لم يدم التفاؤل الذي دفع إليه التفاهم الروسي التركي، وما أعقبه من افتتاح مفاوضات الحل السياسي السوري في اجتماعات أستانة طويلا. ولم تنفع كثيراً المواقف الصلبة التي تمسك بها وفد الفصائل العسكرية في تجنيب المعارضة الانخراط في مفاوضاتٍ سياسيةٍ من موقف الضعف. وليس من المبالغة القول إن المعارضة السورية تجد نفسها اليوم في أسوأ حالاتها منذ بداية ثورة آذار/مارس 2011، فقد نجح الروس، من خلال مناورة أستانة التي لم يقدموا فيها شيئاً للفصائل، في شق صفوف الأخيرة، ودفع كثير منها إلى التطرّف والاندماج في ما سمي هيئة تحرير الشام التي ضمت، إلى جانب فتح الشام، حركة نور الدين الزنكي ولواء الحق وجبهة أنصار الدين وجيش السنة. ما يعني أن الأوضاع تتجه في الاتجاه الذي راهن عليه الروس وحلفاؤهم منذ البداية، وهو أنه لا ينبغي أن يكون هناك أمام السوريين والمجتمع الدولي خيار سوى بين الأسد، أو نظامه الدموي، و”داعش” أو جبهة النصرة وأشباهها.
وبينما يستمر الاقتتال بين الفصائل في ريف حلب وإدلب، مهدّداً بتحييد قوى المعارضة الوطنية، ووضعها تحت رحمة جبهة النصرة وحلفائها، أو قوات النظام، تستمر الحملة المنسقة لحزب الله ومليشيات إيران الطائفية في التقدم على جبهة وادي بردى، وفي أعقابها عمليات التهجير الجماعي للأهالي والمقاتلين، تاركةً المنطقة الاستراتيجية حول دمشق مفتوحةً أمام عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي القادمة في شرق العاصمة وجنوبها.
أما المعارضة السياسية فهي ليست أقل تفكّكا من فصائل المعارضة المسلحة، فقبل شهر من تجديد قياداته، وفي وقتٍ لا يكف قادته عن الإعلان المكرور عن إصلاحه، يعيش الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة حالةً شديدة من الضعف والانسحابات المتواصلة، في حين تخرج هيئة التنسيق الوطنية عن قرار الهيئة العليا للمفاوضات، وتشارك وحدها في مؤتمر أستانة، وفي اجتماعات موسكو التي أعقبتها، ولم تضم سوى المجموعات والشخصيات الموالية لروسيا. أما الكتلة الواسعة من آلاف الناشطين السابقين والجدد فتعيش في حالة ضياع كامل، لا قيادة معروفة، ولا رؤية مشتركة، ولا خطة عمل واضحة.
وفي موازاة ذلك، تحاول روسيا إعادة تركيب وفد المعارضة إلى المفاوضات المرتقبة، بما يسمح بإقصاء قوى المعارضة الرئيسية، وسحب الشرعية عن هيئة المفاوضات العليا، وتشكيل وفد متعدّد الأطراف، تشارك فيه الفصائل، كما تشارك فيه المجموعات الأخرى، بشكل مستقل ومنفصل، يمنع المعارضة من توحيد مواقفها، ويسمح لموسكو باللعب على خلافاتها، وتكون الغلبة فيه للمجموعات الموالية لها. كما تعمل من أجل تغيير مرجعية المفاوضات المقبلة، والاستعاضة عن تطبيق القرارات الأممية الواضحة، والمُتفق عليها، بمناقشة الأفكار والخطط الروسية. ولهذا الهدف، حرصت على تقديم مسودة الدستور السوري المقترح، والذي تريد له أن يكون ورقة المفاوضات الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، ومن ثم الالتفاف على مسألة الانتقال السياسي، وعلى تشكيل هيئة حاكمة انتقالية بصلاحياتٍ كاملةٍ، كانت تعتبر، حتى الآن، جوهر المفاوضات المنتظرة منذ خمس سنوات تحت رعاية دولية.
كتبت، في السابق، أن معركة حلب أنهت الفصل العسكري من الحرب، وإنْ لم تنه الصراع المسلح في الجبهات التي لا تزال مفتوحة، وإننا ندخل في مرحلةٍ جديدةٍ سوف تكون الحرب السياسية والدبلوماسية السائدة فيها. وأن هذه الحرب سوف تتخذ شكل البحث عن التسوية، يربحها من يجعل التسوية تصبّ في تحقيق أهدافه. كما ذكرت أنه، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مع تفاقم تخبط المعارضة السياسية والعسكرية وانقسامهما، لن تحصل التسوية لصالح السوريين، حتى في ما يتعلق بوقف النار، وإنما على حسابهم. وهذا ما ترتسم ملامحه اليوم، بشكل أكثر وضوحا. حتى أصبحت الصحافة تتداول، كأمر واقع، وتقارن خرائط تقسيم مناطق النفوذ بين الدول المتنازعة.
لم تعد سورية للسوريين، ولم تعد المفاوضات المطروحة بين السوريين للوصول إلى تسويةٍ سوريةٍ سورية، وإنما أصبح المطلوب موافقة السوريين، حسب تابعيتهم وأهوائهم وخلافاتهم، على خريطة تقاسم النفوذ في وطنهم التي تحدّد مكان كل طرفٍ منهم في بلده، من خلال ولائه لسيده الجديد. لم تعد هناك سورية واحدة ولا موحدة، لا كواقع ولا كمشروع، ولا عادت سورية إلى السوريين، وإنما أصبحت سورية لغيرهم وأعدائهم، يتقاسم النفوذ والسيطرة عليها وفيها جميع الآخرين، من دون السوريين، بينما يتسوّل السوريون فرصةً لزيارتها أو المشاركة في مؤتمر، أو اجتماع يتحدّث عنها.
لم يتحقق بعد للقوى الطامعة في اقتسام سورية، وسلخها عن شعبها وتحويلها إلى منطقة قواعد عسكرية، ومستوطنات ومعابر وممرات استراتيجية وفضاءات مفتوحة لجميع حروب تصفية الحسابات الإقليمية والدولية ومواطن للتطرف والحروب العالمية ضد الإرهاب، ما تريده، ولن يكون من السهل لها تحقيق ذلك. لكن أيضاً لم يعد من الممكن للسوريين الطامحين إلى استعادة وطنهم، والتمسك بهويتهم وحقوقهم، المراهنة على الأوراق ذاتها التي فقدت وزنها وصدقيتها، أقصد لا على الفصائل المسلحة، ولا المؤسسات السياسية القائمة للمعارضة، ولا التحالفات والحلفاء الدوليين الذي أطلقوا على أنفسهم اسم مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وانتهوا إلى أن يتركوا لروسيا الحرية الكاملة في تقرير مصير سورية، ولم يعد أغلبهم يقبل بالشعب السوري، حتى في مخيمات اللجوء.
هذا الفراغ السياسي الذي يحيط بقضية السوريين، بسبب غيابهم عن ساحة الصراع، وتخلي حلفائهم أو من يدعون ذلك عنهم، ويهدّد بقطعهم نهائياً عن بلادهم، وتشريدهم السياسي والإنساني معاً، أصبح فراغاً مفزعاً، وينبغي أن يزول ويملأ بأسرع وقت. وليس هناك من يستطيع ملأه سوى السوريين أنفسهم، هؤلاء الذين لا يزالون يعيشون في سورية، وأولئك الذين أصبحوا جزءا من مهاجريها ومغتربيها الكثيرين. حان الوقت كي يصحو السوريون من غفلتهم، ويستعيدوا وعيهم وإرادتهم، وينتزعوا قضيتهم بأيديهم، قبل أن يضطروا إلى الجلاء عن وطنهم. والمبادرة في يدهم، وهذه بداية الطريق.
برهان غليون
صحيفة العربي الجديد