المعروف أن الضغوط الإيرانية على حكومة بغداد لم تنقطع حول تحويل «الحشد الشعبي» إلى حرس ثوري عراقي على غرار ما هو موجود في إيران. هذه الضغوط بدأت منذ أن أطلق النائب الإيراني محمد صالح جوكار اقتراحاً بذلك في مارس الماضي قال فيه إن النواة الأولى لمثل هذا الحرس موجودة وتتمثل في «سرايا الخرساني» التي تأسست في ديسمبر 2014 على يد جنرال بالحرس الثوري الإيراني هو «حميد تقوي» قبل مقتله على يد «الدواعش» في سامراء، علماً بأنها تشكلت في إيران من عناصر عراقية عاملة مع «فيلق القدس» من أمثال «علي الياسري» و«حامد الجزائري» اللذين أعلنا في أكثر من مناسبة إيمانهما بفكرة ولاية الفقيه وخضوعهما لكل ما يصدر عن خامنئي وليس السيستاني.
وسرعان ما تلقف قائد الحرس الثوري الإيراني السابق محسن رفيق دوست المقترح، مبدياً استعداد بلاده لمساعدة الحكومة العراقية في هذا الشأن، مضيفاً أن نموذج الحرس الثوري الإيراني أثبت فاعليته في أكثر من مكان، وأنه صالح للعراق وسيساعد الأخير على المستويين الداخلي والخارجي.
ولعل هذا ما شجّع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، الذي لا يمكن التشكيك في ولائه وخضوعه لما يرسم له في طهران مؤخراً على إصدار أمر يقضي بتحويل مليشيا «الحشد الشعبي» إلى جهاز عسكري مستقل مواز للقوات المسلحة العراقية، ضارباً عرض الحائط بكل ما أثير على المستويين المحلي والدولي حول هذه الميليشيات لجهة الانتهاكات التي ارتكبتها بحق المدنيين من سنة العراق في الفلوجة وغيرها.
ولولا بعض الحياء المتبقي لدى ساسة بغداد الحاليين لكانوا أطلقوا على جهازهم الجديد هذا اسم «الحرس الثوري العراقي» صراحة بدلاً من تسميته بجهاز جديد لمكافحة الإرهاب، يضاهي جهاز مكافحة الإرهاب الحالي من حيث التنظيم والارتباط، فضلاً عن تألفه من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة» طبقاً لما ورد في قرار العبادي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الخطوة العراقية المثيرة للجدل والمفضية بلا شك إلى انقسام أوسع في الشارع العراقي هو: هل سيتبنى الحرس الثوري العراقي العقيدة نفسها التي يتبناها نظيره الإيراني لجهة الأهداف والأنشطة والعلاقات مع مكونات الوطن؟ خصوصاً إذا آلت قيادته كما تردد وقت كتابة هذه السطور إلى رئيس الحكومة السابق نوري المالكي المعروف عنه طائفيته الفاقعة وتعطشه للسلطة وديكتاتوريته وولاؤه التام لحكام طهران، ناهيك عن استعداده للذهاب بالعراق بعيداً عن محيطه العربي.
لقد تأسس الحرس الثوري الإيراني، كما هو معروف، بطريقة عشوائية غداة نجاح ما يسمى بالثورة الإسلامية من أجل تمكين الحكم الجديد من بسط سيطرته على مفاصل الدولة الشاهنشاهية التي كان ولاء جيشها موضع شك وقتذاك، وهكذا كانت هذه المؤسسة العسكرية الجديدة ضعيفة التنظيم والتدريب في بداياتها، ويقودها نفر من الإيرانيين الذين تلقوا تدريباتهم العسكرية لدى منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان مثل عباس زماني (أبو شريف)، لكنها راحت شيئاً فشيئاً تتحول إلى جهاز منيع ذي عقيدة إسلامية طائفية وحماس ثوري مؤدلج، خصوصاً بعد مشاركتها مع القوات النظامية في الحرب العراقية- الإيرانية. ولهذا تم تكليفه بتنفيذ المهمة الأكثر قرباً لقلوب ملالي طهران وهي تصدير الثورة إلى الخارج جنباً إلى جنب مع مهمات الدفاع عن مبادئ «الجمهورية الإسلامية» في الداخل، وتنشئة الجيل الجديد نشأة مستمدة من أيديولوجية الولي الفقيه، والعمل كشرطة آداب في المجتمع. ومع تزايد المهمات القذرة الموكلة إليه داخلياً وخارجياً، وخصوصاً أعمال التجسس والرصد والقمع والاغتيال والإرهاب، قويت شوكته وتحول إلى جهاز ثوري متماسك ومعقد، ولاعب محوري على ساحة السياسة الداخلية تسعى الأطراف المحلية ذات المصالح والطموحات المتباينة إلى التقرب من قادته واستمالتهم، علماً بأن الذين تناولوا هذا الجهاز أجمعوا على أن استمرار النظام الذي أقامه الخميني يعود جزئياً إلى قدرة الحرس الثوري الإيراني على أمرين هما التعبئة الجماهيرية عند الحاجة، وإقامة مؤسسات ثورية قادرة على احتواء القوى الاجتماعية الكثيرة التي ساهمت في إسقاط الشاه.
أما علاقته بالجيش النظامي فقد خيمت عليها ظلال المنافسة لعدة أسباب من بينها تمتع الحرس وقادته بأدوار وامتيازات لا تعطى للجيش وجنرالاته وأفراده، وتفضيل خامنئي وزمرته من الملالي للحرس عوضاً عن الجيش بسبب قيام الأول بحماية نظامهم العقائدي وتنفيذ أجنداتهم الطائفية في العالم الإسلامي، ومساهمته في الصناعات الحربية الإيرانية، واستمرار حماسه الثوري الأيديولوجي، يشهد على ذلك ما قام به الحرس خلال السنوات الماضية من أدوار حاسمة على صعيدي قمع معارضة الداخل وحشد المظاهرات المؤيدة للنظام، والمساهمة في بناء القوة النووية الإيرانية من جهة، والتدخل الوقح في شؤون الدول المجاورة بهدف تصدير أفكار الثورة الخمينية البائسة من جهة أخرى.
فهل العراق بحاجة يا ترى، بعد كل ما شهده من انتكاسات وإخفاقات وحروب منذ عام 2003، إلى جهاز يعمق الشرخ الطائفي، ويحجم دور الجيش الوطني، ويتدخل في شؤون دول الجوار، ويبني النفوذ وما يتبعه من فساد ومحسوبية من خلال اللعب على التناقضات المحلية؟
طهران ترد وتقول نعم، بطبيعة الحال، لأنها باتت تعتبر العراق جزءاً من الإمبراطورية التي تحلم بها، وبالتالي يجب أن يكون صنواً لها في مشاريعها وهياكلها المدنية والعسكرية. وقادة العراق لا يملكون سوى مجاراة ما تقوله طهران بالسمع والطاعة.
د. عبدالله المدني
نقلا عن الاتحاد