خلال النقاش الجاري حول اقتراح بيع طائرات “بوينغ” و”إيرباص” لإيران، انصب التركيز على ما إذا كانت الولايات المتحدة سترخّص هذه الصفقات أم لا. بيد أن السؤال الأهم هو ما إذا كانت إيران ستمضي في عملية الشراء إذا تمت الموافقة عليها.
الصفقات غير منطقية كثيراً لشركة “إيران للطيران”
تملك شركات الطيران الايرانية حالياً نحو 150 طائرة كبيرة بالإجمال، علماً بأن أكثر من ثلثي هذه الطائرات تابعٌ لشركات طيران خاصة وليس لشركة “إيران للطيران” المملوكة للدولة. وفي وقت سابق من هذا العام، وقّعت هذه الشركة ثلاث اتفاقيات لشراء نحو 260 طائرة على النحو التالي: عقد مبرم مع شركة “إي تي آر” لشراء 20 محرك ذات مروحة توربينية، واتفاق مبدئي مع “إيرباص” لشراء 118 طائرة، واتفاق مبدئي آخر مع “بوينغ” لشراء نفس العدد تقريباً. وتملك الشركة حالياً 22 طائرة “إيرباص”، حصلت جميعها على ترخيص من “لجنة السلامة الجوية” التابعة للاتحاد الأوروبي لتسيير رحلات جوية إلى أوروبا اعتباراً من 16 حزيران/يونيو. وإذا افترضنا أن الشركة ستوقف العمل بطائرتَيْها من نوع “بوينغ 747” وبخمسة عشر طائرة من نوع “فوكر 100” بسبب عدم حصولها على الترخيص اللازم لتسيير الرحلات الأوروبية، يبقى لدى شركة “إيران للطيران” حوالي 280 طائرة، إذا ما أُبرمت هذه الاتفاقات كما أُعْلِن.
ومع ذلك، ثمة أربعة أسباب أساسية لانعدام جدوى تجارية لتلك الخطة وهي: التمويل والمنافسة وعدم كفاية الطلب والمشاكل المترتبة على مواكبة مثل هذا النمو السريع. أولاً، ستواجه “إيران للطيران” صعوبات جمة لتمويل عملية شراء تلك الطائرات. فالشركة صرحت أنها تحقق أرباحاً محترمة بمقدار 150 مليون دولار سنوياً، إلا أن وضعها المالي لا يتصف بالثبات الكافي لتغطية الخسارة الناجمة عن تناقص القيمة بسبب الاستهلاك والفائدة المترتبة على شراء طائرات بمليارات الدولارات. بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً لما أفادته “الشركة الوطنية الإيرانية لتكرير وتوزيع النفط”، تُعزى تدفقاتها النقدية وأرباحها الحالية بدرجة لا يستهان بها إلى شرائها الوقود بأقل من نصف السعر الدولي، وهي لا تسدد المبالغ كاملة حتى مع هذه الإعانة. وبما أن الحكومة تعاني من الإرهاق المالي بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية، فمن غير المرجح أن تعطي طهران أولوية كبرى لتسهيل عملية شراء كبيرة كهذه.
وفي الواقع، تَحوّل العديد من شركات الطيران الكبرى في جميع أنحاء العالم إلى استئجار الطائرات عوضاً عن شرائها مباشرة. لكن هذا الخيار غير متوفر أمام “إيران للطيران” لأن طهران ليست طرفاً في “اتفاقية كيب تاون بشأن الضمانات الدولية على المعدات المنقولة”. ويشار إلى أن 71 دولة أخرى بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي قد وقّعت على هذه الاتفاقية، كما أن “بروتوكول الطائرات” الملحق بها هو الذي يتيح للجهات المؤجرة والمستأجرة على حد سواء إمكانية التنبؤ باتفاقيات الإيجار الدولية.
وعلاوةً على ذلك، فحتى لو تمكّنت “إيران للطيران” من تمويل الطائرات، فستواجه منافسة محتدمة من شركات الطيران المحلية الأخرى. فمن بين عدد الركاب الذين يستخدمون “الخطوط الجوية الإيرانية” الذي هو 21.4 مليون شخص كل عام، يسافر حوالي 22 في المائة (4.8 مليون شخص) على متن “إيران للطيران”، وهذه نسبة أقل بشكل واضح من نسبة الـ 26 في المائة (5.5 ملايين شخص) الذين يسافرون على متن “ماهان للطيران”. لذلك من الصعب أن تقف هذه الشركة المُنافِسة مكتوفة الأيدي إذا ما رفعت “إيران للطيران” درجة نشاطها. ويقيناً، أن “ماهان” لا تزال تخضع للعقوبات الأمريكية بسبب دورها في دعم «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بما ينطوي عليه ذلك من نقل الأسلحة فيما يشكل خرقاً للحظر المفروض من قبل مجلس الأمن الدولي على تصدير الأسلحة الإيرانية. ومع ذلك، لهذه الشركة علاقات سياسية جيدة (ملكيتها مرتبطة على ما يبدو بعائلة الرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني)، ولها حنكة في استقطاب ركاب من “إيران للطيران”.
أما على صعيد الرحلات الدولية، فتواجه “إيران للطيران” منافسة من قبل الشركات الأجنبية والمحلية على حدٍّ سواء. فـ “الخطوط الجوية الإيرانية” تنقل 35 في المائة فقط من الركاب الدوليين في البلاد، في حين تستحوذ “الخطوط الجوية التركية” وحدها على 80 في المائة من عدد المقاعد الدولية في الرحلات القادمة إلى الجمهورية الإسلامية والمغادرة منها أكثر مما توفّره “إيران للطيران”.
ولكن حتى في غياب أي منافسة، ستجد “إيران للطيران” صعوبة كبيرة في ملء هذا العدد الكبير من المقاعد الجديدة. فإذا أردنا وضع عملية الشراء هذه في المنظار الصحيح، يمكن القول إن شركة “الخطوط الجوية الفرنسية” تملك عدد طائرات أقل ممّا تقترح “إيران للطيران” شراءه، لذلك ليس واضحاً على الإطلاق لماذا تعتقد الشركة الإيرانية أنها قادرة على إيجاد عدد كافٍ من الركاب لتلك الطائرات. فالطائرات الجديدة ستغطي أكثر من ضعف إجمالي قدرة إيران لنقل الركاب، مع أن اقتصاد البلاد ينمو على ما يبدو بوتيرة أبطأ من أن تسمح بحدوث مثل هذا الارتفاع الحاد والسريع في الطلب. وفي ما يخص إمكانية أن تصبح إيران مركزاً إقليمياً شبيهاً بدبي أو اسطنبول، ستواجه الجمهورية الاسلامية عدة مشاكل في الترويج لنفسها بهذه الصورة نظراً إلى القيود الاجتماعية المفروضة في البلاد (على سبيل المثال، غطاء الرأس للنساء، ومنع الكحول)، وسجلّها الحافل باعتقال الزوار الأجانب (وخاصة، ولكن ليس على وجه الحصر، أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة)، وغيرها من الأمور.
وببساطة إن مجرد تهيئة هذا العدد الكبير من الطائرات للتحليق سيكون حافلاً بالتحديات أيضاً. إذ أنه سيكون من الصعب على “إيران للطيران” تدريب الطيارين والميكانيكيين الجدد المطلوبين لتشغيل هذه الطائرات، في حين أنه لن يكون من السهل على الحكومة توفير المراقبة الجوية والإشراف التنظيمي اللازم. وفي الواقع أن لإيران تاريخ قاتم في السلامة الجوية منذ الثورة وهو حافل بحوادث متعددة من سقوط الطائرات بسبب أخطاء اقترفها المراقبون الجويون والميكانيكيون والطيارون. بالإضافة إلى ذلك فإن البنية التحتية للمطارات تحتاج أيضاً إلى حملة تحديث هائلة، إلا أن البلاد تتعثر كما يبدو في تنفيذ مشاريع البناء الضخمة – فإنشاء الطريق السريع بين طهران وبحر قزوين الذي هو قيد الإنشاء من قبل شركة “خاتم الأنبياء” المرتبطة بـ «الحرس الثوري» لا يزال مستمراً منذ سبعة عشر عاماً، وتنوي إيران حالياً إنجاز هذا المشروع خلال ست سنوات عبر الاستعانة بشريك من كوريا الجنوبية.
خيارات السياسة الأمريكية
للولايات المتحدة دورٌ مهم في السماح بالمضي قدماً بعملية الشراء التي تخطط لها “إيران للطيران”. فشركة “بوينغ” تخضع لالتزامات قانونية كونها شركة أمريكية، وفي حين أن شركة “إيرباص” هي شركة متعددة الجنسيات مقرها في فرنسا، إلا أن النصيب الأمريكي من طائراتها كبير بما يكفي لكي يستدعي حصول الشركة على رخصة من الحكومة الأمريكية في أي عملية بيع لإيران (لكن شركة “إي تي آر” هي أجنبية بالكامل وبالتالي لا سلطة قانونية لواشنطن على ذلك البيع). من هذا المنطلق، اقترح البعض في واشنطن أن توقف الحكومة الأمريكية صفقات البيع لعدة أسباب. إلا أن هذا الأمر سيساعد إيران على كسب تعاطف المجتمع الدولي لحجتها بأن الولايات المتحدة لا تخفف العقوبات كجزء من الاتفاق النووي. كما أنه سيثير استياء مجتمع الأعمال (وخصوصاً في أوروبا) باعتبار أن الولايات المتحدة تعرقل ما يبدو أنها فرصاً تجارية مربحة. وفي الواقع أن شركتَي “إيرباص” و”بوينغ” تتوقان إلى عقد هذه الصفقة بما أن الأحكام المعلنة تنص على شراء “إيران للطيران” طائرات أكثر من الخطوط الجوية المتحدة (“يونايتد إيرلاينز”)، أو “طيران الإمارات”، أو “لوفتهانزا”، أو “الخطوط الجوية البريطانية”، أو “دلتا”، التي تشتري كلٌّ منهما حوالي عشرين إلى خمسة وثلاثين طائرة كل عام. كما تستطيع طهران أن تجني الكثير من المكاسب إذا تمكنت من إظهار واشنطن كالجهة المسؤولة عن عرقلة الكثير من الأعمال التجارية.
وثمة نهج بديل يتمثل في الموافقة بسرعة على جميع الصفقات، رهناً بطبيعة الحال ببعض القيود المتواضعة، مثل عدم استعمال الطائرات لنقل الأسلحة أو تحويلها إلى “ماهان للطيران” أو أي شركة طيران أخرى من دون موافقة الولايات المتحدة. بعد ذلك يمكن لواشنطن أن تقف وتراقب – لترى عدم حدوث أي شئ. إن النهج الراسخ الذي تتبعه الجمهورية الإسلامية هو الشكوى بصوت عال من القيود الدولية ومن ثم فقدانها الاهتمام بالموضوع بمجرد أن يتم رفع هذه القيود.
على سبيل المثال، اشتكت إيران لسنوات عديدة من أن الولايات المتحدة لم تسمح لشركة “إيران للطيران” بشراء قطع الغيار لطائراتها المتقادمة من نوع “بوينغ”. وفي الواقع أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش أصدرت رخصة لمثل هذه الصادرات، ولكن اعتباراً من مطلع عام 2015 لم تعقد “بوينغ” سوى صفقة بيع واحدة مقابل مبلغ زهيد، حيث جادل مدراء شركة “إيران للطيران” قائلين إن شراء القطع من السوق السوداء كان أسهل من المرور بالمعاملات والإجراءات الأمريكية.
أو لنأخذ مثلاً الطلب الذي تقدمت به إيران للانضمام إلى “منظمة التجارة العالمية”. فالفصائل الإيرانية التي أرادت للبلاد أن تصبح عضواً في المنظمة تذمرت بصخب ومراراً من الحظر الفعلي الذي فرضته واشنطن على طلبها المقدّم عام 1996. ولكن ما إن رفعت الولايات المتحدة اعتراضاتها في عام 2005 حتى اندفعت الفصائل الإيرانية المناهضة للعضوية إلى العمل. واستغرق الأمر أربع سنوات لكي تعد طهران “مذكرة نظام التجارة الخارجية” ثم فشلت في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بتلك الوثيقة، وبالتالي لم يتم تشكيل أي فريق عامل للنظر في طلبها. وبذلك انضمت إيران إلى الجزائر وبيلاروس [روسيا البيضاء] والسودان وأوزبكستان التي تقدمت بطلب إلى “منظمة التجارة العالمية” ثم فقدت اهتمامها بالموضوع – أو بالأحرى لم تتمكن من التغلب على المعارضة الداخلية القوية في بلدانها ضد الإصلاحات والانفتاح الاقتصادي المترتب على العضوية في المنظمة.
وبالمثل، علت الأصوات النافذة في إيران ضد صفقة شراء الطائرات. ففي 2 تموز/يوليو، أعلن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي بوضوح أنه غير سعيد مع الرئيس حسن روحاني بسبب مناصرته لعملية الشراء. وبقيامه بذلك، أبدى ملاحظة (صحيحة تماماً) بأنه من الأفضل لإيران أن تستخدم هذا المبلغ لإصلاح بنيتها التحتية الحالية، حيث قال: “قيل أنه بدلاً من إصلاح الطرق سيهتمون بمسألة الطائرات. هذا نقدٌ مشروع. لدينا هذا النقص وهذه المشكلة. ومع ذلك، يجب أن تلاحظوا أنه كما قلت مرات عديدة، لا يمكن للقيادة أن تتدخل باستمرار في كل قرار تتخذه مختلف المنظمات التنفيذية… إذا أخطأ مسؤولٌ في مسألة أو أخرى وإذا ارتكب خطأً ما، فهذه مسؤولية «مجلس الشورى». فـ «المجلس» مسؤول عن مقاضاتهم… وليس هو الحال بأنّه بوسعي السماح للمسؤولين التنفيذيين بشراء طائرات “إيرباص” أو منعهم من ذلك. لقد وجّهت بالطبع بعض التحذيرات إلى وزير الطرق وللرئيس، وقمت بذلك خلال عدة اجتماعات.”
لذلك يجدر بواشنطن أن تطرح سؤالاً واحداً عندما تتخذ قراراً فيما إذا كانت ستمنع بشكل رسمي صفقة شراء الطائرات: إذا كانت الجمهورية الإسلامية تنوي حفر حفرة لنفسها، لمَ عسانا نمنع عنها المجرفة؟
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن