مع مطلع الألفية الثالثة أصبح العرب والمسلمون السنّة عنوانا وحيدا للتطرف والإرهاب، وبدأت الإدارة الأميركية في تسويق هذه النظرية بعد حادث تفجير برجيْ التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، ومنذ ذلك التاريخ نجحت وبشكل كبير شبكة إعلامية واسعة ملحقة بالمجتمع الدولي في تقديم قراءة مغلوطة محملة بالأكاذيب وبمشاعر الكراهية ضد العرب والمسلمين، الذين عجزوا، لأسباب كثيرة حتى هذه اللحظة، عن تقديم خطاب عقلاني وممارسة دور سياسي فاعل وناجح يؤكد بطلان هذه التهمة وبراءتهم منها.
من هنا كان عليهم أن يدفعوا الثمن باهظا دون أن يكون أمامهم أي أمل قريب للخروج من هذا النفق المظلم، فسقطت دول وأنظمة ما كان متوقعا أن تكون نهايتها على الصورة المدمرة والسريعة التي انتهت إليها، ومازال مسلسل التدمير مستمرا بشكل متصاعد وربما يأتي بنتائج أشد خطورة مما شهدنا.
الغرابة في الأجندة الإعلامية التي تشتغل على شيطنة العرب والمسلمين السنة تكمن في اشتراك قوى محلية بتنفيذها، وإصرار هذه القوى على ترديد مصطلحاتها بشكل متكرر، وكل واحدة منها ربما لها أسبابها الذاتية التي تدفعها إلى أن تضع نفسها في هذا الموضع، حيث تصبح شريكة بهذه الأجندة، سواء كانت تعلم بما تخفيه من أهداف أم لا تعلم.
ومهما كان لها من الأسباب الموضوعية بالشكل الذي يجعلها تشعر بالظلم أو التهميش أو الإقصاء سواء من الناحية القومية أو الدينية إلى غير ذلك من الأسباب، إلا أن هذا لا يبرر انخراطها في لعبة قائمة على تزوير الحقائق أو القفز عليها، وأن تسمح لنفسها بالتورط في عمليات نزع الثقة والتشكيك بنوايا العرب والمسلمين السنة إزاء غيرهم من الجماعات والطوائف الدينية، لأنها بذلك تتجاهل تاريخا طويلا من العلاقات الإنسانية في ما بينها وبينهم، وهي تعلم قبل غيرها أن في سياق هذا التاريخ هناك الكثير من المحطات المشرقة التي كانوا فيها شركاء في ابتكارها، وعلى ذلك فهي بهذا الموقف الذي لا تُحسد عليه تضع نفسها في حالة من التوافق والتماهي مع إستراتيجية مجتمع دولي انكشف زيفه بما أفرزته مواقفه وتدخلاته من صراعات دموية بين شعوب منطقة الشرق الأوسط، ربما كان العراق أول شاهد عليها عام 2003 ومن ثم سوريا ومن بعدها اليمن، وفي جميع هذه البلدان ثبت بطلان ادعاءات المجتمع الدولي بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات بعد أن جند للترويج لها منظومة إعلامية واسعة اشتركت فيها قنوات إعلامية غربية واصطفت معها شبكة من القنوات والوسائل الإعلامية المحلية.
الأخبار الشحيحة الهاربة من الموصل كانت تعيد إلى الأذهان الصورة الحقيقية لأهلها، حيث المسلمون والمسيحيون كانوا شركاء في صنع سفرها الحضاري عبر العشرات من السنين
ولأجل استكمال مفردات نجاح هذه الإستراتيجية تم تأهيل عناصر محلية وفق منظورها ولغتها ومصطلحاتها في ورش تدريب وتطوير لإمكاناتها، وكان العراق النموذج الأول الذي طُبِّقت عليه هذه الإستراتيجية مبكرا، أي قبل سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي في 9 أبريل 2003. آنذاك تحركت الدوائر الأميركية المعنية بهذا الموضوع بين أوساط العراقيين المهاجرين واللاجئين في أميركا وأوروبا فاستجاب للدعوة شعراء وكتاب وصحفيون بعد أن أجابوا على أسئلة موجهة إليهم تضمنتها استمارات وزعت عليهم لمعرفة الأعمال التي يرغبون في الانخراط فيها بعد سقوط نظام البعث والرواتب التي يطلبونها، وأصبح هؤلاء في ما بعد أدواتها الناعمة التي تولت المسؤولية والعمل في العديد من القنوات والوسائل الصحافية والإعلامية، وبعضهم ارتقى ليصبح نائبا في البرلمان، وهذه المعلومات أشار إليها بالتفصيل الروائي العراقي المغترب في النرويج حمزة الحسن في منشور كتبه على صفحته في فيسبوك لكونه أحد الذين عرضت عليهم تلك الاستمارات لكنه، وحسب زعمه، رفضها.
إن جميع الأطراف المحلية التي تروّج لفكرة شيطنة العرب والمسلمين السنة وتحميلهم مسؤولية ما يشهده العالم من إرهاب في مناطق واسعة ومتفرقة منه، هي بالنتيجة تمارس دورا، سواء بوعيها أو بغيره، يرتبط بمنظومة يقف خلفها مجتمع دولي كان سعيه يتمحور في إشاعة مناخ من مشاعر الكراهية وعدم الثقة يهيئ الظرف الملائم لتنهار من خلاله الأسس والروابط التاريخية التي تجمع العرب والمسلمين مع بقية المكونات الدينية والإثنية والقومية.
تنظيم داعش بدوره كان له النصيب الأوفر في توفير أبرز عناصر النجاح لنظرية شيطنة العرب والمسلمين، وليس مهما هنا في ما إذا كان هذا التنظيم من صنع دوائر استخباراتية أميركية أو إيرانية كما تزعم بعض الآراء، أو كما تشير آراء أخرى على أنه تنظيم جهادي استند في بنائه على نصوص دينية وتأويلات فقهية يصل الإيمان بها لدى عموم المسلمين السنة إلى درجة أقرب إلى التقديس، بل المهم أن حصيلة ما أقدم عليه من أعمال جاءت بجميع نتائجها الدموية في مصلحة هذه النظرية، فهو على سبيل المثال قد فرض طوقا من العزلة التامة على سكان مدينة الموصل منذ أن احتلها يوم 10 يونيو 2014، وبالإضافة إلى أنه قد احتجزهم داخل حدود المحافظة ومنعهم من مغادرتها، لجأ إلى قطع صلتهم بالعالم الخارجي عندما أوقف خدمة الاتصالات الهاتفية والإنترنت، وفرض عقوبات شديدة على أي شخص يتم ضبطه وهو يجري اتصالا عبر الهاتف، بذلك قدم للعالم نموذجا بشعا للحكم باسم الدين الإسلامي لا يمت بصلة إلى الواقع الإنساني المعاصر بكل متغيراته، ويعبر عن فهم منغلق للدين يتقاطع مع جوهره الذي يدعوا إلى الانفتاح والتفاعل بين الشعوب والأمم.
إلاّ أن زمن العتمة والتجهيل الذي فرضه داعش على سكان الموصل لم يمنعهم من أن يحاولوا إيصال صوتهم الرافض لما يجري من عمليات تدمير ممنهج لبنيتهم المدنية والإنسانية رغم خطورة المحاولة التي ستجعل من يُقدم عليها يدفع حياته ثمنا لها في ما لو كُشف أمره، وهذا ما حصل لعدد كبير من الصحافيين الذين تم اعتقالهم وخضعوا لأقسى أنواع التعذيب خلال سجنهم قبل أن يتم الإعلان عن إعدامهم، كما شملت عقوبة الإعدام مواطنين عاديين لنفس الأسباب.
كانت الأخبار القادمة من الموصل والتي تشير إلى حرص الناس هناك على ألا تُهزم قيمهم الإنسانية أمام وحشية تنظيم الخلافة، تأتي وسط حالة من الفوضى سادت بقاعا كثيرة من العالم مما يعني صعوبة ما يمكن أن تحدثه من تغيير في قناعات الأغلبية أو”القطيع الضال” حسب المصطلح الذي أطلقه عليهم عميد الصحافة الأميركية أثناء الحرب العالمية الثانية والتر ليبمان.
وفي جانبها المؤلم كانت الأخبار تحمل بين سطورها ألما عميقا نتيجة ما يدفعه الموصليون من خسائر فادحة في الأرواح معظمها كانت لأسماء تنتمي إلى النخبة العلمية والمثقفة، مِن أطباء ومحامين وقضاة ومهندسين ومدرسين، هذا إضافة إلى ما تشهده المدينة من حملة تدمير تجري بعيدا عن أعين العالم طالت موروثها الحضاري العريق المتمثل بآثار مدينة نينوى الآشورية وأطنان من المجلدات والمخطوطات النادرة والنفيسة تم حرقها وإتلافها تعود إلى عصور وحضارات مختلفة مرت على المدينة كانت محفوظة في مكتبات تعود لجامعة الموصل والأوقاف الإسلامية والمتحف الحضاري والمكتبة المركزية، إضافة إلى الكنائس والأديرة والجوامع.
الأخبار الشحيحة الهاربة من الموصل كانت تعيد إلى الأذهان الصورة الحقيقية لأهلها، حيث المسلمون والمسيحيون كانوا شركاء في صنع سفرها الحضاري عبر العشرات من السنين، وكانت نينوى ومركزها مدينة الموصل إلى جانب مدن عراقية أخرى مثل النجف والبصرة تنافس العاصمة بغداد على تأسيس تاريخ وبنية الثقافة العراقية.
وتؤكد لمن يتابع الأحداث أن الموصليين مازالوا على طبيعتهم الإنسانية ولم يتراجعوا عن قيم المدنية التي كانت عنوانا لهم ولم يتمكن تنظيم داعش رغم القسوة المفرطة التي أبداها ضدهم من أن يجعلهم قتلة ومجرمين على الصورة التي يشبهونه فيها، وبقدر ما كانت الأخبار معبأة بمشاعر القهر والظلم إلاّ أنها كانت تحمل دلالة رمزية تكرس ثقة كبيرة لم تُعدَم في نفوس المنصفين من كتاب ومحللين كانوا يحاولون على قدر ما يستطيعون تقديم رؤية موضوعية تعكس خطابا معتدلا في التحليل والتقييم لما يجري من مواجهة مجتمعية صامتة خلف جدران من العزلة القسرية ما بين سكان المدينة وتنظيم داعش ردا منهم على مناخ إعلامي يقوده مجتمع دولي سعى بكل أدواته إلى أن يكرس الهزيمة في بنية المجتمعات التي يشكل فيها العرب والمسلمون السنّة النسبة الأكبر بهدف دفع شعوبها ناحية التطرف والتشدد ضد بعضها الآخر، وبذلك تنفتح أبواب هزيمتها على مصراعيها.
إحصاءات منظمات ومؤسسات معنية بحقوق الإنسان تشير إلى أن عدد الضحايا الذين أعدمهم تنظيم داعش في الموصل وصل إلى أكثر من خمسة آلاف شخص بينهم أكثر من 800 امرأة، إضافة إلى عشرات تعرضوا إلى عقوبات جسدية توزعت بين الرجم والجلد وقطع اليد والرمي من فوق أسطح البنايات العالية.
المنهج الإعلامي الذي يدور في فلك الأحزاب والقوى الطائفية المهيمنة على المشهد السياسي العراقي تمحور حول فكرة ترحيل أي صوت ينتقد سياساتهم الطائفية إلى الماضي البعيد
ومع ما تشير إليه هذه الأرقام والأحداث من تفاقم مأساوي للأوضاع نتيجة حدة المواجهة ما بين سكان الموصل وتنظيم الخلافة إلاّ أن المجتمع الدولي والمؤسسات الإعلامية المرتبطة به تعاملوا معها بما لا تستحقه من اهتمام في القراءة والتحليل والتصويب للكشف عن طبيعة ما يجري من مواجهة غير متكافئة بين مجتمع مدني أعزل وبين تنظيم إرهابي دموي يمتلك من الأسلحة المتطورة والفتاكة ما يفوق قدرات الجيش العراقي نفسه، وغالبا ما مرت تلك الأحداث بشكل عابر مثل أي خبر يتعلق بانفجار وقع هنا أو هناك وهذا ما قد يطرح العديد من علامات الاستفهام حول طريقة التفاعل معها.
على المستوى المحلي فإن المنهج الإعلامي الذي يدور في فلك الأحزاب والقوى الطائفية المهيمنة على المشهد السياسي العراقي تمحور حول فكرة ترحيل أي صوت ينتقد سياساتهم الطائفية إلى الماضي البعيد، خاصة إذا كان الصوت من العرب السنة، فقد أصبح من الثابت التعامل مع وجهة نظره باعتباره خصما طائفيا وليس خصما سياسيا وليتم حشره في زاوية ضيقة من التاريخ البعيد كما لو أنه جندي في جيش يزيد بن معاوية تورط في قتل الحسين بن علي قبل أكثر من 1400 عام.
هذا الاختزال في رؤية الآخرين من قبل التحالف الوطني الحاكم والذي انعكس في سياسة المؤسسات والقنوات الإعلامية التي تملكها أحزاب وشخصيات تنتمي له، يعني بأن ثقته معدومة بمن يشاركونه العملية السياسية التي يقودها، لا لشيء إلاّ لكونهم ينتمون إلى غير طائفته ومذهبه.
وهنا يمكن أن تطرح مجموعة من الأسئلة: لماذا يتم تحميل الملايين من السنة الموزعين على الكرة الأرضية وينتمون إلى جنسيات وقوميات مختلفة جريمة لم يرتكبوها؟ ومتى سينتهي هذا الشوط الدامي؟ وكم من الأرواح البريئة ستُزهق من قبل الطائفيين ثأرا لجريمة قتل الحسين؟ وكم من مدينة ستسقط بيد الإرهاب بعد الموصل؟
على هوى أجندة المجتمع الدولي التي جمعت في سلة واحدة بين الإرهاب والعرب والمسلمين (السنّة)، شاء الطائفيون المحليون أن يكيّفوا خطابهم الإعلامي بما ينسجم معها ويدور في فلكها. هؤلاء بهذه العقلية المستلبة من زمنها يستمدون حضورهم من خارج إطار الوعي الاجتماعي المتراكم عبر التاريخ، ويعيشون زمنا خاصا بهم لا تربطه صلة بالزمن الإنساني حيث يقبعون في كهوفه، إنه زمن افتراضي متخيّل أنتجته مخيّلة مريضة تناوب على نسج حكاياتها كهنة ورجال دين وساسة وتجار حروب وقتلة محترفون، فأتقنوا نسجها بعيدا عن حقائق الواقع، وقريبا من رغباتهم ونواياهم ومصالحهم الذاتية.
إن المحنة بهذا المسار المهلك تتسع يوما بعد آخر لتطال شظاياها جميع الأطراف، وما ينبغي تذكُّره أن الأكاذيب لنْ تصنع تاريخا ولا مجدا ولا أبطالا، ومن يراهن عليها لكي يسقط مدينة من ذاكرة الإنسانية سيكتب له الفشل في نهاية الأمر.
مروان ياسين الدليمي
صحيفة العرب اللندنية