لم يكن جهد المثقف منظورا بلمحة بصر كما هو جهد المتطرف في الدين والمذهب، فالخطبة التي تلهب الجمهور دفاعا عن الدين أو المعتقد بشكل عام تجد طريقها إلى مسامع الجمهور الساذج بسرعة النار في الهشيم، مع عدم واقعيتها ولا صحتها.
فعبارة “الدين يا محمد”، التي كثيرا ما صرخ بها رجال دين متشددون أدت إلى حماسة السامعين ومطاردة مَن وجهت ضدهم، وعبارة “عدو الحسين” أدت إلى محاصرة مَن أراد فتح عيون المأخوذين بتجارة المواكب والمساومة على الأحزان. الدين يصبح ملاذا قويا في أوقات الأزمات، سواء كانت في الحروب أو الظلم الاجتماعي والسياسي. لهذا لم تكن عبارة “الدين أفيون الشعوب” خاطئة إذا أخذت بمعناه الصحيح، فالدين يمثل الراحة ومواجهة الألم في الشدائد، بهذا كم تكون مهمة المثقف صعبة وعسيرة؟
اليوم ينكفئ المثقف على صفحات مجلته أو برنامجه الثقافي ولا يفتش عن الطبقة العريضة، إنه شكل من أشكال الهزيمة، فما قيمة الثقافة إذا لم تصل إلى الجمهور وتغير فيه نحو الأفضل
نعم، جهد المثقف غير منظور لأنه كالبناء لا يجري بسرعة الهدم، فهو يحتاج إلى عقل بينما الهدم لا يحتاج سوى عضلة وفأس، وبالإمكان تجنيد الآلاف من المتعصبين والمتطرفين، لكن خلق أفراد من الواعين لثقافة التسامح والتنوير يحتاج إلى وقت طويل. إلا أن على المثقف، في هذا الوقت الملتهب، أن يقوم بتغيير أدواته ووسائله، فلا يبقى جهده محض تأليف الكتاب أو كتابة المقالة، وعليه ألّا يخجل من الدخول في عالم وسائل التواصل الاجتماعي بعذر أو تبرير أنه لا يريد أن يصطف مع القطيع، الذي يُقاد مِن قبل الجماعات المتطرفة عن طريق تلك الوسائل.
كذلك على المثقف ألّا يكتفي بالقول “ما جادلني جاهل إلا غلبني”، وينكفئ على نفسه. صحيح أن حجج الجاهل كثيرة وسريعة في فعلها، لأنها بسيطة وساذجة قياسا بالحجج العلمية التي تحتاج إلى عقل راجح لفهمها واستيعابها. لكن هذا القول في الكثير من المناسبات يعدّ انهزاميا، فعليه ألّا يفكر في ربح المعركة في جدل الجاهل بهذه السرعة التي يعتقد أنه ينتصر عليك فيها، إنما على المثقف أن يفكر بأنه ترك في داخل هذا الجاهل شرارة ستنمو وتتحوّل إلى لهيب، ويظهر تغييرها عليه آجلا.
مسألة بقاء المثقف داخل أسوار النخبة أدّت إلى انتصار المتطرفين. وهذا ليس اليوم بل منذ الأمس البعيد؛ فكان تعالي المعتزلة على الجمهور أو ما كانوا يسمونهم بالعامة أو الرعاع قد أدّى إلى انتصار الطرف الآخر، وسمح له أن يجيّش الجيوش ضدهم، بل يكسب السلطات نفسها، لأن السلطة تميل عادة إلى استقرار وضعها بكسب قلوب الأكثرية لها.
هذا ما يحصل اليوم، ينكفئ المثقف على صفحات مجلّته أو برنامجه الثقافي ولا يفتش عن الطبقة العريضة، إنه شكل من أشكال الهزيمة ولا يعني قوة الثقافة، فما قيمة الثقافة إذا لم تصل إلى الجمهور وتغيّر فيه نحو الأفضل؟
لم تنتصر أوروبا على التعصب المذهبي والديني إلا بالمثقف، كرسالتي فولتير وجون لوك في التسامح، وما نشره مثقفون آخرون ضد التعصب الديني. ولكن لم تكن هذه الثقافة مؤثرة في التغيير لولا تفهّم ملوك وحُكام تلك الفترات، هنا تأتي قيمة الثقافة وتأثيرها وانفعال المثقف فيها. فلو تعالى المثقف وتعامل مع الجمهور بسلبيته وحساسيته المفرطة، وهي في الكثير من الأحيان للتظاهر، ولولا احتواء الملوك لهم، لما تمكنت أوروبا من تجاوز تلك المحنة.
مع ذلك علينا حساب استدراج العديد من المثقفين إلى ثقافة التعصب والكراهية؛ بعد استدراجهم إلى تأييد مظالم الدكتاتوريات. فلا نعني القرب من الجمهور أو من السلطة انبطاحا، إنما إيجاد الفرصة للتأثير، لا الانسياق وراء الجهل والظلم، فمحنة المثقف في منطقتنا أنه وصل إلى التسليم بالأمر الواقع، وينتظر معجزة في التغيير لصالح التسامح والتنوير، وهذا لا يحصل إلا بفعله وإثبات وجوده.
زيد بن رفاعة
صحيفة العرب اللندنية