يتجه العالم بوتيرة متسارعة نحو استثمار الإمكانات الهائلة التي تتيحها التقنيات الحديثة، وهو ما اتسع إلى بناء “مدن ذكية” ترتكز بنيتها وإدارتها بالكامل على حلول تكنولوجية متقدمة، الأمر الذي لم تكن الدول العربية في منأى عنه، وإنما شهدت هي الأخرى إطلاق عدة مبادرات لتحويل بعض مدنها الرئيسية للنمط الذكي أو تدشين مدن ذكية جديدة.
وعلى الرغم من أن تلك المبادرات تستند إلى مداخل اقتصادية في الأساس، إلا أن بناء مدن “ذكية” يسكنها مواطنون “أذكياء” يثير حديثًا آخر عن سوسيولوجيا “المجتمعات الذكية”، وأثر إدخال العنصر الذكي في إعادة تعريف “المجتمع” ذاته بما يحويه من علاقات وقيم مشتركة، وفي القلب منها الممارسات والقيم السياسية التي لا تزال تُعاني من أزمةٍ في دول عربية لم تتعافَ بعدُ من الهزات العنيفة التي أصابت تركيبتها الاجتماعية بفعل ثورات “الربيع العربي” المرتبطة في الأساس بتقنيات “ذكية”.
الاتجاه العالمي نحو الاستثمار الذكي:
تُعد المدنُ الذكية السمةَ الأبرز والتطبيق الأكثر شمولا لثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، التي تُؤسس لبناء مجتمع ذكي يمتلك نظمًا متقدمةً لإدارة موارد قوامها الترابط والتشبيك لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة، أو ما اعتبره مشروعُ “المجتمع الذكي” التابع للاتحاد الأوروبي نتاجَ التناغم والانسجام بين البشر والآلة في ظل تحول المجتمع تدريجيًّا إلى نظام هجين تتداخل فيه الأبعاد الاجتماعية والتقنية والجوانب المادية والافتراضية لبناء مجتمع أكثر ذكاء، وهو الأمر الذي شهد طفرة هائلة مع ابتكار تقنية إنترنت الأشياء.
وتُقدر العوائد العالمية من التقنيات الذكية بنحو 8.8 مليارات دولار ومن المتوقع أن ترتفع إلى 27.5 مليارًا عام 2023، وفقا لشركة نافيجانت للأبحاث، فيما قدرت شركة “آي اتش اس” للاستشارات التكنولوجية عدد المدن الذكية حول العالم بنحو 21 مدينة عام 2013، ومن المتوقع أن تزداد إلى 88 مدينة بحلول عام 2025، وهو العام الذي سيصل فيه حجم سوق تلك المدن إلى 1.5 تريليون دولار، وفق تقديرات شركة فروست آند سوليفانز العالمية وحددت التقديرات ثمانية قطاعات رئيسية للاستثمار الذكي في العالم، وهي: الصناعة، إمدادات الطاقة، الأمن، التعليم، البناء، الرعاية الصحية، النقل، المياه.
وبات التحول إلى المدن الذكية محل اهتمام عالمي، تُدشَّن من أجله المبادرات، سواء التي تتم داخل دولة بعينها مثل “مهمة المدن الذكية” التي أطلقتها الهند عام 2015 وتستهدف تطوير مائة مدينة بميزانية 15 مليار دولار، أو التي تتم عبر التجمعات الدولية مثل مشروع المجتمع الذكي الذي أطلقته المفوضية الأوروبية عام 2013 لتطوير النظم والتطبيقات الذكية، أو المبادرات التي تطلقها الشركات التكنولوجية العالمية مثل مبادرة “تحدي المدن الذكية” الطوعية التي أطلقتها شركة “آي بي إم” عام 2010، وأوفدت من خلالها 800 خبير تقني إلى أكثر من 130 مدينة حول العالم بهدف مساعدة قادتها في تحسين فاعلية إدارتها عبر حلول ذكية، وذلك بتكلفة بلغت 66 مليون دولار.
ولم تكن الدول العربية بمنأى عن ذلك الاتجاه العالمي، فإلى جانب اتساع سوق الأجهزة الذكية على مستوى الاستهلاك المحلي، تتبنى بعض الحكومات استراتيجيات جادة على صعيد التحول إلى نظم الإدارة الذكية وتطوير أنظمة النقل والمياه والطاقة والمخلفات باستخدام التقنيات الذكية، وهو ما تُمثل فيه دولة الإمارات نموذجًا رائدًا بالمنطقة، إذ شهدت إطلاق مبادرة “دبي مدينة ذكية” في أكتوبر 2013، وهي المبادرة التي تتضمن 500 مبادرة وخدمة ذكية، وتم في إطارها تدشين مشروع “سيليكون بارك” على امتداد 150 ألف متر مربع وبتكلفة تُقدر بـ300 مليون دولار، هذا بالإضافة إلى تبني تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، وإطلاق مبادرات مبتكرة لإتاحة خدمات الاتصالات والمعلومات، مثل مشروع النخل الذكي على شواطئ دبي في يناير 2016 والذي يعمل بالطاقة الشمسية ويزود الجمهور بخدمات الإنترنت، ويمكن من خلاله شحن الأجهزة الإلكترونية، والتقاط الصور، وإرسال استغاثات الطوارئ، وعرض الإعلانات وإرشادات البلدية أيضًا وذلك على مدار الساعة.
ودشنت أيضا دولة الإمارات مدينة “مصدر” في صحراء أبوظبي، التي تم تصميمها لتكون مدينة ذكية وصديقة للبيئة والتنمية المستدامة، حيث تقع بها محطة عملاقة للطاقة الشمسية ومزارع للرياح، مع منظومة معلوماتية متكاملة تدير كافة البنى التحتية والخدمات بشكل ذكي، مع نظام متقدم للانتقالات يحظر قيادة السيارات، ويعتمد على نظام كهربائي لعربات نقل تسير تحت الأرض.
أما قطر، فتتضمن رؤيتها 2030 خططًا للتحول إلى نموذج المدن الذكية الذي يتم تطبيقه على مدينة لوسيل ومشيرب في قلب الدوحة، لا سيما في مجال البيئة النظيفة. كما شهدت دول الشمال الإفريقي مبادرات على الصعيد ذاته، حيث أعلنت المملكة المغربية تحويل ست مدن رئيسية (تشمل: الدار البيضاء، والرباط، وطنجة، وفاس، وإفران، ومراكش) إلى مدن ذكية بحلول عام 2026، مع إنشاء عدة مدن ذكية مستدامة تعتمد على طاقة الشمس والرياح. كما أعلنت مصر هذا العام عن إطلاق الجيل الرابع من المدن المصرية الذي يقوم على فكر المدن الذكية، وتعتزم تطبيقه في العاصمة الإدارية الجديدة ومدينتي العلمين الجديدة وشرق بورسعيد.
المنظومة القيمية للمجتمع الذكي:
على الرغم من سيطرة الأبعاد الاقتصادية والتقنية على الحديث عن التحول نحو مفهوم المدن الذكية، إلا أن العديد من الإسهامات البحثية باتت تتجه إلى مناقشة تأسيس “المجتمع الذكي” باعتباره الهدف الأخير لإنشاء مثل تلك المدن، وباعتبار أن الإنسان هو المحور الرئيسي لتلك المبادرات واللاعب الرئيسي فيها، وأصبح هناك تساؤل رئيسي بشأن ما إذا كانت المدن الذكية، بأبعادها التقنية والاقتصادية، تؤدي بالضرورة إلى تأسيس مجتمعات ذكية بأبعادها السيسيولوجية والأنثروبولوجية.
فعلى الرغم من الارتباط بين المدن الذكية والمجتمعات الذكية، إلا أن المصطلحين غير مترادفين على الإطلاق، أو كما أشار المنتدى العالمي للمجتمعات الذكية فإن إمكانات المدينة الذكية لازمة لتوفير البنية التحتية والتقنية التي يحتاجها المجتمع ليكون “ذكيًّا” ولكنها غير كافية لمنحه ذلك الوصف، محددًا ستة عناصر رئيسية لتحقيق المجتمع الذكي، وهي: خدمات النطاق العريض، والمهارات البشرية، والاقتصاد القائم على الابتكار، والمساواة الرقمية، والاستدامة البيئية، والدفاع عن التغيير، وهي العناصر التي تحمل في داخلها منظومة قيمية حاكمة لهذا النوع من المجتمعات.
وعلى الرغم من اعتماد الكثير من التعريفات على المدخل التقني في تعريف “المجتمع الذكي”، باعتباره المجتمع الذي تتكامل فيه مختلف التقنيات الحديثة والنظم المتقدمة ويتم استخدامها بشكل فعال بما يغير الحياة اليومية للمواطنين، وفق مؤسسة تحالف المجتمع الذكي باليابان، إلا أن العديد من الأطروحات أشارت إلى أن المجتمع الذكي هو الهدف النهائي لتلك التحولات التقنية، وأن التكنولوجيا ليست هي هدف المجتمعات الذكية ولكن الأخيرة تستخدم الحلول التكنولوجية وفق رؤية محددة تتسق مع الأهداف المجتمعية ووفق قيم أساسية قوامها الانفتاح والدمج والشفافية.
وقد حددت شركة “إيسري” الأمريكية للنظم عدة متطلبات رئيسية لبناء المجتمع الذكي، تضمنت: “الدمج”، بمشاركة المعلومات الحساسة، واعتماد سياسة البيانات المفتوحة لبناء الثقة بين المواطنين والحكومة. و”التحليل”، بدعم سياسة لصنع القرار قائمة على البيانات واستخدام طرق علمية للتشخيص والتنبؤ. وكذلك “التعاون”، بالتربيط بين قواعد البيانات في المؤسسات المختلفة.
كما تُعد “الحوكمة الذكية” أحد المفاهيم الأساسية في هذا المجال، والتي عرفتها دراسة للاتحاد الأوروبي عام 2014 بأنها الربط بين المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية في إطار من الشفافية والبيانات المفتوحة لدعم تبني الحلول الذكية والصديقة للبيئة، وقد قدم كريستوفر رديك وليونيداس أنثوبولوس تأصيلا نظريًّا أمام المؤتمر الدولي للشبكة العالمية العنكبوتية بكندا في أبريل 2016 لمفهوم الحوكمة الذكية، حيث اعتبرها مرحلةً تاليةً من تأسيس المدن الذكية، باعتبار الأخيرة نطاقًا مكانيًّا لتلك الممارسات.
فيما حددت الباحثة ماريتسا فرجاس عدة عناصر لتلك الحوكمة، منها المشاركة في صنع القرار والإدارة الشفافة، وهو ما يطرح أهمية قيم الديمقراطية، وفعالية مشاركة المواطنين ضمن المنظومة القيمية للمجتمع الذكي. وفي هذا الإطار، طبقت مدينة برشلونة الإسبانية التي حصلت على لقب “أذكى مدينة في العالم” عام 2015 تطبيق معايير “الحكومة المفتوحة” Open-Government لتحسين الشفافية والإتاحة، كما طبقت نظامًا للمعلومات الجغرافية لجمع المعلومات عن البنية التحتية في المناطق المحلية المختلفة، وتقييم قدراتها على مواجهة الأحداث الطارئة أو المتوقعة، وتحسين قدرات المناطق على الاستجابة لها.
وقد قدّم البروفيسور ميشيل جورستين، مدير مركز بحوث المعلوماتية في كندا، تصورًا يركز على المجتمعات الذكية بقدر أكبر من “المدن الذكية”، والتي رأى أن الأطروحات المقدمة بشأنها تُحيلها إلى سلسلة من الأسواق النيوليبرالية، وقدم جورستين ستة مفاهيم تُعظِّم الاستفادة من التقنيات الذكية لزيادة تمكين المواطنين، تتمثل أهمها في:
1- تخطيط المجتمع الذكي: والذي يقصد به دعم انخراط المواطنين في توصيل الخدمات عبر التقنيات الذكية، باستخدام خرائط تفاعلية لجمع المعلومات يحدد من خلالها سكان النائية على سبيل المثال في تحديد أفضل المناطق لإنشاء خدمات إضافية أو بديلة.
2- حوكمة المجتمع الذكي: توفير وسائل التدقيق العام لميزانيات البلديات، بما في ذلك توفير التدريب والدعم اللازم لذوي التعليم المتدني لمراجعة الميزانيات، وضمان إنفاقها بالشكل المناسب والعادل بين المواطنين.
3-المواطنة في المجتمع الذكي: التفاعل الإلكتروني بشأن القضايا العامة اعتمادًا على إتاحة المعلومات الحكومية وبشكل يراعي التوزيعات الجغرافية للسكان، حيث يتم تجميع تلك المشاركات من المواطنين في مختلف المناطق المحلية بما يدعم المشاركة العامة في التخطيط المحلي وتصميم البرامج.
4- بنية وموارد المجتمع الذكي: حيث يتمكن المواطنون من الإبلاغ عن المشكلات التي تواجههم بشأن البنية العامة عبر نظم ذكية قادرة على جمع مشاركاتهم من مختلف المناطق، قائمة على مفاهيم الإدارة اللا مركزية، وقادرة على التجاوب الفعال مع تباين الظروف والاحتياجات بين مجتمع محلي وآخر، في إطار من دعم مشاركة المواطنين في عمليات صنع القرار، وتحديد الأولويات وتخصيص الموارد.
تحديات التحول الذكي عربيًّا:
على الرغم من الاتجاه العربي نحو بناء المدن الذكية لرفع معدلات النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والتنمية المستدامة، إلا أن تلك المساعي تُعرقلها عقبات جادة على طريق التحول لمفهوم “المجتمعات الذكية”، إذ لا يقتصر الأمر على تطبيق التقنيات فحسب، وإنما يرتبط بالمنظومة القيمية المرتبطة بتلك التقنيات التي لا يمكن فصلها عنها بحال من الأحوال، إذ إن إتاحة القدرة للأفراد على التواصل والمشاركة والتربيط والانخراط والوصول تؤسس لقيم وثقافة عامة لا تنسجم بحال من الأحوال مع منظومات المجتمعات القديمة أو غير الذكية، إذا جاز التعبير.
فإلى جانب التحديات الاقتصادية والتكنولوجية المرتبطة بالتحول الذكي في العالم العربي والتي تتمحور حول امتلاك الإمكانات اللازمة لذلك، تكمن مجموعة من التحديات السياسية التي تحول دون تبني قيم المجتمعات الذكية، والتي تتمثل بالأساس في:
1- الهيمنة النخبوية باستخدام قوة المعرفة: تقوم الفكرة الرئيسية للمجتمعات الذكية على بناء قواعد بيانات ضخمة يتم تجميعها بشكل تشاركي بفضل عمليات التشبيك والتربيط التقنية، وهي المعلومات التي يتم جمعها ومعالجتها وإدارتها عبر ما يسمى مراكز المدينة الذكية، والتي تتولى تسهيل الربط بين المؤسسات الحكومية والاجتماعية والأفراد، بما يُعظِّم الاستفادة من الموارد ويقلل الأخطار المحتملة، فيما سماه تقرير لشركة سيمنز العالمية “المدن المرنة”.
وتمنح تلك القواعد المعلوماتية قوة هائلة للمؤسسات المالكة لها، والتي ستكون حكومية بالأساس، الأمر الذي يثير مخاوف بشأن استخدامها للتضييق والرقابة على خلاف الهدف الرئيسي الذي تأسست تلك النظم من أجله.
وتتفق تلك المخاوف مع الطرح الذي قدمه البروفيسور فرانك باسكوال بجامعة ميريلاند والباحث جاثان سادوسكي بجامعة أريزونا في ورقة علمية منشورة عام 2015 باسم “طيف التحكم The Spectrum of control” وهو المصطلح الذي يعبر عن شبكة الرقابة والسيطرة التي تمنحها التقنيات الذكية لـ”النخب” المسيطرة على قواعد البيانات الضخمة والدقيقة التي يتم جمعها عبر تلك التقنيات والتي لا تمتلك القدرة على مراقبة المواطنين فحسب، وإنما توقع تحركاتهم وردود أفعالهم أيضًا من خلال نظم المعالجة والتحليل المتقدمة، وهو ما يجعل سكان المدن الذكية تحت السيطرة.
2- الإتاحة المعلوماتية وقوة المجتمع: ترتبط المجتمعات الذكية بمفاهيم البيانات المفتوحة وحق الوصول وغيرها من المفاهيم التي ترتكز على إتاحة المعلومات للمواطنين. تلك المعلومات تمثل أحد عناصر قوة هذا النوع من المجتمعات بفضل قواعد البيانات الضخمة القائمة على التربيط والتشبيك بين المؤسسات وبعضها بعضًا أو بينها وبين الجمهور، وتحديثها بصفة مستمرة في ظل ما تتمتع به من مرونة تتجاوب مع عمليات التغذية المستمرة.
ولعل حرمان الأفراد من المعلومات، في مجتمع تسوده الأجهزة الذكية، لا يحول دون إدماج المواطنين في حل المشكلات العامة ومراقبة الأداء وغيرها من الأمور فحسب، ولكنه يفتح المجال أيضًا أمام انتشار الشائعات والأحكام الانطباعية والتقييمات الجزافية التي تتمتع بقدرة هائلة على الانتشار في ظل إمكانات التربيط والتشبيك التي تتيحها التقنيات الذكية بما يمثل عامل خطورة أمام “المدينة الذكية” التي لا تتمتع بمعايير المجتمع الذكي.
3- قيم المجتمعات المحلية: إذ إن تطبيق قيم الانفتاح والترابط والتشبيك والانخراط والتعبير الحر والشفافية قد لا تتسق مع المنظومة التقليدية التي تسيطر على العديد من المجتمعات العربية المحلية، إذ إن تلك التقنيات ليست معزولة عن المنظومة القيمية التي أُنتجت في إطارها، وتطبيقها يعني بشكل أو بآخر تطبيق جانب من تلك القيم التي تحملها في تفاصيلها.
فمن غير المجدي على سبيل المثال، الاعتماد على شبكات ذكية لجمع مقترحات المواطنين بشأن تطوير منظومة المياه في قرية جبلية يحكمها عمدة محلي يرتبط بعلاقات عائلية تمنع السكان المحليين من انتقاد سياساته، وهي التباينات التي تتخذ أبعادًا أخلاقية أخرى عند الحديث عن القيم المجتمعية بشكل عام، وهو ما كان محلا لنقاشات جادة في القمة الدولية السنوية الأولى عن المدن الذكية في شمال إفريقيا التي انعقدت بجامعة الأخوين في مدينة إفران المغربية في يوليو 2014، والتي تناولت أثر اتباع نموذج المدن الذكية على الثقافة المحلية، وانتهت إلى التركيز على البعد التنموي والاقتصادي في تطبيق تلك التقانات في إقصاء للأبعاد الثقافية والقيمية المرتبطة بها.
4- الفجوة الرقمية: والتي لا ترتبط فقط بقدرة الأفراد على امتلاك وسائط ذكية تمكنهم من التفاعل مع محيطهم العام، ولكنها ترتبط بكفاءة وجودة البنية التحتية لخدمات الاتصالات والمعلومات عبر المناطق التي تُعاني من التنمية غير المتوازنة في العديد من دول العالم العربي، والمهارات التقنية للأفراد المرتبطة بمستوياتهم التعليمية، وغيرها من الأمور التي تعاني من تفاوتات جسيمة تجعل من الصعوبة بمكان تبني قيم المجتمعات الذكية التي تعد “المساواة الرقمية” إحدى ركائزها الأساسية.
وأخيرًا، وعلى الرغم من أن الاتجاه السائد في العالم العربي ينحو إلى استثمار التقانات الذكية لتطوير الأوضاع القائمة من مداخل اقتصادية بالأساس، إلا أن أثرًا مستقبليًّا لتلك التقانات يبدو حتميًّا، إذ إن ذلك الاندماج التكنولوجي يجعل الفرد قادرًا على التحكم بأشياء عديدة عبر جهاز واحد، يزيد من ثقته وشعوره بالتحكم والتمكين.
فالمواطن الذي يمكنه مراقبة حركة المرور ومخزون ثلاجته عبر هاتفه الذكي، والتعبير عن رأيه عبر شبكات التواصل، والمشاركة في تدريب ينعقد على بعد مئات الأميال عبر الإنترنت، لن يمكن إبقاؤه غير قادر على معرفة تفاصيل الموازنة العامة، أو أسباب زيادة سعر سلعة ما، أو تجاهل رأيه تجاه سياسات تمس مصالحه وحياته اليومية، الأمر الذي يستحيل معه اتباع نفس الطرق التقليدية في إدارة المجتمعات المغلقة، كوسائل الإعلام التعبوية، وضعف قنوات المشاركة والتنمية غير المتوازنة، وغيرها من المعضلات التي تُعاني منها البيئة السياسية العربية.