هل المواجهة الأولى التي سيفتتح بها الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، حكمه ستكون مواجهته لطهران وملاليها بعد أن كان أعلن مراراً، أثناء حملته الرئاسية وبعد انتخابه رئيساً، أنه يريد نقض الاتفاق النووي معها؟ وهل تكون لهذه المواجهة الأولوية والتقديم على معالجة قضايا دولية ملحّة وساخنة وفي مقدمها الإرهاب وانفلات عمليات تنظيم الدولة في العالم، وكذا انكشاف التجسس الروسي الاستخباراتي، أم أن العملاق الصيني أهم على أجندة ترامب؟
يــنـشغل مــــستــشارو العـــلاقـــات الخارجية في فريق ترامب، ومنذ اليوم الأول لتشكيله، بإعداد السيناريوات لكيفية التعامل مع الاتفاق النووي. فبعضهم يجتهد بأنه يمكن الإبقاء على الاتفاق مع تشديد العقوبات على طهران. والبعض الآخر الأكثر تشدّداً يرى في الاتفاق ضعفاً شديداً واستسهالاً بدور الولايات المتحدة وموقفها المناهض للسياسات الإيرانية، ويطالب بإلغائه وإعادة مناقشته. إلا أن الجدل يقوم هنا حول المدة الزمنية التي انقضت على توقيعه ومدى تأثير هذا التقادم على إمكانية خلق ظروف موازيـة لتلك التي أرغمت طهران حينذاك على الرضوخ لمشيئة الولايات المتحدة والدول الراعية والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ويبدو أن الرأي المرجّح الآن يتّجه نحو تلافي أي قرار كبير وأحادي من الولايات المتحدة، على الأقل في الأيام الأولى لدخول ترامب إلى البيت الأبيض، إلى أن يستقر له الحكم، والعمل على تغيير طريقة التعامل مع الخروقات الإيرانية في ما تعلّق بالاتفاق، كاتخاذ إجراءات فورية ورادعة إذا ما تكرّر إطلاق الصواريخ الإيرانية البالستية، لا كما حدث مع إدارة باراك أوباما التي انتظرت ثلاثة شهور لتدين هذا الخرق، ولتفرض على طهران حداً أدنى من العقوبات لا يتناسب على الإطلاق مع حجم تجاوزاتها.
ويرى المستشارون أنه إثر تشديد المراقبة والعقوبات، تبدأ إدارة ترامب بالتعامل مع أذرع إيران الميليشياوية التي تمدّها في المنطقة، وتزودها بالعديد والعتاد لزعزعة استقرار الدول المجاورة.
الصقــور الجمهــوريــــون الذيـــــن يعيبون على ترامب أنه وصل إلى البيت الأبيض من خارج المؤسسة السياسية الجمهورية العريقة، ومعظمهم عارض ترشيحه عن الحزب لانتخابات الرئاسة، كانوا من المعارضين الأشداء لتلك الاتفاقية التي أبرمها سلفه باراك أوباما. وهم يرون ضرورة إعادة فتح ملفها، وإعادة التفاوض بمعايير جمهورية حازمة بهدف ربط شروطها مع توقّف إيران عن رعاية ودعم الميليشيات الطائفية وفي مقدمها حزب الله وفروعه في سورية والعراق واليمن، وكذا الكف عن تدخلاتها الإقليمية بل عدوانها المباشر على السوريين في غير موقع ومدينة، ومراجعة ملف حقوق الإنسان الذي تشوبه بقع الدم والقهر منذ اندلاع الثورة الخضراء عام 2009 حتى هذا اليوم. ويرى هؤلاء الصقور أن إدارة أوباما فوتت فرصة كبيرة في ردع نظام الملالي في حينه، ولو أنها دعمت ثورة المستنيرين الليبراليين من طلاب الجامعات والمثقفين والسياسيين الإصلاحيين، لكان الطريق أقصر بكثير لكبح جماح طهران النووي، والعقائدي التوسعي أيضاً.
فعلى رغم العقوبات الاقتصادية التي وُضعت إيران في خانتها، فإنها لم تتخلّ عن دعمها المادي والعسكري والسياسي لحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي ومشتقاته في العراق، وعشرات الميليشيات بكافة المسمّيات والممارسات الإرهابية التي ترتقي إلى جرائم حرب في سورية، وذلك إلى جانب النظام السوري حين تهالك جيشه.
ومن المؤسف أن أوباما الذي انبنت استراتيجيته الخارجية على النأي بالنفس عن تعقيدات الشرق الأوسط إثر اندلاع ثوراته الشعبية، ثم الانعطافات التي أحدثت فجوة في هذه الحركات تسلّلت من ثغورها القوى الظلامية مدعومة بالأنظمة الاستبدادية عينها التي خرجت الثورات أصلاً على طواغيتها، كان قد دفع لطهران ما يمكننا أن نسميه مجازاً بالرشوة، وبما يعادل 700 مليون دولار شهرياً حتى تجلس إلى طاولة المفاوضات، وتوّج هذه المكرمة الشهرية بفدية دفعها نقداً وبالعملة الورقية حيث نُقل بطائرة خاصة من واشنطن إلى طهران ما قيمته 1.7 بليون دولار للإفراج عن رهائن أميركيين معتقلين في إيران. كل هذا لأن أوباما أراد أن ينهي فترة حكمه الذي بدأه بتلقي جائزة نوبل للسلام بالطريقة نفسها التي دخل بها المكتب البيضاوي، وأن يسلّم مفاتيح الشرق الأوسط الملتهب بنيران حروبه لجوقة أصحاب العمامات السود.
وأوباما الذي تمكّن ببلاغته اللفظية من إقناع المجتمع الأميركي والدولي بأهمية عقد الصفقة النووية مع إيران، وما سيكون لها من مردود مباشر وإيجابي على الأمن القومي الأميركي وأمن واستقرار دول العالم بعامة، والشرق الأوسط بشكل خاص، يغادر مخزياً بما وصل إليه الأمن والاستقرار في العالم، حيث مشاهد الموت العبثي جليّة من الموصل إلى حلب إلى باب المندب، ودورة العنف اليومي تولّد إرهاباً متوحشاً منفلتاً من عقاله، وعابراً للقارات.
يبقى أن يحدّد الرئيس الأميركي الجديد أدواته الخاصة في التعامل مع طهران، في الملف النووي تحديداً، الذي منه تنطلق كافة المسارات وإليه تتوجه السياسات الخارجية لترامب التي سيحددها بناء على معطيات ما بعد حروب الشرق الأوسط، سواء بالترغيب عن طريق «الجزرة»، كما فعل سلفه أوباما، أم برفع العصا والعودة إلى النقطة الصفر في المواجهة بين طهران وموسكو، متمثّلاً سياسات الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، لا سياسات سلفه جيمي كارتر.
مرح البقاعي
صحيفة الحياة اللندنية