع المشتبه بتدبيرهم الانقلاب يرقى إلى مستوى دعم المحاولة الفاشلة التي سعت لإطاحة الحكومة.
حسابات أميركية معقدة
تعدّ تركيا الدولة المسلمة الوحيدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي تملك ثاني أكبر جيش
فيه، بعد الولايات المتحدة، ويملك الحلف والولايات المتحدة منشآت عسكرية عديدة على أراضيها، مثل قاعدتي إنجرليك وأزمير. وتستخدم قوات التحالف الدولي قاعدة إنجرليك في شنّ هجماتٍ جويةٍ على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، كما أنّ فيها قاعدة تابعة للمخابرات الأميركية، تخدم فيها نشاطها في سورية، ومنظومة إنذار مبكّر تخص منظومة الدفاع الصاروخي الأوروبية التابعة للحلف. أما أزمير فإنها تحتضن مقر قيادة القوات البرية لحلف الناتو. لذا، فإنّ حدوث أي شرخٍ في العلاقات الغربية مع تركيا، أو حتى حدوث قلاقل وعدم استقرار فيها، سوف يؤثر في قدرات الحلف على التعامل مع تحديات سياسية وأمنية عديدة في المنطقة، وكذلك في توازنات منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن تداعيات ذلك المحتملة على أمن أوروبا نفسها، بما في ذلك تدفق اللاجئين السوريين نحو حدودها.
وبسبب حجم تركيا، وموقعها الإستراتيجي وحدودها مع سورية والعراق، فإنّ الولايات المتحدة تحتاج إليها في حربها على “داعش”، وفي موازنة التمدّد الإيراني والروسي في المنطقة. وتخشى الولايات المتحدة أن يسفر جهد أردوغان في تطهير الجيش التركي، بما في ذلك فصل عشرات الضباط الكبار، عن حرمان المؤسسة العسكرية الأميركية من نظراء أتراك اعتاد القادة العسكريون الأميركيون على التواصل معهم في القضايا المتعلقة بالأمن القومي، بما في ذلك مبيعات الأسلحة والتدريبات العسكرية، فضلاً عن محاربة “داعش”. وكانت الحكومة التركية قد وافقت، في صيف 2015، على السماح لطائرات التحالف الدولي باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، بعد سنواتٍ من الرفض، وهو ما أتاح للتحالف الدولي تحقيق إنجازاتٍ مهمة في حربه على هذا التنظيم. كما لا تخفي الإدارة الأميركية قلقها من أنّ الشرخ داخل المؤسسة العسكرية التركية ومحاولات إعادة ترتيب أوضاعها قد يشغلها عن ضبط الحدود الجنوبية مع سورية، ما يسمح “لداعش” بإعادة بناء نفسه، واستقطاب مزيدٍ من المقاتلين الأجانب.
ولكن الولايات المتحدة تجد صعوبةً، حالياً، في الموازنة بين حاجتها الإستراتيجية إلى تركيا وما
تعتبر أنه ردُّ فعلٍ مبالغٌ فيه من الحكومة التركية إزاء ملاحقة من تعتبرهم محسوبين على جماعة غولن، في مؤسسات الجيش والأمن والقضاء والتعليم والإعلام، وغيرها من مؤسسات الدولة الأخرى. ومع ذلك، ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرةً إلى التعاون مع تركيا، مهما كانت حصيلة الحملة التي تقودها الحكومة، لتطهير أجهزة الدولة من خصومها، كما أنّ واشنطن وحلفاءها لا يملكون وسائل ضغط فعالةٍ لثني الرئيس أردوغان عن الاستمرار في جهده للقضاء على نفوذ ما يسميه “الكيان الموازي”.
اتجاهات العلاقة مستقبلًا
يؤثر تصاعد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة، إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، في جهد محاربة “داعش”، كما أنه قد يعقّد جهد واشنطن في التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا في سورية، بشأن التنسيق الأمني بينهما، فضلاً عن إيجاد حلٍ للصراع هناك. كما أنّ تركيا المتشكّكة في نيات الولايات المتحدة تجاهها قد تندفع نحو علاقات أكثر قوةً مع روسيا، خصوصاً بعد أن تجاوز الطرفان مسألة إسقاط الطائرة الحربية الروسية في السنة الماضية. وسوف يمثل هذا الأمر ضربةً قويةً لجهد إدارة الرئيس أوباما التي ما فتئت تخسر مزيدًا من الحلفاء في الشرق الأوسط. ولا يعني ذلك نهاية العلاقة بين الطرفين، فهذه العلاقة قائمة ومستمرة منذ بداية الحرب الباردة، سواء تحت إدارات ديمقراطية أو جمهورية، أو تحت أنظمةٍ مدنيةٍ أو عسكرية في تركيا، وقد تجاوزت توترات كبيرة في السابق. فموقع تركيا الإستراتيجي، وأوضاع الشرق الأوسط السياسية والأمنية، تجعل من تركيا شريكاً لا غنى عنه أميركياً. كما أنّ تركيا ليست في وارد التخلي عن تحالفها مع الولايات المتحدة وعضويتها في “الناتو”؛ وهي العلاقة التي تشكّل جوهر عقيدتها الدفاعية، فضلًا عن مساهمتها في إعطاء تركيا مكانتها الإقليمية والدولية. ولكن، من المؤكد أيضاً أنّ هذه العلاقة التحالفية قد تضرّرت، بشكل كبير، ولن تعود إلى ما كانت عليه في الماضي، على الأقل في عهد حكم حزب العدالة والتنمية؛ فتركيا سوف تتجه نحو مزيدٍ من الاستقلال في سياستها الخارجية، وفي إقامة علاقاتٍ مع شركاء قد لا يروقون “للحليف” الأميركي المتخبّط في سياساته.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات