ثمة العديد من المؤشّرات التي تفيد باحتمال حصول تغيّرات نوعية، مفاجئة وكبيرة، في المشهد السوري، على الصعيدين السياسي والميداني، كما في تجاذبات أو صراعات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا المشهد.
على الصعيد الداخلي، يمكن رصد أهم هذه التحولات بعاملين، أولهما تحوّل معظم فصائل المعارضة المسلحة نحو القبول بخيار المفاوضات، أو خيار الحل السياسي، بعد أن كانت تمتنع عن ذلك، بدعوى أن لا حل سوى بإسقاط النظام عسكرياً، أو لأن لا ثقة لها بالحلول السياسية، تبعاً للأطراف الراعية للمفاوضات، والمقصود هنا تحديداً الطرف الروسي.
يلفت الانتباه أن تلك الفصائل ذهبت إلى خيار المفاوضات، في العاصمة الكازاخية آستانة، متناسية كل الادعاءات التي كانت تطرحها، ومتجاهلة أنها اتجهت نحو هذا الخيار بعد الانهيار العسكري الحاصل في حلب، وبعد اتضاح انسداد أفق الحل العسكري، وأن هذا الأمر تم بناء على رأي الحليفة تركيا. وطبعاً لا يدور النقاش هنا حول صحة هذا الخيار من عدم ذلك، مع التأكيد أنه الأنسب، وإنما النقاش يدور حول المواقف السابقة لهذه الفصائل، التي كانت تكابر في شأن قواها وقدراتها، وتترفّع عن دراسة المعطيات السياسية (كما العسكرية)، والتي ظلت تشتغل بعقلية قدرية، ومزاجية، إلى جانب استمرائها الارتهان للقوى الخارجية. وهذا الموقف ينطلق أيضاً، من الاعتقاد بأن الموقف الأصوب، ربما كان يتمثل بالتأكيد على وحدانية تمثيل المعارضة، وإحالة الأمر الى «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها هذه الفصائل، إذ كان من شأن ذلك أن يضفي نوعاً من الصدقية على المعارضة إزاء نفسها، وإزاء شعبها، وإزاء العالم.
طبعاً، يلفت الانتباه في هذا الأمر أن لا «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وهو الكيان الرئيس للمعارضة السياسية، ولا «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها أوسع تشكيلة من الكيانات السياسية والعسكرية، أبديا أي تبرَم مما حصل، أو من هذا الانتقاص من مكانتهما في تمثيل المعارضة، إذا استثنينا بعض المواقف الفردية، التي أبدت استنكارها ومخاوفها من تلاعب روسيا بتمثيل المعارضة، ومن النيل من مكانة وشرعية الإطارين المذكورين.
العامل الثاني، يتمثّل في انقلاب معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، على جبهة «فتح الشام» (جبهة «النصرة» سابقاً)، وهو موقف مفاجئ، وقد ماطلت معظم فصائل المعارضة في الإفصاح عنه لأسباب عقائدية، حيث ثمة فصائل لا تبتعد في طروحاتها عن هذه الجبهة، وميدانية، بحكم قوة هذه الجبهة، وإقليمية بواقع علاقات الجبهة الخارجية. ومعلوم أن تلك الجبهة، التي لم تحسب نفسها يوماً على الثورة السورية، وناهضت مقاصدها المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ظلت تشكل خطراً على فصائل المعارضة العسكرية في كافة أماكن تواجدها، وهي أصلاً كانت عملت على إزاحة جماعات «الجيش الحر» من المشهد، فضلاً عن أنها حاولت فرض أنماط متعصّبة ومتطرّفة من الإسلام على السوريين، بواسطة القوة، في المناطق التي خضعت لسيطرتها، ناهيك عن تبعيتها لتنظيم «القاعدة»، وهو ما أضر بإجماعات السوريين، وبصدقية ثورتهم في العالم.
في هذا الجانب أيضاً، لم يأتِ هذا التغيّر نتاج تطور في القناعات السياسية، أو نتاج مراجعة للتجربة، بما لها وما عليها، من قبل المعارضة، وإنما أتى نتيجة ضغوط خارجية، وضمن ذلك التحوّل في الموقف التركي.
هكذا نحن في الحالتين المذكورتين آنفاً إزاء معارضة (سياسية وعسكرية) مترددة، ولا تأخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولا تصدر مواقفها بناء على ادراكاتها لمصلحة شعبها، أو متطلبات ثورتها، ولا بناء على مراجعة نقدية للمسارات والخطابات التي انتهجتها، الأمر الذي يضعف صدقيتها، ويثير الشبهات حول حقيقة أو صلابة الخيارات التي اشتغلت على أساسها.
على أية حال يمكن الجزم بأن التحولين المذكورين لن يمرا بسهولة، إذ إن التحول الأول قد يفضي، على الأرجح، إلى إعادة ترسيم خريطة الكيانات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، وضمنها للوفد المفاوض، مع كل ما يستتبع ذلك من تغير في المرجعيات والأولويات والمواضيع. في حين أن التحول الثاني قد يفضي إلى إعادة هيكلة الفصائل العسكرية، والعمل على تحجيم «جبهة النصرة»، وربما تصفيتها، إضافة إلى حصول تغيرات ميدانية، تبعاً لذلك، في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وفي شكل إدارة المناطق «المحررة».
أيضاً، على الصعيد الخارجي ثمة تحولات نوعية مهمة، وكبيرة، قد يتوقف بناء عليها مصير النظام والثورة السوريَين، أو مصير الصراع السوري برمته، وهو ما يتمثل، أولاً، في ظهور التباين بين الأجندتين الروسية والإيرانية، معطوفاً على تضاؤل نفوذ إيران في الصراع السوري لمصلحة روسيا. وثانياً، بتزايد التوافق والتنسيق الروسي – التركي، على حساب إيران، أيضاً، مع ما يعنيه ذلك من وضع حد للتدخل العسكري الروسي لمصلحة النظام، أو على الأقل التخفيف منه. وثالثاً، دخول الولايات المتحدة الأميركية في عهد الإدارة الجديدة على خط الصراع السوري، على خلاف عهد الإدارة المنصرفة، سواء بتهديدها إيران، وتصريحها عن اعتزامها تحجيم نفوذ طهران في المنطقة، وفي شأن تصريحاتها العلنية بخصوص عدم التوافق أو عدم الرضا عن سياسة روسيا في سورية، كما بتلويحها بإمكان تنظيم مناطق آمنة في سورية (وفق تصريحات الرئيس الجديد دونالد ترامب)، ما يعني عودة التقارب بينها وبين تركيا.
في كل الأحوال، فإن هذه التحولات تفيد بإمكان تغير المعادلات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع السوري، أو بالصراع على سورية، ولعل هذا ما يمكن ملاحظته من تغير الأجندة الروسية بتخفيف ضغطها العسكري (الجوي) على فصائل المعارضة العسكرية، ووضع ثقلها وراء الحل السياسي التفاوضي، وطرحها مشروع دستور، واستعجالها توليف تشكيلة جديدة للوفد المفاوض، وهي المحاولة التي لم تنجح، على ما تبين من فشل اجتماع موسكو، الذي عقد بعد مؤتمر آستانة.
كما يتجلى ذلك بقبول معظم فصائل المعارضة الدور الروسي الجديد توخياً منها للاستثمار في التغير الحاصل لمصلحتها، ولمصلحة تركيا، وأيضاً من أجل تحجيم نفوذ إيران في سورية.
بيد أن كل التحولات المذكورة ستظل رهناً بعوامل أخرى لم يجر بعد تبين مداها، أو مفاعيلها، وهذه تتمثل أولاً في مدى حسم الإدارة الأميركية الجديدة مواقفها إن في شأن مناطق آمنة، أو بخصوص علاقتها بالمعارضة السورية، كما في شأن التدخل بالطريقة المناسبة، بوسائل الضغط السياسي أو العسكري، لإنهاء الصراع السوري. ثانياً، هذا سيتعلق بطبيعة رد الفعل الإيراني على التحولات في الموقفين الأميركي والروسي، لا سيما أن لهذه الدولة وجوداً ميدانياً، أي عسكرياً، في سورية، كما في العراق ولبنان. ثالثاً، يبقى السؤال هنا مشرعاً في شأن حقيقة توجهات روسيا، وما إذا كانت تعتزم حقاً طرح استراتيجية خروج من الصراع السوري قبل التورط في مواجهات غير محسوبة مع الإدارة الأميركية الجديدة، أو إنها لا تبالي بذلك، سعياً منها لإجراء مساومات مع هذه الإدارة في ملفات أخرى عالقة (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، الحظر التكنولوجي، أسعار النفط). ورابعها، يتعلق بالمعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية، إذ من غير المعقول بقاؤها على النحو الذي هي عليه، ببناها وخطاباتها وأشكال عملها، وبتشتتها، وارتهان ارادتها، وبالفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.
الفكرة هنا أن المعارضة معنية بإعادة تنظيم أحوالها وترشيد خطاباتها، والارتقاء بأشكال عملها لمواجهة الاستحقاقات والتحديات المقبلة، لأنه من دون ذلك لن يستطيع السوريون الاستثمار في التحولات المرتقبة، والبناء عليها، وبخاصة أن النظام يبدو كجبهة موحدة، وينتهج استراتيجية واضحة وخطابات متماسكة، في حين تبدو المعارضة على خلاف ذلك.
ماجد كيالي
صحيفة الحياة اللندنية