ينبني الموقف الإنساني عبر البيئة التي ولد فيها وعاشها الفرد، وصولا إلى لحظات الطفولة ذات الأثر الأهم في نشأته، غير أن المشاهدات التي تواترت الآن عبر العديد من أجهزة الميديا أخذت تفرض هيمنتها العنفية في الكثير من المواضع، فعلى سبيل المثال يمثل التلفاز العنصر الأهم للأطفال حيث أن مسألة وجود أفلام «كارتون» لشخصيات تثير الرعب أو العنف في نفوس الأطفال باتت الآن أكثر جدية، إذ بدأ هؤلاء يتمثلون هذه المشاهدات ويحاكونها ضمن حزمة من الحركات المؤذية، والتي أخذت تطفح على الأسطح وتأخذ لها مديات أخرى.
لغة الصورة
تمثّل لغة الصورة عالماً رئيساً في فضاء التباري السلعي وكما يصفها دريدا «إن مجيء اللغة، هو مجيء اللعبة» بمعنى أن لغة الصورة التي تبث لنا عبر شاشة الميديا يجب أن يتبعها جانب سلعي تطبيقي، فبعد أن فضح لنا الفضاء “الميديوي” هذا الأمر يأتي الدور على المستهلك كي ينصاع لهذه المادة التي تطرح ثقافة معينة، وتخلق نوعا من التباري بين الأطفال، غير أن هذا الأمر بات رهيناً بكافة المعروضات على الميديا ولا يقتصر هذا الفعل على الجانب الطفولي فقط.
مشاهد «المسدسات» في الحراك اللعبي تم تدشينها في الواقع المعيش، وأخذ كل فرد يتحاشى مسألة شراء هذه الأسلحة لأطفاله من خلال ما جرى للعديد من الأطفال. وعبر هذه الأيقونات الإشهارية التي يوظفها الخطاب الإشهاري لأفلام الكارتون، برزت السلعة متماثلة مع هذه المديات، ولربما لأن الآخر بدأ التفكير البراغماتي الذي يهدف إلى إنتاج فعل مؤثر قبل بث السلعة، وهي لحظة رئيسة في مديات ما بعد الحداثة التي تتخذ من خطاب التلفاز واقعاً مبشراً بظهور الموديل الجديد في الملبس/المأكل/المشرب، وبالتالي ظهور الثقافة الجديدة.
وبرزت أيضاً عبر هذه اللائحة الإشهارية ظاهرة الاستلاب الفكري أو المفاهيمي وهي أشبه بظاهرة التوحد التي من خلالها ينطوي الطفل على ذاته، حيث تصبح الأشياء مسطحة أو هامشية باستثناء الفعل الآني الذي يقوم به.
يشكل العنف مضماراً مغايراً في الزي أو اللون، حيث يشكل له باعاً طويلاً منذ القدم، ففي الأساطير يأخذ اللون الأحمر ذو الدلالة المعروفة للجميع جانباً من جوانب الشر، وهو المسؤول عن كافة الطروحات التي تنتج من حكايات وأساطير شيطانية، كما أنه لدى الإغريق يستخدم لطرد الأرواح الشريرة المهيمنة على الحدث، فالزيّ هو المثار الحقيقي لبيان طابع الشخصية ومكوّناتها ومن خلاله يمكننا الكشف عن بواطن هذا الأداء وما يجول في خاطره من تداعيات مختلفة تسهم في إنتاج خطاب معين.
الإشهار ساهم في خلق ظاهرة الاستلاب الفكري وهي أشبه بظاهرة التوحد التي من خلالها ينطوي الطفل على ذاته
كما أن الماكياج هو المدشّن الحقيقي أو بالأحرى المتمم للزي، حيث من خلاله ينمو التعنيف ويأخذ طابعاً جدلياً ولكل شخصية قالبها الانتقائي، فشخصية الساحرة في زيها ومكيجتها تكون على الضد أو الخلاف من شخصية الراهب، وشخصية الفقير تتمايز عن شخصية الملك، فلكلّ من هذه الشخصيات ملامح ودلالات تأويلية وخاصيات تختلف عن مجاوراتها، وهو أمر له انعكاساته على الفضاء الجمعي الذي يكون من باب الميديولوجيا.
عنف متبادل
لا يتوقف الأمر عند ثقافة العنف التي يخلقها التلفزيون، بل كذلك هناك العنف الرمزي/الصوري الذي نتلقاه كل يوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة منها الشاشة الزرقاء “فيسبوك” الذي بات قرينا روحيا لمعاناتنا، إذ أننا لم نعد نأبه لمسألة الموت لأنه بات متلاحما ذهنياً وبصرياً مع ذائقتنا. وعبر هذه الممارسات الأولى كان هذا المكان يتسم بالمعرفة الكبيرة أمّا اليوم فنحن نرى من خلاله التشاحنات الطائفية المؤججة للفعل الانتقامي، والتي وجدت فيه ملاذاً رئيساً لسبك مفهومها التواصلي.
فتداولية فعل الصورة “التشويفي” بينت حالة الرعب والقسوة التي تستخدم ضد الإنسانية، فلو أخذنا مسألة الانفجارات وكيفية عرضها على هذه الشاشة، لأيقنا أن الخوف لم يعد متولدا فينا لأن هذه المشاهد اعتدناها، وخاصة على مر التحولات البيوغرافية التي طرأت على المنطقة العربية والعراق وسوريا خصيصاً.
ويأتي أيضا العنف البصري المتعلق بالفيديو، وهذا الشيء يرسم تباشيره العامة وفق نظام معين يتأتى بين طرفي الصراع، ولكي يستخدم في ترهيب الآخر وعرض كافة السلبيات التي يتمتع بها، فما يتم عرضه عبر اللوحة الإشهارية بالفيديو يخلق مجالا مكّن الآخر من تذويب الخطاب العنفي وجعله ذا مشاهدات يومية، ولم يعد الخوف هو المسيطر على الإنسان لأن مثل هذه المشاهد تكررت، وبات من الطبيعي أن نشاهد هذه الفيديوهات بلا أي مراوغة أو تكتيك مسبق، ويثير هذا الطابع الانصهاري فكراً مبطناً بتعاويذ الموت ومراحله القائمة على تمازجات أخلاقية.
ما يحصل اليوم في ساحات القتال هو الدليل الناجع على هذا الكلام لأن الآخر القاتل المتمثل بداعش المتطرف يرغب من خلال بثه مقاطع الفيديو في جعل الآخر يخشى الوصول إليه، والطرف الآخر يعمل نفس الأمر حتى يقول له إن نهايتك محتمة. وفي الحقيقة نوعية الإرهاب تمارس على الإنسان الذي لم يدخر الحرب، وعلى الأطفال الذين التقطوا هذه المبثوثات العامة كما أن الفعل القائم والمنعكس على شخصيات الأطفال والكبار هو الراشح من هذا التعنيف الميديوي القائم.
أحمد ضياء
صحيفة العرب اللندنية