أدت سيطرة القوات القادمة من الشرق الليبي بقيادة خليفة حفتر، على منطقة الهلال النفطي، إلى تغيير الخارطة السياسية والعسكرية للبلاد، بعد أن أخرجت إبراهيم الجضران، قائد حرس المنشآت النفطية، من لعبة التوازنات المناطقية بين الشرق والغرب، وفجرت الخلافات داخل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، مما يهدد بنسف الاتفاق السياسي الموقع عليه في الصخيرات المغربية نهاية 2015.
وقد تُشعل سيطرة القوات المنبثقة عن مجلس النواب، المنعقد في طبرق (شرقا) على المصدر الرئيسي للثروة في ليبيا، حربا أوسع، بين كتائب مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، التي تعد أكبر قوة عسكرية في الغرب، والقوات الموالية للقائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر (أكبر قوة عسكرية في الشرق).
وجرت أغلب المواجهات السابقة بالوكالة -سواء في مدينة بنغازي (1000 كلم شرق طرابلس)، أو في جبهة السدرة (600 كلم شرق طرابلس)- أو في شكل مناوشات في زلة (حقل نفطي في محافظة الجفرة، وسط البلاد) بعد أن زال الحاجز العسكري والجغرافي الفاصل بين القوتين البارزتين في ليبيا.
ويقع الهلال النفطي الذي يضم أربعة موانئ نفطية رئيسية (الزويتينة، البريقة، رأس لانوف، والسدرة) في منتصف الطريق بين مدينة بنغازي (ألف كلم شرق طرابلس)، معقل القوات التي يقودها حفتر، ومدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) التي توشك قوات حكومة الوفاق على استعادتها بعد أربعة أشهر من المواجهات مع تنظيم داعش.
مجموعة الأزمات الدولية: الوضع الاقتصادي في ليبيا لا يبشر بخير
بروكسل- يشكل الصراع على النفط والغاز في ليبيا تحديا للنموذج المركزي للإدارة السياسية والاقتصادية التي تم تطويرها حول موارد النفط والغاز، وهو النموذج الذي كان يشكّل عصب سلطة النظام القديم.
ولازال الفساد، الذي كان يتيح عمل شبكات الرعاية والمحسوبية، في صلب هذا النموذج، بل وتنامت الممارسات المرتبطة به في قطاع الطاقة بشكل مطّرد.
وتحذّر مجموعة الأزمات الدولية من أن هناك اليوم حركات واسعة النفوذ تسيطر على العديد من منشآت تصدير النفط الخام الكبرى في ليبيا وتستغل هذه الجماعات الوضع الراهن من خلال إيجاد قنوات بيع خاصة بها، وهو ما يؤدي إلى تنامي القوى الطاردة التي تمزّق ليبيا وتفتتها.
وتشهد ثروات ليبيا التي كانت كبيرة ذات يوم (والمستمدة بشكل كامل تقريبا من مبيعات النفط والغاز) نزيفا مستمرا بسبب الفساد وسوء الإدارة؛ وإذا أضيف كل هذا إلى تراجع صادرات النفط الخام، بسبب الأضرار التي لحقت بمواقع الإنتاج والتصدير وإغلاق الأنابيب وغيرها من منشآت وبنيات تحتية والانخفاض الحاد في الأسعار العالمية، فإن اتخاذ تدابير علاجية بات أمرا ملحّا، وفق مجموعة الأزمات الدولية.
وقد تسبب سوء الإدارة الاقتصادية أيضا في نقص الوقود والسلع الأساسية، مما يهدد بانفجار أزمة اقتصادية أوسع يمكن أن تتجلى آثارها في انخفاض مفاجئ وغير منضبط لقيمة الدينار، وقد تلحق الضرر بالملايين من الليبيين.
ومن المرجح أن يؤدي كل هذا إلى أزمات أمنية جديدة ويفاقم من السلوك الافتراسي للميليشيات التي تدفع الدولة رواتب أفرادها، علاوة على بروز اقتصاد مواز (خصوصا من خلال التهريب) وحدوث تدفقات جديدة من اللاجئين.
ويهدد الوضع الاقتصادي في ليبيا بالتحوّل دون سابق إنذار نحو الأسوأ، حيث يواجه الوضع المالي للبلاد، الذي يتسم بالإنفاق المفرط بسبب الفساد وانكماش الإيرادات بسبب انخفاض الصادرات وهبوط أسعار الطاقة، خطر الانهيار، كما يهدد مستوى عيش المواطنين، في سياق الأزمة السياسية العميقة والمعارك المحتدمة بين الميليشيات المختلفة وانتشار الجماعات المتطرفة، بما فيها تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي حال تدهورت الأحوال المعيشية للسكان ولم يحصل أفراد الميليشيات على رواتبهم، فإن الحكومتين المتنافستين على الشرعية ستفقدان الدعم الشعبي، وستدخل البلاد في موجة من التمرد وحكم الرعاع والفوضى.
وترى مجموعة الأزمات الدولية أن احتمال وقوع نزاع عسكري بين هاتين القوتين الكبيرتين أمر وارد، محذّرة من أن صراعا مماثلا “سيكون كارثيا بالنسبة إلى الاقتصاد، لأن القتال في منطقة الموانئ (…) يمكن أن يلحق أضرارا بالبنية التحتية للنفط والغاز ويؤخر إعادة تصدير النفط”.
ولدى ليبيا أكبر مخزون للنفط في أفريقيا، وتعتمد على إيراداته في تمويل أكثر من 95 بالمئة من خزانة الدولة، وتمول منها بشكل رئيسي رواتب الموظفين الحكوميين، ونفقات دعم السلع الأساسية والوقود، وكذلك عدد من الخدمات الرئيسية مثل العلاج المجاني في المستشفيات.
البرق الخاطف
بدأت القصة، فجر الأحد الماضي، بعد أن شنت القوات المنبثقة عن برلمان طبرق، المعترف به دوليا، هجوما على منطقة الهلال النفطي، التي تقع تحت سيطرة إبراهيم الجضران، قائد حرس المنشآت النفطية، الذي قاد ميليشيات مسلحة نجحت في السيطرة على منشآت في المناطق الصحراوية النائية تنتج أكثر من 60 بالمئة من الثروة النفطية للبلاد.
لكن تمكّنت قوات قائد الجيش خليفة حفتر، الذي تمت ترقيته مؤخرا إلى رتبة مشير، من وضع يدها على ميناءي رأس لانوف والسدرة (شرق الهلال النفطي) في نفس اليوم (الأحد 11 سبتمبر 2016)، لكنها لم تعلن سيطرتها على ميناء الزويتينة (غرب الهلال النفطي، وشمال مدينة أجدابيا) بشكل رسمي إلا الإثنين (12 سبتمبر)، بينما تمت السيطرة على مرسى البريقة (وسط الهلال النفطي)، الثلاثاء، حيث أنهت سيطرتها على جميع موانئ الهلال النفطي الأربعة خلال الأيام الثلاثة.
فاجأت السيطرة السريعة على الموانئ النفطية، والتي جاءت خلال عملية أطلق عليها “ البرق الخاطف”، الجميع، وأثارت جدلا بشأن خلفياتها، لا سيما وأن قوات الجضران تنتشر في المنطقة، وتتوقع الهجوم في أي لحظة منذ شهرين، بعد تقدم قوات البرلمان في اتجاه ميناء الزويتينة.
يوضّح هذا الأمر العقيد أحمد المسماري، المتحدث الرسمي باسم القيادة العامة لقوات مجلس النواب، قائلا إن “الهجوم اعتمد على عنصري التوقيت والسرعة”، مضيفا أن الهجوم شمل “أربعة محاور: تقدم العميد مفتاح شقلوف، من محور منطقة الزويتينة، فيما قاد العقيد محمد بن نايل محور منطقة رأس لانوف، وقاد العميد امقرض الفرجاني، محور منطقة السدرة، وتولى العميد نور الدين الهمالي أمر محور بن جواد”.
وتجدر الإشارة إلى أن منطقة بن جواد لا يوجد بها ميناء، إلا أنها قريبة من ميناء السدرة النفطي، وتمكن حرس المنشآت النفطية من استعادتها من يد تنظيم داعش، إلى جانب منطقة النوفلية، خلال مشاركتهم في عملية البنيان المرصوص، التي أطلقها المجلس الرئاسي في طرابلس في 05 مايو 2016، للقضاء على داعش في سرت.
“التوقيت كان قاتلا”، هذا ما يقوله المسماري، مضيفا أن “الهجوم تم في فجر الأحد؛ وهو يوم وقفة عرفة، إلا أن قوات الجضران لم تتوقع التوقيت، ولا أماكن الهجوم، إضافة إلى أنهم هاجموا تمركزات تلك القوات في أجدابيا القريبة من الهلال النفطي، الأمر الذي شلّ حركة القوات المناهضة”.
وهذا ما فسر سرعة السيطرة على منطقة سبق أن هاجمها داعش، لأكثر من ثلاثة أشهر، دون جدوى، كما شنت قوات الشروق التابعة للمؤتمر الوطني في طرابلس، هجمات أخرى على نفس المنطقة نهاية 2014، ولم تنسحب من خطوط المواجهة إلا بعد أن سيطر تنظيم داعش على سرت في منتصف 2015، وقطع عليها خطوط الإمداد.
نوه المتحدث العسكري أيضا بثالث عناصر نجاح العملية العسكرية الخاطفة، والمتمثل في “امتثال جزء من قوات الجضران لدعوات كبير قبيلة المغاربة، التي ينحدر منها معظم عناصر هذه القوات، لدعم قوات حفتر”.
وتتمركز قبيلة المغاربة في مدينة أجدابيا (160 كلم جنوب بنغازي) التي تتقاسمها مع قبيلة الزوي، ويمثل “المغاربة” معظم السكان الذين يقطنون في محيط الموانئ النفطية على الشريط الساحلي، بينما ينتشر الزوي جنوب الموانئ، أين توجد أشهر الحقول النفطية.
الدور القبلي
العامل القبلي مهم في ليبيا وبإمكانه أن يساهم في قلب المعادلة السياسية باعتبار أن القبيلة لها نفوذ ويمكن أن تتدخل لحسم النزاعات بين الفرقاء؛ وهو ما أكّده فتحي المغربي، أحد أعيان قبيلة المغاربة، الممتدة من رأس لانوف إلى أجدابيا وسط ليبيا. وسبق أن لعبت القبائل دورا هاما أيضا خلال عملية “كرامة ليبيا” التي قادها خليفة حفتر في 2014، ضد الميليشيات المُسلحة المرتبطة بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، حيث سارعت غالبية القبائل الليبية إلى تأييدها وسط حراك سياسي لافت.
السيطرة على الموانئ تمنح حفتر ورقة للضغط على المجتمع الدولي وحكومة الوفاق لإدخال تعديلات على اتفاق الصخيرات
وقد تحدّث المغربي عن دور الشيخ باشا صالح الأطيوش، كبير القبيلة، خلال اجتماعات عقدها مع أهالي المسلحين المنضوين تحت إمرة الجضران. وأوضح أن “للدور القبلي في ليبيا، بشكل عام وشرقها خاصة، أهمية كبيرة، وليس من المعقول أن يترك شباب المغاربة، أوامر شيخهم الأطيوش، وينصاعوا لكلام شاب مثل الجضران”.
وشكّك الكثيرون في قدرات الجضران الذي نصب نفسه مدافعا عن الشرق مهد الثورة، وهو لا يزال في أوائل الثلاثينات من العمر، أصغر سنا من أن يكون زعيما في مجتمع محافظ يهيمن عليه شيوخ القبائل.
لكن قوات حرس المنشآت النفطية المؤيدة للجضران، بررت اندحارها السريع دون إصابة ولو جريح واحد من القوات الموالية لحفتر باتهام هذا الأخير بالاستعانة بمرتزقة أفارقة من حركة العدل والمساواة السودانية، لا يتحدثون العربية، بحسب ما صرح به علي الحاسي، المتحدث باسم الجضران، وقت الهجوم.
وردّ العقيد مرعي بزامة، الذي شارك في الهجوم على الهلال النفطي، على هذه الاتهامات، مؤكدا أن “من اتهمهم الجضران بأنهم مرتزقة من أفريقيا هم عسكريون من قبيلة التبو الموجودة في جنوب ليبيا”؛ وقال إن “للتبو لغتهم غير العربية فعلا، ولكنهم ليبيّون”.
وتابع العقيد بزامة “ليس من المعقول أن نستعين بمرتزقة في عملية عسكرية سيشهدها العالم كله، نحن لسنا بهذا الغباء ورجالنا كثر، وشاركت في عملية البرق الخاطف غرف العمليات العسكرية: “الكرامة”، و”أجدابيا”، و”سرت الكبرى”، و”الجنوب”، وهي كافية جدا وهذا ما تم إثباته”.
مستقبل النفط
بعيدا عن العملية العسكرية، يظل السؤال الأهم المطروح حاليا هو: ما هو مستقبل تصدير النفط في ظل سيطرة القوات التابعة لحفتر على الموانئ النفطية؟ وقد أجاب عليه فهمي اللولكي، الخبير الاقتصادي الليبي، الذي أكد أن “أي سيناريو يأتي بعد سيطرة الجيش الليبي على موانئ النفط لن يكون أكثر سوءا من فترة سيطرة الجضران عليها، والذي كلف الدولة الليبية 100 مليار دولار خسائر، وأدخل البلاد في أزمة خانقة”.
وأوضح اللولكي أن “سيناريو ورقة الضغط من قبل سلطات الشرق (البرلمان وحفتر والحكومة المؤقتة) غير مستبعد، فموانئ النفط ورقة رابحة جعلت من الجضران، الشاب الصغير، شخصا مهما، جاء العالم لمفاوضته، وتحصل على مكاسب أقلها مالية”. وتابع أن “قوات حفتر، تسيطر حاليا على منطقة الهلال النفطي، التي تضم أكبر موانئ التصدير، إضافة إلى حقول النفط في منطقة زلة، التي سيطرت عليها في مايو 2016، وبالتالي سلطات الشرق الأقوى على الأرض حاليا”.
لكن الخبير الاقتصادي استبعد أن يتم تصدير النفط من تلك الموانئ خارج سلطة حكومة الوفاق الوطني، مذكرا بمحاولة “الجضران، بيع ناقلة نفط في وقت سابق، لكن المجتمع الدولي أوقف تلك الناقلة في عرض البحر وصادرها”. وتتوقع المؤسسة الوطنية للنفط رفع الإنتاج إلى 600 ألف برميل يوميا في غضون أربعة أسابيع وإلى 900 ألف برميل يوميا بحلول نهاية هذا العام، علما أن الإنتاج يبلغ حاليا حوالي 290 ألف برميل.
الوضع يتطور
على المستوى الدولي والإقليمي أصدرت كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا بيانا ضد تقدم القوات الموالية لحفتر وسيطرتها على الموانئ النفطية، قائلة إنها سوف تطبق قرارا لمجلس الأمن الدولي ضد الصادرات “غير القانونية” خارج سلطة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس.
من جهته، قال المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر أمام مجلس الأمن إن السلام الهش في المنطقة تلقّى “ضربة عنيفة” بعد الخطوة التي قام بها حفتر، وقد يعيق هذا التطور الصادرات النفطية، ويحرم ليبيا من المصدر الوحيد للدخل ويزيد من تقسيم البلاد.
60 بالمئة من صادرات ليبيا النفطية إلى الخارج مصدرها موانئ الهلال النفطي
وفي تعليقها على هذه التطورات قالت الباحثة في الجامعة الأوروبية للعلوم السياسية المختصة في الشأن الليبي فيرجيني كولومبيي إن “ما تشهده ليبيا، البلد الغني بالنفط والغاز في شمال أفريقيا، والذي لا تبعد سواحله عن أوروبا سوى نحو 300 كلم، هو مواجهة جديدة بين القوى الموجودة في الشرق والقوى الأخرى في غرب البلاد”.
وأضافت كولومبيي أن “هناك إعادة ترتيب للأوراق، وتغيير في موازين القوى، وهذا يعني عمليا نهاية الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في الصخيرات تحت رعاية الأمم المتحدة”.
وأكدت أن “كل الآليات والمؤسسات التي من المفروض أن يعتمد عليها اتفاق الصخيرات الآن، أصبحت صورية لا أكثر، لأن موازين القوى على الأرض تغيرت”.
وتابعت أن “مصراتة التي تعتبر أهم قوة في غرب ليبيا، أصبحت اليوم أقوى في الغرب، بعد انتصارها على داعش، في سرت، بينما أصبح كذلك حفتر أقوى في الشرق، خاصة بعد التقدم الأخير الذي أنجزه في منطقة الهلال النفطي”.
من جانبه يرى المحلل بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ماتيو توالدو، أن مسألة النفط في غاية الأهمية في ليبيا، وأن المعركة من أجل السيطرة على آبار وموانئ النفط قد تؤدي إلى حرب أهلية واسعة النطاق.
وأوضح أن حفتر “قد يأمر قواته بالتقدم نحو سرت للاستيلاء عليها، فيما قد تعمل القوات الموالية لرئيس حكومة الوفاق الوطني، والتي يقودها الجضران، في منطقة الهلال النفطي على استعادة السيطرة على محطات النفط (الموانئ النفطية) في برقة، حيث يتم تخزين معظم الذهب الأسود الموجه للتصدير.
صحيفة العرب اللندنية