يصطف على الطريق بين مدينتي “النجف” و”كربلاء” في جنوب العراق، لافتات مُتراصة، ليظهر في كل لافتة منها وجهًا لمتطوع قُتل في الحرب ضد الدولة الإسلامية، وهي ليست وجوهٌ لجنود الجيش العراقي، وإنما لمقاتلي حركة الحشد الشعبي، فهي جماعة نشأت وفقًا للفتوى الصادرة عن آية الله علي الحسيني السيستايني، المرجع الشيعي الأكبر للشيعة في العالم؛ كرد منه على سقوط مدينة الموصل في العام 2014، حيث أعلن السيستاني الحرب على الدولة الإسلامية “الدفاع المقدس”، ووعد شعبه قائلاً: “مَن يضحي بنفسه للدفاع عن بلاده وعائلته، سيكون جزاؤه أن ينال مرتبة الشهادة”.
يُقدر اليوم عدد المقاتلين المنتمين إلى حركة الحشد الشعبي بـ60 ألف جندي مقاتل، لتشارك بعدد 35 ألف رجلاً من أصل 90 ألف قوة مشاركة في استعادة الموصل، ولعبت حركة الحشد الشعبي دورًا مهمًا في الهجوم على مدن “الفلوجة” و”الرمادي” و”بيجي”، بينما نجحوا لاحقًا في قيادة محاولات استعادة مدينة “تلعفر” غرب الموصل، وعلى الرغم من أهمية مشاركة حركة الحشد الشعبي في الحرب الدائرة، إلا أن موقفها يظل غامضًا بالنسبة للكثير؛ فقد أعلنت الحكومة العراقية في 26 من شهر نوفمبر الماضي، تمرير قانون جديد يعترف باعتبار حركة الحشد الشعبية جناحًا مهمًا عن قوات الأمن العراقية، فبالتالي ينطبق عليها القوانين العسكرية لتصبح بذلك قوة مماثلة للجيش العراقي، ولكن أخبرني أحد كبار أعضاء البرلمان العراقي، بعد يومين من إعلان الحكومة، أن القانون سيستهلك بعض الوقت للإعمال به.
ويشير أعضاء حركة الحشد الشعبية إلى أنفسهم كقوة وطنية تحريرية، أو حملة دينية ضد الشر، بينما وصفت وسائل الإعلام الدولية الجماعة بكونها تحالف مكوَّن من ميليشيات الشيعة المدعومة من إيران، فبالكاد ما تسيطرعليها العراق، ولكنني أرى أن كلا الوصفين ما هما إلا توضيح خاطئ لمكنون هذه الحركة، فتجسد مثل هذه الحركة العديد مما تواجهه العراق الحديثة من مشاكل؛ المنقسمة بسبب تعددية كيانها الديني والقومي، وتشمل مؤسساتها من هيئات الحكومية وغير حكومية، وتضارب المصالح الخاصة والأجنبية، كما تتكون حركة الحشد الشعبية من 40 وحدة أساسية؛ تبدأ من شعبة “عباس”، والتي يسيطر عليها “سيستاني” ويُعرف عنها انحيازها وتوافقها مع الحكومة العراقية، وعناصرها مُدربة من قبل القوات العراقية الخاصة، ثم تجد “كتائب السلام” المخلصة لـ”مقتدى الصدر”، وهو رجل دين عراقي وسياسي، ثم تجد أيضًا “منظمة بدر” وهي ميليشية إيرانية، فيما تتكون نصف وحدات حركة الحشد الشعبية من ميليشيات عراقية موجودة منذ القدم، بينما حارب بعضهم ضد قوات التحالف في غزو 2003، والباقي يصنفون بانتمائهم إلى سيستاني، وآخرون ما هم إلا سياسيين عراقيين.
بالطبع ينطوي مستقبل حركة الحشد الشعبية؛ كمؤسسة مستقلة بذاتها، على العديد من العواقب التي قد تضر بالعراق، حيث يمتد العديد من أعضائها شرعية صراعهم من الفتوى الصادرة عن سيستاني، وإذا ما قرر السيستاني التراجع عن فتواه، وامتنعت الوحدات التي تقع تحت سيطرته عن المشاركة؛ ستتقلص حركة الحشد الشعبية لتقتصر على وحدات إيرانية فقط، بجانب ميليشيات سياسية لتصبح بذلك رسميًا جزءًا من الدولة العراقية، ولكن دون الخضوع تحت سيطرتها؛ فسيضر وضع ولاء حركة الحشد الشعبية تحت الاختبار إذا ما تسبب الفساد في بناء حاجز بين الحكومة العراقية ومؤسساتها الدينية.
وقد وقعت العراق داخل براثن الصراع ضد الجهاد العالمي، وبين الطائفية الناتجة عن التدخلات الخارجية، وحينما سُئل فالح الفياد، مستشار الأمن القومي العراقي، عن مدى سيطرة إيران على العراق؛ ظهر حذره في إجاباته قائلاً: “نحن حلفاء جيدون للولايات المتحدة الأمريكية وعلاقاتنا مع إيران جيدة؛ حيث عكفت إيران على مساندتنا بعد سقوط الموصل، فمن مصلحة إيران أن تقاتل داعش، ولذلك يحرصون على مساندة حركة الحشد الشعبية، ولا ننسى أن العراق تنال المساعدة من مستشاريها الأمريكيين والمنتمين إلى حلف الناتو، فنحن نتقبل المساعدة من الجميع”.
وفشل الفياض في أن يذكر تمويل أكبر خمس وحدات في حركة الحشد الشعبية مباشرة من قبل إيران؛ فكانت كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق حلفاء مهمين لإيران خلال فترة غزو التحالف للعراق، ليصبحوا الآن أحد أهم وحدات حركة الحشد الشعبية، بينما قاتلت كتائب “سيد الشهداء” لصالح بشار الأسد في سوريا مؤخرًا، بينما تعد منظمة البدر أحد أهم حلفاء إيران، بقيادة هادي الأميري، الذي حارب لأجل إيران في حرب العراق وإيران، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط؛ حيث يعد الأميري صديق مقرب من قاسم سليماني، قائد فوالق القوات الإيرانية؛ أحد فروع الحرس الثوري الإيراني والمسئولة عن الحروب خارج الحدود الإيرانية، لذلك لا يستطيع الفياض انتقاد طهران بحرية حتى لا يفقد قدرته على إدارة كل هذه الوحدات.
وعلى الرغم من مكائد إيران الدسيسة، إلا أن إيران تسيطر على جزء من حركة الحشد الشعبية؛ فمن الصعب منع مشاركة ميليشيات الشيعة في عملياتها العسكرية، ولكن من الممكن تخصيص مناطق محددة لهم لتوظيف قدراتهم في مساعدة الجيش العراقي، فوقًا لوجهة نظر لاهور طالباني، المتحدث باسم جهاز المخابرات الكردستاني، من الممكن احتواء حركة الحشد الشعبية إذا ما لم تفرض عليها السيطرة.
ووفقًا للمخابرات البريطانية والعراقية، يتزايد حاليًا حالة القلق إزاء مصالح إيران في مدينة “تلعفر”، فلا تنحصر مصالحها فقط على الاكتفاء بحدود المدينة، وإنما تعتبر تلعفر نقطة مهمة في طريق الوصول إلى حدود سوريا؛ ففي عام 2013، اتهم جيمس ماتيس، وهو من اختاره دونالد ترامب لمنصب وزير الدفاع في إدارته المقبلة، الأميري بتسهيل تهريب الأسلحة لسوريا أثناء فترة منصبه كوزير للنقل العراقي حتى عام 2014؛ وبدوره أنكر الأميري صحتها من عدمه، وأثناء كل ذلك؛ ازداد وجود الميليشيات العراقية في سوريا ومشاركتها في الهجوم على حلب في الأسبوع الحالي، وفقًا لعدة تقارير، بالإضافة إلى تواجد بعض القوات المنتمية إلى منظمة بدر وحلفاء آخرين لإيران في سوريا.
بينما يوضح توم هاردي، رئيس مجلس إدارة لجنة حماية البنية التحتية الحرجة لحلف الناتو وأحد مستشاري الحكومة الإقليمية الكردستانية، قائلاً: “علاقة إيران بالوحدات محدودة؛ فهدفهم الأساس ينكب على سوريا نفسها، بالإضافة إلى ذلك المصالح الخاصة بكل قائد من كل وحدة”، فتجد أن المصالح الأولية الخاصة بإيران في العراق تنصب على الاقتصاد، تمامًا مثلما حدث في عهد صدام حسين، وتحرص إيران على ألا تزداد قوة العراق لتكون كافية لأن تمثل تهديدًا لها.
وترفض الأضرحة العراقية المقدسة بشدة التدخل الخارجي في شئونها العراقية، على الرغم من سيطرة إيران عليها، وهو ما يختلف تمامًا عن فالح الفياض، فهم لا يخشون من انتقاد إيران، ولدى الأضرحة اختلافات لاهوتية كبيرة مع قادة إيران الدينية؛ خاصةً فيما يخص العلاقة بين رجال الدين والحكومة، حيث يؤمن “سيستاني” بأهمية بقاء رجال الدين كدعاة أخلاقيين فقط عوضًا عن انخراطهم في السياسة.
وبعد انقضاء فترة قصيرة من تأسيس الوحدات الخاصة بالأضرحة، عُرضَ عليهم مساعدات خارجية لتشمل توفير السلاح من قبل إيران، وتدريب أفرادها على استخدامها؛ حيث أخبرني الشيخ هيثم الزيدي، قائد شعبة العباس: “وجّهنا إيران لتمد الجيش العراقي بالأسلحة، ليتم توزيعها علينا بعد ذلك، فلابد وأن تحترم البلاد الأخرى السيادة العراقية، وأن تلجأ إلى القنوات الرسمية لتتعامل مع الحكومة العراقية؛ منعًا لوصول الأسلحة إلى الأيدي الخاطئة”.
حتى الآن، تكمن أكبر الخلافات الدائرة بين الأضرحة والحكومة العراقية حول مستقبل حركة الحشد الشعبية؛ حيث ساندت الأضرحة تمرير القانون في شهر نوفمبر لصالح الحركة، وشجعت على وضع الحركة تحت سيطرة وأعين الحكومة، وحتى مع كل ذلك، سيتحول ميزان القوة داخل حركة الحشد الشعبية لو توقفت الأضرحة المقدسة عن المشاركة في الحركة، لصالح الوحدات التي لا تندرج تحت سيطرة الحكومة العراقية الحالية، وإذا لم يتوقف حلفاء إيران عن الاستمرار في صراعها في سوريا، وباعتبار حركة الحشد الشعبية كجزء من مكونات القوات العراقية، ستواجه الحكومة العراقية بذلك – عاجلاً أم آجلاً – مشكلة عويصة في سياساتها الخارجية.
اتلانتك – التقرير