في الأسبوع قبل الماضي، أكدت إيران أنها أجرت اختباراً على إطلاق صاروخ باليستي. وردت الولايات المتحدة بفرض عقوبات جديدة على إيران والتصريح بأن إيران تبقى مصدراً رئيسياً للإرهاب وتشكل تهديداً للمصالح القومية الأميركية على حد سواء. وهناك مراجعة تجري الآن بخصوص سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران. وفي الوقت نفسه، أعلن الرئيس دونالد ترامب عن نيته سحق “داعش”، وهو ما كانت عليه سياسة الولايات المتحدة منذ صعود المجموعة.
كانت استراتيجية الولايات المتحدة في العراق قبل زيادة عديد القوات في العام 2007 هي معارضة كل من المطالب الشيعية والسنية بالسلطة في العراق. وقد حاولت الولايات المتحدة تشكيل حكومة في بغداد بحيث تكون مستقلة عن كلا الطائفتين الرئيسيتين، والتي ينبغي أن تكون في الوضع المثالي علمانية ومتحالفة بقوة مع الولايات المتحدة. وقد تم تشكيل الحكومة، لكنها لم تكن فعالة أبداً. فقد تمكن الشيعية، مدعومين من الإيرانيين، من اختراق الحكومة العراقية بعمق، والأهم من ذلك، أن الدولة لم تتمتع أبداً بأي دعم واسع من خارج التحالف الذي دعمها. وتم دمج القوى الأكثر دينامية بعمق في المجتمعات الشيعية والسنية. ويستمد كلاهما القوة من خارج العراق -السنة من السعودية والشيعة من إيران.
ما أرادت الولايات المتحدة خلقه كان مختلفاً جداً عن الواقع على الأرض. وفي فترة زيادة القوات، أدركت الولايات المتحدة هذا، ونظرت إلى الشيعة المدعومين من إيران باعتبارهم التهديد الأكبر، وحاولت أن توازِنهم من خلال التوصل إلى تفاهم مالي وسياسي مع القيادة السنية. وبصرف النظر عن تزويد الولايات المتحدة بفرصة لخروج مشرف، فإن زيادة عديد القوات لم تحل المشكلة الاستراتيجية التي كانت الولايات المتحدة تتعامل معها. فقد برز تنظيم “داعش” كبطل بالنسبة لجزء كبير من السكان العرب السنة، وأصبحت الحكومة العراقية، بشكل بعيد عن الكمال وإنما حقيقي، أسيرة لإيران. وظلت الولايات المتحدة عاجزة عن تشكيل العراق الذي كانت تريده.
توجد أمام الولايات المتحدة الآن ثلاثة خيارات استراتيجية فضفاضة. الأول هو، أن تقبل بالهزيمة في المنطقة بعد 15 عاماً من القتال غير الفعال، وتنسحب وتسمع للمنطقة بأن تتطور كما تريد. وميزة هذه الاستراتيجية هي أنها تقبل بحقائق ونتائج الخمسة عشر عاماً السابقة، وتوقف نهجاً غير فعال. أما نقطة الضعف في هذه الاستراتيجية، فهي أن الولايات المتحدة، بقبولها بتطور المنطقة، يمكن أن تواجه عالَماً سنياً يزداد قوة باطراد، وإيران شيعية قوية أيضاً. وبذلك، قد يأتي بعد الشعور المؤقت بالارتياح صداعٌ كبيرٌ لا يطاق.
الخيار الثاني هو استخدام القوة الأميركية لسحق “داعش” وعزل إيران؛ أو إذا تعذر ذلك، إشراك إيران في شكل من أشكال العمل العسكري الذي ربما يتوجه إلى برنامجها النووي. ولا تمتلك الولايات المتحدة قوة عسكرية كبيرة بما يكفي لشن حرب في وقت واحد من البحر المتوسط إلى إيران، وأيضاً في أفغانستان. وكان وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد قد قال في بداية الحرب على العراق أنك إنما تحارب بالجيش الذي لديك. وكان يجب أن يضيف أنه إذا لم يكن الجيش الذي لديك كافياً، فإنك ستخسر، أو ستواجه حالة جمود لا نهاية لها على الأغلب. وسيكون الهدف من هذه الاستراتيجية هو سحق –ليس المنظمات الحالية التي تقاتل من أجل القضايا السنية والشيعية فحسب، وإنما تدمير إرادة العالمين العربي والفارسي لخلق منظمات جديدة تنشأ من رماد القديمة. ولم يسبق أن خاضت الولايات المتحدة أبداً حرباً رئيسية من دون تحالف من القوات. وتعني المسافة التي تفصلها عن ميدان المعركة الأوراسي أن يكون وجود الدعم من قوى أخرى للجهد اللوجستي أمراً أساسياً. وهذا هو السبب في أن هناك نقاشاً يدور الآن حول إقامة تحالف مع روسيا. لكن روسيا ليست لها مصالح الولايات المتحدة نفسها في إيران، ولا هي تتطلع إلى تحقيق النتيجة نفسها.
تستند الاستراتيجية الثالثة إلى حقيقتين. أولاً، أن لدى الولايات المتحدة قوات محدودة، وحلفاء مترددين أو غير متوافقين، وبذلك لا يمكنها كسب حرب على هذا النطاق. ثانياً، أن العالم الإسلامي منقسم بشدة على أسس دينية وعرقية. فهناك الانقسام الديني بين الشيعة والسنة. وهناك الانقسام بين العالمين العربي وغير العربي. وبعبارات أخرى، ليس الإسلام نسيجاً واحداً، وتشكل هذه الانقسامات نقطة ضعفه. وسوف تتطلب الاستراتيجية الثالثة التحالف مع فصيل واحد من أجل منحه الشيء الذي يريده أكثر ما يكون –هزيمة الآخر.
منذ بداية التاريخ الأميركي، استخدمت الولايات المتحدة الانقسامات في العالم لتحقيق غاياتها. وقد سادت الثورة الأميركية باستخدام التوترات القائمة بين بريطانيا وفرنسا لإقناع الفرنسيين بالتدخل. وفي الحرب العالمية الثانية، وفي مواجهة ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي الستاليني، كسبت الولايات المتحدة الحرب من خلال تزويد السوفيات بالمال والوسائل الكافية لاستنزاف الجيش الألماني وتجفيفه، مما فتح الباب أمام الغزو الأميركي، واحتلال أوروبا بالتشارك مع بريطانيا.
ما لم تكن لديك قوة حاسمة وساحقة، فسوف تكون خياراتك الوحيدة هي خفض الاشتباك، وزيادة قوتك العسكرية بشكل كبير بتكلفة ووقت مذهلَين، أو استخدام المصالح المتعارضة لتجنيد تحالف يتقاسم معك هدفك الاستراتيجي. وعلى المستوى الأخلاقي، يظل الخيار الثالث دائماً استراتيجية مؤلمة. كان طلب الولايات المتحدة مساعدة الملَكيين لعزل البريطانيين في يوركتاون يشبه بطريقة ما عقد صفقة مع الشيطان.
كما كان تحالف الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي القاتل والقمعي لهزيمة نظام قاتل وظالم آخر هو أيضاً بمثابة اتفاق مع الشيطان. وقد أبرم جورج واشنطن وفرانكلين روزفلت على حد سواء هذه الصفقات بكل سرور، بينما يعرف كل منهما حقيقة أساسية حول الاستراتيجية: إن ما يأتي بعد الحرب يأتي بعد الحرب. أما الآن، فإن الهدف هو وصولك إلى نهاية الحرب منتصراً.
في حالة الشرق الأوسط، يمكنني أن أزعم بأن الولايات المتحدة تفتقر إلى القوات، أو حتى استراتيجية يمكن تصورها، لسحق إما صعود السنة أو إيران. فإيران بلد يتكون من نحو 80 مليون مواطن تحميهم في الغرب جبال وعرة، وفي الشرق صحراء قاسية. وهذه هي النقطة التي ستجعل أحداً ما يقول حتماً إن على الولايات المتحدة أن تستخدم القوة الجوية. وهي النقطة التي أود أن أقول عندها إنه كلما أراد الأميركيون كسب حرب من دون دفع الثمن، فإنهم يفكرون بالقوة الجوية لأنها منخفضة التكلفة ولا تُقاوم. لكن القوة الجوية هي عامل مساعد ومرتبط بالحرب على الأرض. ولم ثبت كونها بديلاً فعالاً في أي وقت من الأوقات.
إن الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة سوف تشن الحروب في وقت واحد في سورية والعراق وإيران وأفغانستان وتخرج منتصرة هي ضرب من الخيال. أما ما ليس خيالاً فهو حقيقة أن العالم الإسلامي منقسم بشكل هائل، سواء من الناحية الاستراتيجية أو التكتيكية. ويجب على الولايات المتحدة أن تقرر من هو العدو. وقد تكون كلمة: “الجميع”، جواباً مرضياً عاطفياً للبعض، ولكنه سيؤدي إلى الهزيمة الحتمية. لا يمكن للولايات المتحدة أن تحارب الجميع من البحر الأبيض المتوسط إلى هندو كوش. يمكنها أن تشن إلى أجل غير مسمى غارات وعمليات أخرى، ولكنها لا يمكن أن تفوز.
لصياغة استراتيجية فعالة، يجب على الولايات المتحدة العودة إلى الأسس الاستراتيجية للجمهورية: الاستعداد للتحالف مع عدو لهزيمة آخر. ويجب أن يكون الهدف هو التحالف مع العدو الأضعف، أو العدو ذي المصالح الأخرى، بحيث لا تؤدي حرب إلى نشوب أخرى على الفور. وفي هذه اللحظة، فإن السنة أضعف من الإيرانيين.
ولكن هناك سنة أكثر بكثير، وهم يغطون رقعة واسعة من الأرض، وهم أكثر طاقة بكثير من إيران. وفي الوقت الحالي، تبدو إيران أكثر قوة، لكنني أود أن أقول إن السنة هم أكثر خطورة. ولذلك، أقترح تحالفاً مع الإيرانيين، ليس لأنهم محبوبون أكثر بأي حال من الأحوال (وكذلك كان الحال بالنسبة لستالين أو لويس السادس عشر)، ولكن لأنهم الخيار الأكثر ملاءمة.
الإيرانيون يكرهون السنة ويخشونهم. وسوف تبدو أي فرصة لسحق السنة جذابة. كما أن الإيرانيين أيضاً متشائمون كما كان جورج واشنطن. ولكن في واقع الأمر، يمكن لتحالف مع السنة ضد الشيعة أن يعمل أيضاً. فالسنة يحتقرون الإيرانيين، وبالنظر إلى الأمل في سحقهم، يمكن إغراء السنة إلى التخلي عن الإرهاب. وهناك حجج يمكن طرحها للوقوف مع أي من الجانبين، كما هو الحال في أفغانستان.
أما الأمر الذي لا يمكن دعمه، في رأيي، فهو خوض صراعات متزامنة مع السنة والشيعة، والعرب والفرس. كان ما تعلمناه في العراق هو أننا لن نفوز في مثل هذا الصراع. وسوف تكون إعادة محاولة ما فشل في العراق على نطاق أوسع بكثير عملاً لا معنى له. إن تقسيم أعدائك هو مبدأ أساسي من الاستراتيجية. في حين أن توحيدهم ينطوي على القليل من المنطق. ولذلك، سيكون شن حرب في وقت واحد على السنة والشيعة غير عقلاني. وسوف ينطوي الانسحاب من المنطقة ببساطة أيضاً على مخاطر كبيرة على المدى البعيد.
في النهاية، كانت واشنطن تريد هزيمة البريطانيين وكان روزفلت يريد هزيمة هتلر. ومن دون الفرنسيين أو السوفيات، كان يمكن أن تُخسر هذه الحروب. وفي نهاية المطاف، تم تدمير البوربون والشيوعيين. ولم تكن واشنطن وروزفلت مستعجلين. فهناك دائماً وقت للفائز لمتابعة السعي إلى تحقيق الغايات التي يريد. وليس هناك أبداً وقت للخاسر.
جورج فريدمان
صحيفة الغد