يشكل قتل زعيم الدعاية في “داعش” نجاحاً نادراً في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة والتي ناضلت من أجل التصدي للإعلام الجهادي كبير الوصول للمجموعة الإرهابية.
* * *
بدت إمبراطوريته الدعائية الرهيبة وأنها لا تعرف حدوداً. صور قطع رؤوس الصحفيين، وإحراق الأسرى في الأقفاص، وذبح القوات العراقية. ويبدو أنه لم يكن هناك أي شيء خارج الحدود بالنسبة لإمبراطورية الفيديو الجهادية التي بناها أبو محمد العدناني.
كناطق إعلامي باسم تنظيم “داعش” ومدير لعملياته الخارجية، بنى العدناني جهاز دعاية جلب المجندين الجدد وألهم الهجمات الإرهابية في كل أنحاء المعمورة. والآن، قتل مهندس هذه الآلة الإعلامية في ضربة جوية أميركية، لكن جهاز الإعلام الذي أسسه سوف يعيش.
أثبتت مكافحة الدعاية الخادعة التي تنتشر مثل الفيروس لتنظيم “داعش” أنها جهد محبط وصعب جداً بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. لكن إدارة أوباما تعتقد أنها وجهت ضربة قوية لماكينة تسويق المجموعة مؤخراً من خلال قتل العدناني، العقل المدبر وراء سيل الكراهية والتطرف والميثولوجيا الإسلامية، ومهندس قدرة المجموعة على توجيه الضربات في ميادين بعيدة، مثل باريس وبروكسل.
ويؤكد استهداف الطائرات الحربية الأميركية للعدناني كيف أن القتال ضد دعاية “داعش” يحمل الأهمية نفسها التي يوليها التحالف بقيادة الولايات المتحدة للحرب التي تخاض على الأرض في العراق وسورية؛ حيث أعلنت المجموعة عن إقامة ما تدعى “الخلافة”.
وكان السوري البالغ من العمر 37 عاماً الناطق الرئيسي بلسان “داعش”، ثم لاحقاً ورئيس وحدة تخطط لشن الهجمات في الغرب وفي أمكنة أخرى، قد بنى ذراع دعاية المجموعة كسلاح نافذ، سوية مع أشرطة فيديو منتجة بدقة ومنشورات إعلامية مجتمعية التي سعت إلى توفير داعمين على الشبكة الإلكترونية ومجندين محتملين للتنظيم.
يقول خبراء إن سيرة العدناني تذكر بتجربة أنور العولقي، رجل الدين الأميركي-اليمني الذي كان قادراً على التواصل مع المتعاطفين المحتملين مع “القاعدة” بمهارة في جميع أنحاء العالم، بينما كانت لديه مهارة أيضاً في الجانب العملياتي من التخطيط الإرهابي.
كانت حرفة العدناني الجهادية في وسائط الإعلام المتعددة قد شكلت انفصالاً عن التقنيات القديمة للجيل الأكبر من القادة الجهاديين مثل أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، الذي درج لسنوات على استخدام أشرطة الكاسيت المهربة للوصول إلى المتدينين، وتكلف العناء في الوصول إلى المجندين الجدد. لكن العدناني عاش وانتعش على شبكة الإنترنت.
يقول الأستاذ بروس هوفمان، مدير مركز الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون: “لقد وضع (العدناني) جهاز اتصالات يناسب الزمن ويواكب التكنولوجيا”. وأضاف أنه: “لقد عرف الطاقة الهائلة والدور الكبير للإعلام الاجتماعي”.
من خلال الجمع بين دوري الناطق الرسمي ومدير العمليات فيما وراء حدود “خلافة” داعش المنكمشة بازدياد، جسد العدناني العمودين التوأمين للوصول العالمي للمجموعة. فكناطق باسم المجموعة، كان رأس الحربة في حملة الدعاية الثورية التي ألهمت الأتباع وحفزتهم على شن العشرات من الهجمات في الخارج واجتذبت آلاف المجندين إلى سورية والعراق. وكمدير للعمليات الخارجية، أشرف على وحدة نفذت هجمات إرهابية مشهودة في باريس وبروكسل وأمكنة أخرى، وأسفرت عن مقتل مئات الأشخاص.
وقال مسؤول أميركي سابق عمل في مجال جهود مكافحة الإرهاب: “كان العدناني صوتاً حساساً في دعاية داعش، بالإضافة إلى تخطيط الهجمات خارج المنطقة”. وقال المسؤول لمجلة فورين بوليسي: “من الصعب الحط من قدر التحول في التخطيط للهجمات خارج الشرق الأوسط على مدار الأعوام القليلة الماضية، ويعود الفضل في كثير من ذلك التحول إلى العدناني”.
من جهتها، قالت وزارة الدفاع الأميركية إن مقتل العدناني شكل نكسة رئيسية لتنظيم “داعش”، نظراً إلى أنه هندس رسائلها الإعلامية، بالإضافة إلى موجة من الهجمات المميتة في أوروبا.
ولكن، بينما قد يكون مقتل العدناني قد ألحق ضرراً مؤقتاً بالإعلام الجهادي للمجموعة، فإن جهازها الدعائي يبقى موجوداً، وسوف يستمر في استغلال الاستياء الطائفي ومخاوف العرب السنة في العراق وفي الحرب الأهلية السورية، كما قال خبراء ودبلوماسيون سابقون.
توفر وحشية النظام السوري بقيادة بشار الأسد بالإضافة إلى الخط المتشدد للميليشيات الشيعية في العراق والتي قمعت السنة، ظروفاً خصبة لتنظيم “داعش” في موضوع التجنيد، كما قال روبرت فورد، السفير الأميركي السابق لدى سورية، وزميل معهد الشرق الأوسط. وقال فورد لفورين بوليسي: “من الصعب إطفاء جذوة التنظيمات الإرهابية مثل تلك طالما كانت تتمتع بدعم شعبي”.
بعد ساعات من موته، كما قالت التقارير، أصبح العدناني موضوعاً لمعركة دعائية جديدة -بين روسيا والولايات المتحدة هذه المرة. فبعد يوم من قول وزارة الدفاع الأميركية إنها تحاول تأكيد موت العدناني في ضربة “محكمة” في شمال محافظة حلب، حاولت موسكو نسبة الفضل في مقتله لنفسها، وادعت أن قواتها هي التي قتلت المسؤول رقم 2 في “داعش”.
لكن الناطق بلسان البنتاغون، بيتر كوك، رفض صراحة الادعاء الروسي، وقال للصحفيين: “ليست لدينا أي معلومات عند هذه النقطة لدعم ادعاءات الروس بأنهم هم الذين نفذوا هذه الضربة”.
وقال كوك إن الولايات المتحدة ضربت العدناني “بعد مراجعة مكثفة” للهدف. وفي هجوم على العمليات الروسية في سورية، لاحظ كوك أن الطائرات الروسية نادراً ما تستهدف أتباع “داعش”. وقال إن روسيا “تنفق الكثير من وقتها في دعم نظام الأسد”.
لا يشكل مقتل العدناني المرة الأولى التي تحاول فيها واشنطن إسكات الإعلام الإرهابي عبر إسقاط قنابل على الرجال الذين يصنعون الدعاية. فقد كان “الجهادي جون”، الجلاد البريطاني سيئ الصيت الذي ذبح رهائن أجانب قد قتل في ضربة جوية في العام 2015. وقتل سمير خان، الأميركي من كارولاينا الشمالية والذي ترأس تحرير مجلة ناطقة بالانجليزية كانت مكرسة لتمجيد إرهاب تنظيم القاعدة في ضربة أميركية في اليمن. وثمة الدعائي الأكثر تأثيراً من الجميع في حقبة ما بعد 11/9، العولقي الأميركي المولد، الذي قتل في غارة جوية بعد جهد مطول وشاق لاصطياده.
سعى العدناني، مثل العولقي، إلى توسيع وصول المجموعة. وفي تسجيل يعود إلى شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2014، دعا العدناني إلى توجيه ضربات ضد أهداف غربية، قائلا: “سنضربكم في عقر داركم”، مشجعاً المسلمين على قتل الأميركيين والأوروبيين بأي طريقة ممكنة: “حطموا رأسه بصخرة، أو دوسوه بسياراتكم”، كما قال طبقاً للترجمة من مجموعة الاستخبارات “سايت”.
يعتبر محللون ومسؤولون أميركيون تلك الرسالة لحظة فارقة في مساعدة وإلهام موجة من الهجمات التي شنها أشخاص لديهم اتصال قليل أو غير عملي مع “داعش”.
في سان بيرناردينو في كاليفورنيا وأورلاندو في فلوريدا، نفذ مسلحون يدعون أنهم يعملون نيابة عن المجموعة، عمليات إطلاق نار جماعية. ومع أن المسؤولين وجدوا القليل -أو لم يجدوا أي دليل على وجود اتصال بين مطلقي النار والمجموعة الإرهابية، فقد تبنى “داعش” المهاجمين بحماس، ووصفهم بأنهم جنود “الدولة الإسلامية”. وهذه هي استراتيجية الإرهاب المستلهم الذي يحمل إشارات إلى بصمات العدناني.
في أيار (مايو)، دعا العدناني أتباع “داعش” إلى تحويل شهر الصيام، رمضان، إلى شهر “كارثي في كل مكان يوجد فيه كفار… وخاصة من جانب مقاتلي وأنصار الخلافة في أوروبا وأميركا”. وبعد إطلاق النار في نادي المثليين في أورلاندو، والذي أسفر عن مقتل 49 شخصاً، وقعت هجمات دموية أخرى نسبت لـ”داعش” في إسطنبول وبنغلاديش وبغداد.
بينما سارع “داعش” لتولي الريادة والنفوذ في العالم الجهادي، نجم العدناني أيضاً كبطل رئيسي في حرب الكلمات مع تنظيم القاعدة، كما كان قد فعل في سنواته التكوينية في العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003. وفي رسالة في نيسان (أبريل) من العام 2014، قال العدناني إن “داعش” حمل راية أسامة بن لادن الجهادية، وإن “القاعدة” قد انحرفت عن الطريق الصحيح لقتال الكفار.
كانت الولايات المتحدة قد أنفقت مئات الملايين من الدولارات وهي تحاول التصدي لدعاية العدناني وغيره من الإسلاميين المتطرفين من خلال سلسلة من البرامج التي أشرفت عليها وزارات الخارجية والأمن الداخلي والدفاع، بالإضافة إلى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. لكنها لم تنجح في منع مجموعات مثل “داعش” من إلهام تنفيذ هجمات من حول المعمورة.
وثمة مصدر خاص لإحراج جهود واشنطن، والذي كان مركز وزارة الخارجية للاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب. وقد أصبح المركز الذي عرف أكثر ما يكون بتعقب الجهاديين على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” وفي إنتاج أشرطة فيديو دعائية معادية باللغة الإنجليزية، أصبح موضع سخرية على نطاق واسع باعتباره غير فعال وغير منتج. وفي وقت سابق من هذا العام، توقف المركز عن إنتاج الأشرطة باللغة الإنجليزية ومتابعة مستخدمي الشبطة من “داعش” على “تويتر”، وباشر بدلاً من ذلك في مساعدة الحكومات الأجنبية في إدارة مراكز تصد للرسائل، مثل المركز في دولة الإمارات، أو المراكز الجديدة في ماليزيا ونيجيريا. وفي الأثناء، يأمل المسؤولون في أن ينتج المركز الذي عرف مؤخراً بأنه مركز الإشغال العالمي نتائج أفضل عبر التخفيف من اقترانه بالحكومة الأميركية.
وقال ريتشارد ستينغل، مسؤول الدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية لصحيفة “نيويورك تايمز” في الشهر الماضي: “لسنا الرسول الأكثر فعالية لإيصال رسالتنا. ليس هناك تغريدة من وزارة الخارجية الأميركية يمكن أن تتمكن مخاطبة شاب وثنيه عن الانضمام إلى داعش”. وكانت موازنة المركز قد تضاعفت ثلاث مرات في هذا العام لتصل إلى 16 مليون دولار بعد شكاوى واسعة النطاق من جهوده السابقة.
لطالما أمل مسؤولون أميركيون وقادة كبار بأنه إذا مني “داعش” بضربة قاصمة وهزيمة دائمة في ميدان المعركة، فإن قبول دعايته سيتضاءل، لأنه لن يكون قادراً على بيع فكرة الخلافة للمسلمين الساعين للعودة إلى المثال القديم.
وعلى الرغم من أن العدناني كان دعائياً ماهراً، فإن سجله كقائد ميداني واستراتيجي كان أقل تأثيراً. وبينما كان ثاني أكبر القادة تمتعاً بالنفوذ في التنظيم، فقد مني “داعش” بهزيمة في إثر أخرى في العام الماضي في سورية والعراق -والأحدث في ليبيا.
يقول هوفمان إنه لو نجا العدناني، فإن حملته الدعائية ربما تتحلل مع أراضي الدولة الإسلامية. ويضيف: “يمكن إحالة الكثير من تراجعات داعش الأخيرة إلى العدناني. لقد كانت الأمور سيئة وتنحدر إلى الأسفل مسبقاً”.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد