تمر الأزمة السورية في مرحلة من التصعيد غير المسبوق، ومن ازدياد حجم التدخل الخارجي في الحرب الدائرة. لم يكن الدخول التركي إلى سورية إلا واحداً من مستلزمات الحرب التي يديرها المحوران الأميركي والروسي. يتأكد يوماً بعد يوم أن سائر اللاعبين الإقليميين ليسوا سوى أدوات تعمل تحت عباءة الطرفين الأميركي والروسي، سواء منها أكانت إيران وتركيا وإسرائيل ومعها النظام السوري، ناهيك بالميليشيات الإيرانية المنخرطة في الحرب والتي يحملها وهم أنها تقوم بتغيير وجه التاريخ. في غابة التدخلات الإقليمية، يبدو الدور العربي الأقل فاعلية وتأثيراً، إذا لم نقل شبه معدوم، في الحرب الدائرة أم في الحلول المطروحة لإنهاء الأزمة.
لم يكن غياب الدور العربي مطلع اندلاع الأزمة السورية عل شاكلته الراهنة. وللتذكير، كانت الأزمة السورية بنداً دائماً على جداول اجتماعات الجامعة العربية، ودار صراع غير قليل حول الحرب واتخذ أكثر من قطر موقفاً واضحاً من نظام بشار الأسد، وكانت الديبلوماسية العربية ناشطة في الأمم المتحدة وعلى صعيد المنظمات الحقوقية والإنسانية. كما كان هناك احتضان لافت لقوى المعارضة السورية ودعمها بالمال والسلاح. هذه اللوحة تقلصت خلال السنتين الأخيرتين، وبات الفعل العربي أقل الأصوات علواً، وتقلص دعم المعارضة أو المعارضات، وحصل تراجع عن وعود بتسليحها سلاحاً نوعياً يساهم في إسقاط النظام. قد يكون هذا التقلص في الدور العربي ناجماً عن أسباب موضوعية تتصل بمجريات الأحداث في العالم العربي، وقد يكون بعضه خاضعاً لمواقف الدول الكبرى وهيمنتها وسياساتها التي تمنع التغيير في ميزان القوى، وعدم حسم أي طرف للحرب، بما يجعلها مفتوحة ولا تغلق إلا بعد اتفاق الكبار على الصغار، إقليميين وسوريين.
في العوامل الموضوعية، لا يجب التقليل من آثار غرق العالم العربي في حروب أهلية وفي فوضى عبثية تضرب أكثر من قطر فيه وتشل فاعليته. امتداد اللهيب جعل الأزمة السورية إحدى كرات هذا اللهب، على غرار ما يصيب أخواتها في العراق واليمن وليبيا والبحرين. كلها مناطق ساخنة تحتاج الى سلاح ومال في إدارتها. صحيح أن سورية قد تكون الدولة الأهم من الزاوية الاستراتيجية ذات التأثير على مجمل العالم العربي، وعلى دول الإقليم وحتى العالم. لم تكن غائبة أهمية هذا الموقع سابقاً، عندما كان يطغى على الأزمة الطابع المحلي والاحتضان العربي للانتفاضة ولقواها. تطور الأزمة وامتدادها، في الجغرافيا السورية وفي المدى الزمني، جعلاها تنتقل الى أيادي قوى أخرى دولية أساساً. لم يكن خفياً أن النظام أو القوى الإقليمية والدولية صنعت، وبتعمد، تنظيمات إرهابية مثل «داعش» و «النصرة»، وحولت سورية الى أرض حروب بديلة وتصفية حسابات دولية أو إقليمية. كما أرادت هذه القوى عبر تشجيع دخول الإرهابيين الى سورية زج هؤلاء في أتون صراع مسلح بين بعضها البعض، وفق وهم القضاء على الإرهاب قبل أن يصل الى الدول الغربية أو الإقليمية. لذا يمكن القول إن تراجع الدور العربي ارتبط وثيقاً بهموم بعض الأقطار العربية وبتدخلات دولية، خصوصاً أميركية، كانت حاسمة في تكريس هذا التراجع وفق خط إطالة الحرب الى أبعد زمن ممكن.
إذا كان العجز العربي عن إنقاذ سورية عسكرياً يجد له بعض المبررات في كون التدخل محكوماً بسياسات الدول الكبرى وخصوصاً منها الولايات المتحدة، فإن التلكؤ عن الدعم المادي للشعب السوري ليس له المبررات نفسها. ما حصل في سورية نتجت منه أكبر مأساة إنسانية عرفها القرن الحديث بعد الحروب العالمية، فليس بسيطاً تهجير نصف هذا الشعب، وخضوعه للإذلال والمهانة والعنصرية في كل مكان أجبر على اللجوء اليه. لا يتناسب الدعم العربي مع حجم المأساة ولا مع الإمكانات المادية التي يملكها العرب لتقديم الدعم.
إن ما يجرى في سورية سيترك أثره البعيد سلباً على مجمل العالم العربي، فسورية بوابة الاستقرار وبوابة الفوضى في الآن نفسه. وهي مصدر قوة للعالم العربي عندما تكون مستقرة ومتماسكة، ومصدر ضعف له عندما تسودها الفوضى. هذا هو تاريخ سورية الحديث منذ استقلالها منتصف القرن العشرين. سيكتشف العرب سريعاً النتائج السلبية لانهيار الموقع السوري في معادلة التضامن العربي، كما لن يكون بعيداً انعكاس التفتت السوري، الجغرافي والبشري والاجتماعي، على مجمل الأقطار العربية، غير المحصنة من انتقال العدوى السورية الى مجتمعاتها.
خالد غزال
صحيفة الحياة اللندنية