في سجن يقع في شمال العراق، يصف جنود “داعش” الأسرى جرائمهم والأسباب التي دفعتهم إلى تبني أيديولوجيتهم الإجرامية.
* * *
ذهبت اللحى السوداء الكثيفة التي تجعل مقاتلي “داعش” يبدون مثل فتوات مرعبين مضخَّمين. وكذلك حال الملابس والمعدات العسكرية المميزة التي يرتدونها وهم يسيرون مختالين في شوارع المدن التي استولوا عليها، مثل الموصل. وهنا في سجن إصلاح الراشدين في دهوك بكردستان العراقية، يبدو جه محمد محمود صبيانياً وحليقاً. ويبلغ محمد من العمر عشرين عاماً ويبدو بكل المقاييس أشبه بفتى يدرس إدارة الفنادق.
مثل العديد من مجندي “داعش”، هرب محمد مما رآه حياة فاشلة في الموصل في حزيران (يونيو) 2014، وانضم إلى جماعة “داعش”، لأنهم “كانوا كلهم أصدقائي”. وقال إن هدف “داعش” هو “حكم العالم كله، ورفع رايتهم في كل مكان، وحكم الجميع وفق القرآن”.
ويقول زميله في السجن، لقمان صالح محمد، البالغ من العمر 29 عاماً: “إنهم يريدون قتل موظفي الحكومات الأثرياء وغير المسلمين”.
وكانت مهمة محمد محمود ترتيب عملية تسليم الفتيات الأسيرات، غالباً اليزيديات -ويفضل الفتيات الجميلات ذوات العيون الزرقاء- للمقاتلين. كان للمقاتلين الحق في أخذ أي فتاة يريدونها. وكان باستطاعة كل قائد أن يأخذ أربع فتيات. كنا نحتفظ بالفتيات في سجن ونطلب من المقاتلين المجيء واختيار واحدة منهن لأنفسهم”. لكن هناك أعراف يجب أن تبعها هؤلاء المغتصبون الطقوسيون قبل أخذ الفتاة: يجب عليك أولاً أن تدعوها إلى اعتناق الإسلام. ثم يمكنك أن تتزوجها وتقيم علاقة جسدية معها. ثانياً، إذا رفضت التحول إلى الإسلام تصبح أمة وتستطيع عندئذ إقامة علاقة جسدية معها.
عرف محمد العديد من السبايا، ويقول إنه شاهد سبية صغيرة -ربما تبلغ من العمر 12 عاماً- وهي تقوم بتنظيف أرضية منزل مقاتل وتمسح بعناية تحت بندقيته بينما كان يغط في النوم. لكنه يسرد قصة أخرى عن فتاتين قتلتا الرجل الذي كان يتولى الحراسة عليهما. وقد هربتا، وإنما تم إلقاء القبض عليهما وتعذيبهما وقتلهما بعد ذلك. ويسرد محمد قصصه المرعبة برباطة جأش تجعل المستمع يستغرب من الندم الذي يدعي أنه يحمله عن الجرائم التي ارتكبها. وقد أدين بالإرهاب وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً. وعندما أطلع على صورة فتاة تحاول عائلتها تحديد مكانها، قال: “وجهها مألوف لدي”. والسؤال الآتي: كيف يمكن أن ترتب العائلة للإفراج عن هذه الفتاة؟ يحاول محمد عقد صفقة: “أخرجوني من هنا وسأقوم بعمل ما يلزم. ما عليكم إلا دفع فدية للفتاة”.
وفي حوار مع مراسل “مكلينز” عن طريقة عمل “داعش” المرعب، يكشف الأساسيات:
يوجه إليه السؤال: “لماذا الكثير من شهوة سفك الدماء، ولماذا الكثير من القتل؟”.
ويجيب: “إذا لم تكن مسلماً، يجب علي أن أقتلك”.
“لماذا؟ أنا لست من هنا. أنا لا أعرفك. لماذا يجب علي أن أكون مثلك؟”
فيسأل: “ما دينك؟”.
“أنا ليس لي دين”.
محمود -صمت- ثم هذا: يسحب يده بعناية على حنجرته (في إشارة إلى الذبح).
معظم الرجال الـ235 الموجودين قيد الأسر هنا هم من الشباب، وأغلبهم كانوا يسعون إلى المغامرة أو الهرب من المشاكل. والمعتقلون الموجودون في هذا القسم من السجن هم من جنود “داعش” الذين ألقى القبض عليهم المقاتلون الأكراد الذين يعرفون بالبشمرغة. وكانت لدى أحدهم مشكلة مع صديقته عندما انضم إلى “داعش”، وآخر كان بلا نقود ويبحث عن عمل. وكان ثالث على خلاف مع والديه.
وهناك الكثير من المتشددين أيضاً. هناك قتيبة أحمد قاسم، 20 عاماً، الذي يتحدر من حلب؛ المدينة السورية الخاضعة للحصار، والذي يقول إنه انضم إلى “داعش” في العام 2012 لأن “أعداء الإسلام هم أعدائي. الله مهم جداً بالنسبة لي، فهو الذي خلقني. لذلك يجب على الجميع أن يتحولوا إلى الإسلام”. وكان قد شاهد الدمار الذي أمطر به بشار الأسد مدينة حلب، وقرر أن ينتقم بالانضمام إلى نظام أكثر وحشية. وأسرته قوات البشمرغة وهو يرتدي سترة انتحارية. وفي دفاع انتهازي متلعثم عن أفعاله، يقول: “كنت أخطط لنسف الشيعة وليس البشمرغة، لذلك لم يكن يجب أن يأسروني”. وعندما سئل عن السبب في أنه كان يريد قتل إخوانه المسلمين، قال: “صحيح أنهم يصلون مثلنا، لكنهم ليسوا مسلمين حقيقيين”.
ويصر قتيبة على أن الإسلام ليس دين قتل. ويقول: “إننا ندعو الناس إلى الله، فإذا رفضوا الاستجابة”- من واحد ممن يسميهم أهل الكتاب: المسيحيين واليهود- “فيجب عليهم دفع الجزية أو الخروج من الأرض. لكنهم أما إذا كانوا كافرين (من دين آخر) فيجب قتلهم”.
وقد أدين قتيبة بالإرهاب وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. ويدعي أنه مستعد لتقديم اعتذار للأبرياء، “وإنما ليس لأولئك الذين يسحتقون القتل”.
ويدعي كل هؤلاء المعتقلين أن نهاية “داعش” أصبحت قريبة. ويقول مثنى إبراهيم، 28 عاماً، والذي كان يعمل طاهياً لدى “داعش” إن “البشمرغة ستكسب”. ويضيف: “العالم بأسره يقف ضدهم (داعش)”.
تشكل حياة السجن لهؤلاء الرجال نموذجاً لإعادة التأهيل. وكان محمد حسن محمد، مدير السجن، سافر إلى كل أوروبا وإسكندنافيا للتعرف إلى سياسات الإصلاح الحديثة. ويكتسي المرفق باللون الأبيض في أغلبه، وهو قديم وفسيح تماماً. والقاعات التي تفضي إلى الزنازين واسعة، وتوجد في الأروقة التي تؤوي السجناء طاولات لتنس الطاولة. وهناك فصول دراسية، بالإضافة إلى ورشات عمل في المعادن والأخشاب ومركز للخياطة (يخيط بعض نزلاء السجن الملابس للنزلاء الآخرين)، وهناك وحدة للدعم النفسي والاجتماعي، وقاعة رياضة مع كافة المعدات التي يضمها مركز رياضي في وسط البلد، ومكتبة وبركة سباحة في الهواء الطلق، وحديقة كبيرة حيث يزرع السجناء كل الخضروات التي يستهلكها موظفو السجن ونزلاؤه.
ويشرح مدير السجن أن سجناء “داعش” الموجودين في هذا المرفق أدينوا بطائفة من الجرائم، بما في ذلك قتل مدنيين وجنود من قوات البشمرغة. وقال “إن تسعة وتسعين في المائة منهم من الموصل، وكل التهم متعلقة بالإرهاب لأنها لا توجد لدينا تهم بالإبادة الجماعية هنا. وهم يقضون مدد سجن تتراوح بين بين 10 و15 و20 سنة”.
لكن المكان هادئ بشكل استثنائي. ويبدو أنه فريد قياساً بالأوصاف الاعتيادية للسجون في المنطقة. وفي الحقيقة، لم يكن كبار قادة “داعش” الأسرى موجودين في هذا المرفق. لكن المدير يقول إنه يشعر بقوة بإعادة تأهيل السجناء. ويقول: “نحن نحاول أن نغير مظهرهم الخارجي أولاً: لا لحى طويلة ولا ملابس سوداء كالعباءات. ونقول لهم إن الصلاة في كل ساعة لا ينص عليها القرآن؛ إنهم يجتاجون إلى الصلاة خمس مرات في اليوم فقط”.
كما يقول أيضاً إن 70 في المائة من سجناء “داعش” يعربون عن الندم على ما اقترفوه ضد الناس الآخرين. لكن حارساً في السجن كان حاضراً خلال المقابلات التي أجرتها “مكلين” مع السجناء لديه وجهة نظر أخرى. عندما أعرب لقمان صالح محمد عن الندم ووخز الضمير بسبب الجرائم التي ارتكبها والتي حكم عليه بالسجن 15 عاماً بسببها، وقال “عسى الله أن ينتقم من داعش ويدمره”، قال الحارس “لا تخدعي نفسك: هؤلاء الرجال يمكن أن يغتصبونك ويقطعون رأسك في ثانية. إنهم كلهم حيوانات”.
من السهل افتراض أنهم مرضى نفسيون على الأقل، يقومون بقطع الرؤوس واغتصاب البنات الصغيرات وإلقاء المثليين من على أسطح البنايات المرتفعة، وحرق الناس في أقفاص وهم أحياء. لكن بايام أكافان، المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وأستاذ كلية الحقوق في جامعة مكغيل في مونتريال بكندا حالياً، يقول أن هذا الوصف سهل جداً. ويضيف: “إنهم أناس عاديون غاضبون جداً ومغسولي الأدمغة. وإذا أريد أن يكون هناك تعايش في هذه المنطقة، فيجب أن يكون هناك اعتذار وأسف عميق. العدالة تتعلق بتحويل قواعد السلطة والشرعية، إنها لا تتعلق بالقانون فقط. يجب حقن هؤلاء الناس ضد مرض الإرهاب”.
من الصعب معرفة أن السجناء الذين يظهرون أنفسهم وكأنهم معتذرين ربما يتمنون لو أنهم يعودون طليقين مرة أخرى لأسر الفتيات اليزيديات وجعلهن رقيق جنس وتنفيذ عقوباتهم البشعة بحق الصحفيين وعمال الإغاثة الإنسانية والمارة الأبرياء، أو ما إذا كانوا قد خرجوا بحق من عاصفة الكراهية وصلح حالهم وتحولوا إلى شيء يشبه المواطنين العاديين. وبينما يغادرون وأيديهم مقيدة وراء ظهورهم عائدين إلى زنازينهم بصحبة الحراس، لا بد أن تتساءل بينك وبين نفسك: من منهم كان سيقود شاحنة ليدوس بها حشداً من العائلات في يوم ذكرى الباستيل في نيس؛ ومن منهم كان سيشهر بندقيته في بار في أورلاندو، ومن منهم سينضم إلى خلية في باريس أو بروكسل لنشر الرعب والموت؟
عندما تنتهي المقابلة مع محمد محمود، يسير حسين حسون -الرجل اليزيدي العضو في اللجنة الحكومية العليا للاعتراف بالإبادة الجاعية لليزيديديين والأكراد والمجموعات الدينية والعرقية الأخرى، يسير نحوه ويقول: “هل تعرف من أنا؟ أنا يزيدي. كنتُ في جبل سنجار عندما هاجمتمونا. أنا لا أكرهك”. ويحدق محمود في وجهه -بلا كلام- ثم تظهر الدموع في عينيه.
سالي آرمسترونغ
صحيفة الغد