تعتبر القومية والإسلامية العاملين الأساسيين لتعريف الهوية الإيرانية، في مرحلتي ما قبل الثورة الإيرانية وما بعدها، وفقا لرؤية علم صالح وجيمس وارل في بحثهما “بين دارا والخمينـي.. استكشاف إشكالية الهوية القومية في إيران”، الذي ترجمه الباحث محمد العربي، وصدر عن وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية.
يكشف البحث حول الثنائية المستمرة بين النزعتين الإيرانية والإسلامية أن مسألة تكوين هوية وطنية قوية ومتماسكة مثّلت اهتماما عميقا عبر تاريخ إيران المعاصر لدى عوام الإيرانيين ونخبهم السياسية التي سعت إلى خلق شعور مشترك بالهوية القومية الإيرانية “الموحدة”.
لكن، كانت هذه العملية دائما أسيرة الحاجة إلى ربط الهويات بين الثنائيات المتفرقة والثقافات المتعددة مثل: الإسلامية والقومية، وتاريخ ما قبل الإسلام وتاريخ ما بعد الإسلام، والموالاة للغرب والمعاداة للإمبريالية ومعاداة الآخر، بغض النظر عن ضرورة التوافق مع الحداثة نفسها بمختلف أنماطها والتكيف معها.
من هم الإيرانيون
شهدت إيران على مدار القرن الماضـي سلسلة من التحولات الاجتماعية والسياسية الحادة. وكان من شأن ثورتين ونهاية سلالتين حاكمتين ونفي العديد من الشاهات وانقلاب عسكري والعديد من التحركات الشعبية ومحاولة القضاء على البرلمان الوطني والفترات الطويلة من العقوبات الدولية والتدخلات الأجنبية أن تشغل اهتمام الشعب وأن تربك الهوية الوطنية للبلاد. وأضافت ثورة عام 1979 الإسلامية المزيد من التشويش إلى القضية الأساسـية، ألا وهي من هم الإيرانيون؟
ماذا يعني أن يكون المرء فارسيا، مع وجود رؤيتين متصارعتين عن فارس الإسلامية وفارس القديمة
على مدار القرن العشرين على وجه الخصوص، أدى الوضع الدائم للخطابات الإسلامية إلى جانب تلك القومية إلى تناقض في فهم إيران لذاتها. وجزء من أسباب هذا التناقض هو أن الخطابات القومية قد بنيت على أساس من تمجيد لتراث ما قبل الإسلام، الذي دائما ما صور باعتباره المصدر الأصيل للهوية الإيرانية، ويربط فكرة إيران بمساحة معينة، وشعور معين عن الذات، ومعرفة العظمة السابقة. لقد تم تبني هذا الخطاب في الحقبة البهلوية، مع الاستخدام المكثف للماضي التليد الذي لم يستخدم فقط لتعزيز هيبة النظام الملكي ولكن أيضا لإعادة تعزيز الشعور بالقومية الإيرانية.
وكان هذا مناقضا للخطاب الإسلامي الخميني، الذي سعى إلى النأي به عن شرعنة الخطابات والهوية القائمة على أساس قومي، والذهاب بعيدا بقدر الإمكان ليس فقط إلى إعادة فرض الخطاب المؤيد للإسلام، ولكن بدلا من هذا إلى اتخاذ موقف معاد للقومية مستخدما الرؤية الدوغمائية للأمة وذلك من أجل تجاوز الدولة وإيران إلى الدعوة إلى “رسالة عالمية وحكم إسلامي واسع”.
الفروق بين هاتين الهويتين، والتي كانت أوضح بكثير من أي وقت مضى في أعقاب الثورة، تشكل عاملا أصيلا فـي فهم الهوية الإيرانية، كما أن التوترات بينهما هي التي تشكل تحديا أمام أيديولوجيا الدولة والهوية المجتمعية.
ويمكن القول إن قدوم الجمهورية الإسلامية فاقم هذه التصدعات القائمة، وأدى إلى إخفاق الأمل في أن تعمل الهوية الإسلامية كقوة موحدة لكل الإيرانيين، وانعكس هذا في الجدالات المحمومة حول الحكم الديني في مقابل العلمانية، وحقوق الإثنيات.
ويعود جزء من ارتباك إيران بشأن هويتها إلى أن الإيرانيين كانوا دائما تابعين لحكامهم سواء كانوا الشاهات أم آيات الله، وتشكلت هويتهم من أعلى طبقا لهؤلاء. ويطرح هذا تساؤلا عما إذا كان من الممكن أن يكون المرء فارسيّا ومسلما وقوميّا وحاملا للحداثة في الوقت ذاته، والأهم، ماذا تعني إمكانية بناء هوية قومية إيرانية جامعة.
تحفز هذه التماثلات الجدل حول ماذا يعني أن يكون المرء فارسيّا، مع وجود رؤيتين متصارعتين عن فارس الإسلامية وفارس القديمة، تدّعي كل منهما امتلاك اللغة والأدب والطعام والحضارة. ويتضح من هذا أنه إلى حين حل هذه الإشكالية، فإن أي محاولة لبناء هوية إيرانية أوسع محكوم عليها بالفشل.
لكن ذلك لا يعني أن الهويتين لا تلتقيان عند نقطة مشتركة، تبني مشاعر معادية للآخر٬في محاولة لتأسيس هوية الشعب على الثقافة واللغة الفارسيتين٬ باعتبارهما التجسيد الحديث للماضي الإيراني القديم. وعندما يتم مزج التوتر بين الخطابين القومي والإسلامي وحقائق التاريخ ويعتقد المرء أن الأمة موحدة “برؤية خاطئة عن الماضي وكراهية الجوار”، فإن الدور الفعّال للنخب والإعلام والمثقفين والتنظيمات الإدارية والنظام التعليمي في تصوير الأمم الأخرى سلبيّا وتمجيد الذوات الوطنية تخيليّا يصبح أمرا حاسما.
معاداة الآخر
بهذا المعنى، تأسست بنية الهوية القومية في إيران على مشاعر معادية للآخر وعلى تنميط سلبي للأمم المجاورة بدلا من التأسيس على شعور بالخصائص والقيم الإيجابية التـي تُوحّد الإيرانيين. توحد الفكر الشيعي مع القومية الفارسية تعكسه الممارسات الإيرانية في المنطقة الإقليمية وما يجري في العراق واليمن وسوريا، ومحاولات إيران التمدّد إلى خارج حدود دولة فارس. ويقول صالح وجيمس وارل “فيما تدّعي كل من القومية والإسلامية شرعيتهما الأيديولوجية على أسس متناقضة مفاهيميّا، وهو ما يُفسر التوتر الدائم بينهما، فمن الواضح أيضا أن كلا البرنامجين أو الرؤيتين لهوية إيران دائما ما استخدما وجود ‘الآخر’ لتعريف نفسه في المقابل ولحشد الداعمين، وهي العملية التـي شكلت جزءا كبيرا من خطاب كل منهما”.
وهو الأمر الواضح خاصة مع تركيز القوميين والإسلاميين على الخطابات المعادية للإمبريالية والتي اتجهت لتؤكد مفهومي الوحدة الإقليمية والكرامة الوطنية للبلاد، ويساعدنا هذا بدوره ليس فقط في إيضاح طبيعة التوترات بين هذين الكيانين ومدى خطورتهما بالنسبة لإيران ككيان واحد، ولكن الأهم بالنسبة إلينا، أنه يوضح التعالق بين القضايا.
وهذا التعالق ليس مرتبطا فقط بالتداخل الذي تطور بين الهويتين، بل إنه يتجاوز هذا عندما نستكشف تصوري الهوية الإيرانية؛ فقد يبدو الاثنان أنهما في حالة تعارض دائم، ولكن مع فحص أعمق للأسس التـي انبنى عليها التصوران، سنجد أنهما إلى جانب تشارك التوترات، يتشاركان أيضا في العديد من التماثلات والتـي غالبا ما يتم حجبها بالعداوة بين أنصار كلا الهويتين.
ولا تعبِّر عن هذا فقط عناصر مثل المعاداة المستمرة للإمبريالية والحاجة إلى الدفاع عن الحدود الإيرانية، ولكنه يتجاوز هذا ليوضح التصورات المشتركة عن أهمية تبني الجوانب التكنولوجية في الحداثة والأهمية القصوى للفارسية باعتبارها مصدر الثقافة الجامعة بمعنى التقاليد واللغة والأدب.
وإذا كان هذا واضحا أثناء حكم الشاهات القومي، فإنه أيضا ملحوظ تحت حكم النظام الإسلامي الذي سرعان ما وجدت أيديولوجيته أن عليها التكيف مع معطيات أخرى.
محمد الحمامصي
صحيفة العرب اللندنية