تنتقل حظوظ دونالد ترامب للفوز برئاسة الولايات المتحدة من ضعيفة جداً قبل أسابيع قليلة إلى معقولة اليوم، وإن لم تكن بعد راجحة. بل إذا استمر الزخم والمسار الحاليان للمباراة الانتخابية، فإنه لا يسع الولايات المتحدة، ومعها العالم أجمع، إلا أن تتعايش، راضية أو مكرهة، مع ترامب رئيساً للقوة العظمى الأولى، بما يصاحب منصب الرئاسة من سلطة مادية ونفوذ معنوي.
لم يعد مهماً البحث في الأسباب الموضوعية والظروف الذاتية التي مكنت ترامب من الاقتراب من أخطر منصب في العالم. ولا جدوى من الامتعاض والدهشة إزاء تهاوي الإعلاميين والسياسيين أمام صبيانيته ووقاحته وسفاهته، وكأن الجمع انحدر إلى مستوى ملاعب المدارس، حيث المنطق يغيب وهيبة الأقوى تحضر، فيمرّ ارتكاب ترامب الفعل الشنيع من دون أن يتجرأ أي منهم على الاعتراض القاطع، فتجري أكاذيبه وشتائمه وانعدام المادة في كلامه كأنها أمر طبيعي، فيما هم ينقضّون بحشدهم على خصمه هيلاري كلينتون عند اقترافها جزءاً بسيطاً من أفعاله. المطلوب اليوم هو الاستعداد لهذا الاحتمال قبل أن يتحقق له الرجحان.
مؤيدو ترامب من السياسيين الجمهوريين ينقسمون صنفين، الأول يعتبر أن المؤسسات الحزبية هي الأولوية، والأسلم من أجلها السير مع ترامب، بما يصونها إلى ما بعد مرحلته، فهو عابر وهي باقية، وإذا كانت ثمة مرارة في الرضوخ لفوزه، فإن اعتلاءه الرئاسة أسلم من احتفاظ الحزب الخصم بها لثلاث دورات متتالية في حال فازت كلينتون. أما الصنف الثاني، فهو المعني أساساً بالمحكمة الدستورية العليا والتي تواجه للتوّ بعض الشغور، مع ترقب المزيد من الحاجة إلى تعيينات جديدة خلال ولاية الرئيس المقبل. فبما أن ترامب تعهّد تعيين القضاة المحافظين، فإنه وإن عاث في البلاد فساداً، فإن ضرره زائل فيما إعادة توجيه المحكمة الدستورية العليا نحو رؤية التيار المحافظ تبقى متحققة. يدرك كلا الصنفين أن المسألة هي رهان لا اطمئنان، فلا ثقة مطلقة بوفاء ترامب بوعوده، والخشية قائمة من أذى من دون فائدة.
والمندفعون للعمل مع ترامب، فيما هو ينتقي منهم من يشاء ويهمل من يشاء، جلّهم من الهامشيين والمهمشين الذين يرون في رئاسته العتيدة، إن تحققت، فرصة تعدّ سابقة للانتقال بأفكارهم وطموحاتهم من الطرف إلى موقع صياغة بعض القرار. إلا أن منهم كذلك من يسارع الى المشاركة منعاً لاقتصار طاقم الرئيس العتيد على الهامشيين. فالمسألة بالنسبة إليهم تبتدئ مع الحكمة المتداولة «السياسة هي فن الممكن»، والممكن مع ترامب قد يكون قليلاً لكنه ليس معدوماً.
ليس ما يشير الى أن ترامب قابل لأن يتبدّل بعد بلوغه موقع الرئاسة. فلا غروره ولا انشغاله بذاته ولا تبجّحه وجهله، ولا عصبيته وغضبه وبلطجته، ولا وقاحته وكذبه، وجميعها صفات لازمته طوال عمره بسنينه السبعين، قابلة لأن تتبخر مع تسلّقه إلى قمة القوة والنفوذ. بل يمكن ترقّب المزيد من الانتفاخ لديه وتوقع أن تحفل أعوامه الرئاسية الأربعة بالسجالات المستطيلة مع الكونغرس بمجلسيه، بل مع كلا الحزبين، فتكون الحصيلة كماً لا سابق له من الاستعراضيات، وقدراً لا يستهان به من الأذى. والرجاء لدى مَن يتخوف من رئاسة ترامب هو أن يبقى هذا الأذى مقيّداً بالنظم القائمة وألاّ ينحدر إلى مواجهات داخلية تصدّع السلم الأهلي.
غير أن القدرة على ضبط ترامب تنخفض في ملفات السياسة الخارجية. فقد قطع على نفسه وعوداً شعبوية لا شك أنه سيسعى إلى تحقيقها، وإن مجتزأة. فمنع المسلمين كفئة ذات سمة دينية من دخول البلاد غير متاح في ظل الضوابط الدستورية، إلا أن الاحتيال على هذه الضوابط، وعلى الجمهور المتحمس لتنفيذ هذا الوعد، ممكن من خلال استهداف بعض المجموعات الوطنية. فبما أن حكومة الرئيس باراك أوباما أعلنت للتوّ نية استقبال ما يزيد على مئة ألف لاجئ، معظمهم من السوريين، فإن حظر دخول السوريين، بحجة توخّي الحذر من الإرهابيين المندسّين بينهم، يصبح أمراً متوقعاً.
وكذلك الأمر في خصوص الجدار العازل مع المكسيك، فلا شك أن ترامب سيباشر ببنائه، وإن تبين فجأة أن الأمر يتطلب وقتاً أكثر من المتوقع، والأمر في خصوص المهاجرين غير الشرعيين، فبعضهم سيرحّل بالتأكيد، وإن اعترضت الإجراءات القضائية البطيئة وهم الترحيل الجماعي.
وفي ما يتعدى هذه الخطوات الرمزية التي تلهب عواطف المؤيدين، سيغامر ترامب في السياسة الاقتصادية، شرط عدم المس بمصالحه التجارية الخاصة حتماً، وسيفرّط بالعلاقات والمواثيق التي تجمع الولايات المتحدة مع الدول كافة، باستثناء التي قد يؤدي التنافر معها إلى الإضرار بما له فيها من مشاريع واستثمارات. فالمنتظر هو سلسلة من الحروب الاقتصادية التي لن تفيد المواطن الأميركي لكنها قد تتسبب في استنزاف اقتصاد الدول التي ترفض الخضوع لأهوائيته. الصين مهددة، ومعظم الدول الإسلامية مهدد، وحلف الأطلسي مهدّد. ولكن، في مرحلة أولى على الأقل، روسيا ليست مهدّدة.
والغزل الدائر بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس وليد المصادفة. فللرجلين رؤية مشتركة حول كيفية التعاطي مع الدول الصغيرة، وإن كان ترامب أكثر صدقاً لجهة أنه لا يعبأ بشكل ادعاء الالتزام بالمشروعية الدولية. وترامب أعلن تقديره لبوتين وإعجابه به، وكذلك استعداده للتعاون مع روسيا في كل الملفات، لا سيما الملف السوري.
ولسورية النازفة مستقبل قاتم مع ترامب، كما من دونه. فهو إن فاز، سيتنازل من دون شك عن الملف السوري لنظيره بوتين، بما يُنذر باستمرار المقتلة بحق الشعب السوري، وإن لم يفز، فإن روسيا ستعمد إلى التصعيد في الأشهر القليلة المتبقية من ولاية أوباما تحضيراً لمكاسب على الأرض، قبل إقدام كلينتون على رسم ملامح سياسة حازمة في هذا الملف.
وتفريط ترامب بسورية ليس إلا نموذجاً مما يمكن توقعه في شأن المنطقة العربية ككل، وإن تعلّق بعضهم بحبال الأوهام حول مفاجآت منه لمصلحة القضية الفلسطينية. ولا شك أن ترامب في هذا الموضوع سيفاجئ، ولكن باتجاه مزيد من الأفعال المثيرة للاستهجان والاشمئزاز.
لا يزال التوقّع إلى اليوم أن ترامب لن يكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة. ولكن، إن خاب هذا التوقّع، فإن العالم مقبل على مرحلة من الخطورة تعدُّ سابقة. والمسألة ليست تهويلاً، بل قراءة جدية لأقوال هذا الرجل وأفعاله.
حسن منيمنة
صحيفة الحياة اللندنية