في غفلةٍ من الجميع، أو هذا ما نتوّهم، سيطرت قوات الجنرال خليفة حفتر على منطقة الهلال النفطي في ليبيا. يبدو أن الرجل قد حسب الأيام بالدقائق، بل الثواني، فلم يجد أفضل من أن يشن هجومه الكاسح ويستولي على المنطقة الاستراتيجية من ليبيا بعد أن بدأت الحكومة، برئاسة فائز السراج، تركن إلى الراحة، وقد كادت تحسم معركة سرت التي هزمت فيها تنظيم “داعش” الإرهابي وحلفاءه، بشكلٍ غير مألوف في مثل هذه المعارك. لم تحظ المعركة بما يليق بها من تغطية إعلامية، وكأنه أريد لها ألا تجني مكاسب إعلامية، يؤول عائدها السياسي إلى من قاموا بها، أي الجماعات المحسوبة، بشكل أو بآخر، على “فجر ليبيا” وبعض حلفائها. كما أن انشغال الليبيين بأفراح عيد الأضحى من شأنه ان يلهي الرأي العام المحلي بعض الوقت. أما القوى الكبرى (أميركا، روسيا، فرنسا…) فمشغولة في الترتيبات المعقدة للهدنة السورية.
لا أحد يعتقد أن الهجوم الذي باغتت فيه قوات حفتر منطقة الهلال النفطي في ليبيا كان مغامرة غير محسوبة، فالمؤشرات العديدة التي تسربت، أو أبانت عن نفسها، تؤيد غير ذلك. يبدو أن الرجل قد تلقى الضوء الأخضر من تلك القوى بالذات، مع تنسيق إقليمي واضح، لعب فيه حلفاء حفتر دوراً محورياً، وخصوصا أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد معنية بحسم النزاع الليبي، وفق تصوراتها السابقة التي تمنح مكانةً ما لجماعات الإسلام السياسي التي أمنت، إلى حد كبير، قدوم حكومة السراج إلى طرابلس، في حين اعتبرتها جماعة حفتر، ولا تزال، حكومة احتلال أو ما شابه، ومازال برلمان طبرق يرفض التصويت لها، على الرغم من توصيات الأمم المتحدة وقراراتها ومساعيها.
ما حدث في سورية وفي تركيا، أخيراً، هو ما أملى التطورات المريبة الجارية في ليبيا، خصوصاً بعد معركة سرت، والذي ستكون له تداعيات حاسمة في الأشهر القليلة المقبلة.
أذعنت، في النهاية، الدول العربية التي ظلت تدعم خيار التوافق الوطني الليبي، القائم على إضعاف الجنرال حفتر، أو استبعاده، كما أنها لم تعد تراهن على هذا الحل، وهي التي خذلت في أكثر من موقع. كان انكفاء تركيا وعودتها المتدرّجة إلى فلسفتها الدبلوماسية القديمة القائمة على جملة من المبادئ، منها صفر مشاكل مع الجيران تحديداً، محفزاً لمثل هذه التبدّلات. أما على أرض ليبيا، فيبدو أن استشراء الفساد وغلاء الأسعار وانغماس عديدين من أمراء الحرب في معارك المال، وقد غيروا “مهنهم العسكرية”، ليتحولوا بسرعة تجّارَ ممنوعات ومستثمرين، قد خفف محور المعارضة لخليفة حفتر، وأوجد مناخاً من التبرّم من الطبقة السياسية التي التفت حول جماعة طرابلس، بما فيها حكومة السراج.
يلحظ من تابع، ولو عن بعد، الحوار الوطني بين الفرقاء الليبيين قبل العيد في تونس، وقبل
سقوط الهلال النفطي بأيام، أنه تم ترتيبه بشكلٍ ينتهي إلى الفشل. لقد تمت شرعنة الفشل هذا بالذات. وقدوم جماعة حفتر بشكل غير متوقع، وافتعالها صراعاتٍ، برهانٌ على تضافر كل تلك العوامل العديدة لإفشال ذلك الحوار، وذلك ما أدى، في النهاية، إلى انفضاض الجماعات الموالية للحكومة والتفاف بعضها حول مجموعة حفتر، وخصوصاً أن السراج نفسه لم يخفِ يوماً هواه، أو ميوله تجاه جماعة حفتر، وهو المحسوب عليهم أصلاً، بل إن تهماً توجه إليه أنه قدّم الهلال النفطي هدية لحفتر، ولعل في رفضه أي اقتتال ليبي – ليبي، على الرغم من نبل المقصد في ظاهره، ما قد يدعم هذه الفرضية، وخصوصا أنه كان قد قدم له من قبل هدية أثمن، حين خلصه من قبضة داعش المتحصنة في مدينة سرت، وخاض بالوكالة عنه حرباً شرسة.
لن يكون حفتر غبياً حتى يسيطر، بشكل مباشر وفجّ، على منابع النفط وموارده، فهو على خلاف ذلك، يبدو غير مستعجل، بل زاهداً فيما يمكن أن يغذّي به خزانة الحربية لديه. هو معنيٌّ بتظهير نفسه بأنه حريصٌ أكثر من كل خصومه على المصلحة الوطنية، فما أن استتب له الأمن، حتى سارع بتسليم مفاتيح المنطقة الأكثر غنىً إلى المؤسسة الوطنية الليبية التي سارعت بإدارة دواليب التصدير، وبذلك بدا حريصاً على الشرعية ودولة القانون والمؤسسات. إنه يجدّد صورته الوطنية والدولية، ليزيل ما علق بها من شبهات، وكلها علامات على أنه يعد لعهدٍ جديدٍ، سيلعب فيه أدواراً غير مسبوقة.
كما أن زيارة السراج المفاجئة والسريعة إلى مصر، حليفة حفتر المعلن، تندرج في تفاهماتٍ جديدةٍ ستكون متحرّرة من اتفاقات الصخيرات ومشتقاتها.
حين أدرك الجميع أن الانتصار في سرت سيُحدِث معادلةً جديدةً، قد تكون في تناقضٍ مع الخط الذي رسم منذ التدخل الروسي في سورية، وتبعات الانقلاب التركي الفاشل، سارع الجميع بدعوة حفتر، حتى يغير من ملامحه، ويقوم بـ “ليفتنغ سياسي عاجل”، ولو على حساب الشرعية الدولية التي استبعدته يوماً، وجاءت بحكومة السراج. البوابة التي منها سيدخل هذا الحل، حتى يقبل سياسياً وأخلاقياً، ستكون المصالحة الوطنية… الرمال الليبية متحركة، لكن رياح الخارج تحدّدها، كما تعودت ليبيا منذ عقود.
المهدي مبروك
صحيفة العربي الجديد