الجهلة لا يتسامحون، لكنهم قد يمارسون نوعا من التوافق الهش والمبني على أفكار واهية ومزعومة خارجة عن سياقاتها، مثل القول برأفة القوي بالضعيف أو تجاوز الأخطاء من باب الحلم أو الدهاء السياسي أو حتى انتظار الفرصة السانحة للانتقام.
المعرفة شرط أساسي لفلسفة التسامح كعقيدة تجمع كل العقائد، وتبحث لها عن نقاط التلاقي، وذلك دون أن تتجاهل نقاط الاختلاف الذي هو سنة الكون بل ربما شرط للتعايش الذي يقتضي الغنى والتنوع، على خلفية تلاقح الثقافات الذي يفرز التطور والتقدم.
مفكرون وباحثون تطرقوا إلى مبدأ التسامح كنمط فكري، دون أن يكونوا رجال دين، الأمر الذي يكسب أطروحاتهم مصداقية أكثر، ويخلصهم من “تهمة” أن كل رجل دين، مسيحيا كان أم مسلما، يحاول الميل نحو دفته ويمارس نوعا من الخطاب التوفيقي الذي قد ينزلق نحو التلفيق، وخلط ما يصعب خلطه بدعوى الالتزام بقيم المحبة ونبذ الفتنة، وهو أمر قد يكرس الدولة الدينية ويحيّد العلمانيين والتنويريين عن دورهم الحقيقي.
الباحث حنا عيسى أمين عام “الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات” يرى أن التسامح الديني في معناه العميق اليوم، يرتكز إلى مبدأ فلسفي وديني طليعي، وهو القبول بالوحدة الكونية والإنسانية. يقبل هذا المبدأ بالفوارق والاختلافات الدينية والثقافية على أنها طرق أخرى في فهم الله والإنسان والكون.
فالتسامح، في نظر الباحث الفلسطيني، ليس مساومة فكرية أو دينية، كما أنه بالمقابل لا يلغي الخصائص والمميزات الفريدة، ولا يقفز فوق الفوارق الدينية والحضارية، إنه الاعتراف الهادئ بوجود التباينات، ومن ثم احترام هذه التباينات باعتبارها إثراء للوجود البشري ودعوة إلى التعارف والتثاقف.
التسامح ينطلق من أن التعدد شريعة إلهية، وسمة الوجود وهكذا يتجاوز فكرة القبول السلبي، الاضطراري للآخر إلى فكرة أن الآخر شرط مؤسس ومكمل للشخصية الذاتية، وإن التسامح ليس هو السكوت عن الآخر، في انتظار أن تسنح لحظة إلغائه، بل استدعاء لهذا الآخر، مجاورا ومحاورا وشريكا في تكوين الحقيقة.
التسامح هو القيمة التي تجعل الحياة قادرة على أن تهزم الموت والحروب، ففي غياب التسامح، لا ثقافة للسلام
لا يتسامح إلا العارفون، والمدركون بأن البشرية محكومة بالتعايش، وما عدا ذلك فالخراب هو مصير البشرية جمعاء، ودون استثناء، فلا وجود لعقيدة تزعم أنها ستتسيد العالم، وفي هذا الإطار يقول عبود في إحدى كتاباته “بينما كان التسامح الديني، في أقصى مدى له، يرنوا إلى حسن الجوار صار التسامح الديني يعني اكتشاف الآخر في بهائه والتعرف على المطلق في كل دين”، ويضيف أن الشرط الأول للتسامح الديني الحقيقي هو المعرفة، معرفة حقيقية للذات وللتاريخ وللهوية ثم معرفة الآخر، تاريخا وثقافة وفكرا، لا يستقيم التسامح الحقيقي، لا التسامح الشكلي والبروتوكولي، إلا على قاعدة المعرفة الرصينة، فالجهلاء لا يتسامحون، ولا يتحاورون.
التسامح ليس هدنة، ولا اتفاقا عرضيا يزول بزوال أسبابه، فما يقوم على الصمت المؤقت عن الاختلاف ليس تسامحا خلاقا أو مساهما في عمران الكون، بل هو رأفة القوي بالضعيف وتعامل يقوم على منطق القوى والأكثرية النسبية، فالدين السائد في منطقة جغرافية محددة يشكل أقلية ضيقة في بقعة جغرافية أقرب أو أبعد.
ليس التسامح خيارا بين خيارات، يمكن أن تستقيم الأحوال السياسية والدينية والحضارية في العالم بوجوده أو انتفائه، بل هو الخيار الإلزامي، المعبر الضروري إذا شاءت البشرية أن تنمو وتزدهر، إنه القيمة التي تجعل الحياة ممكنة، وقادرة على أن تهزم الموت والحروب والدمار. ففي غياب التسامح، لا ثقافة للسلام ولا أمل في العيش المشترك.
وقال عيسى “بأن الأديان السماوية تنطوي على قيم التسامح الديني التي تقود المؤمنين إلى التحلي بأخلاقه. ففي المسيحية والإسلام الكثير الكثير مما يدعو ويؤسس لهذا المفهوم العميق للتسامح الديني. إن التقاء المسيحية والإسلام على تكريم الإنسان بصفته خليفة الله على الأرض، واعتباره كائنا حرا، ودعوتهما إلى إنماء الأرض إنماء مشتركا، على قاعدة العدل، إنما يشكلان منبعا ومصدرا لفكرة التسامح الذي يغتدي من مصدر إلهي”.
نخلص مما تقدم في حديث الباحث، إلى أنه يكفي المؤمنين أن يعيشوا ويلتزموا بالكتب السماوية بصدق وإخلاص، حتى يحققوا في واقعهم الحياتي اليومي ما تدعوهم إليه كتبهم المقدسة.
أن تكون مسلما حقا، ومسيحيا حقا، يعني أن تذهب في إيمانك وإلى مقاصده العليا، أي إلى الإعلاء من قدر الإنسان، ورفض أي استغلال أو إقلال من كرامته ككائن مخلوق على صورة الله.
واختتم عيسى “إننا نحمي قيم التسامح الديني عندما نتخذ من العيش المشترك نهجا في حياتنا، ونصون العيش المشترك عندما ندافع عن قيم التسامح الديني، يجرد الدين من ثقل التاريخ من خلال الفهم الديني العميق للمسيحية وللإسلام، والتصورات النمطية المشوهة في المخيلة الشعبية ويقود المؤمنين إلى التزام الإنسان الفرد الحر بعيدا عن دينه ولونه وعرقه وأصله”.
صحيفة العرب اللندنية