رغم تأكيد الميثاق الأممي بشكل صريح على منع اللجوء إلى القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات بين الدول، فإن الممارسات الميدانية لا تخلو من خرق لهذا المبدأ بسبل ملتوية ومنحرفة، غالباً ما تستند في مجملها إلى بعض الاستثناءات التي يتضمنها الميثاق نفسه لتبرير عمليات عدوانية وانتقامية.
كان اللجوء إلى استخدام القوة في العلاقات الدولية وسيلة تكاد تكون عادية وطبيعية لتنفيذ سياسات الدول وللحسم فيما يقع بينها من خلافات، قبل تأسيس هيئة الأمم المتحدة، وهو ما جعل القوة العسكرية تحظى بأدوار حاسمة على مستوى تدبير الأزمات والخلافات الدولية، رغم الجهود الدولية التي تمت في إطار اتفاقية (دراكو بورتر) لعام 1907 التي أكّدت تحريم استعمال القوة لاسترداد الديون المستحقة، وكذا عهد عصبة الأمم الذي ميّز بين الحروب المشروعة وغير المشروعة، ثم ميثاق (بريان كيلوج) لسنة 1928 الذي حاول دون جدوى التضييق على الاستعمال الفعلي لهذه القوة..
كشف اندلاع الحرب العالمية الثانية عن قصور ومحدودية هذه الجهود والتدابير رغم أهميتها، وهو ما حدا بهيئة الأمم المتحدة لأن تضع مطلب تحريم استخدام القوة والعنف في العلاقات الدولية على رأس أولوياتها.
ونصّت المادة الثانية من الميثاق الأممي في فقرتها الرابعة على أنه: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة».
يتبيّّن من خلال مضامين هذه المادة، أن الميثاق لم يكتف بتحريم اللجوء إلى القوّة فقط، وإنما حرّم حتى مجرّد التهديد باستعمالها، كما أنّه لم يهتم بالأسباب المادية لهذا اللجوء ولا بمبرّراته، كما أن تحريم استعمال القوة بموجب هذه المادة، لا ينطوي على الجانب العسكري فقط، بل ينصبّ أيضاً على مختلف الأشكال الزجرية الأخرى في علاقة ذلك بالتهديد أو الانتقام أو إرهاب الدولة.. كما ينصرف أيضاً إلى كل الضغوط الاقتصادية والسياسية.. التي تخالف مقتضيات الميثاق.
وفي مقابل ذلك، طرح الميثاق استثناءين اثنين على هذا المبدأ، أولهما يرتبط بحالة الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي (المادة 51 من الميثاق) وحالة تدخّل الأمم المتحدة لمواجهة تهديد السلم والأمن الدوليين أو الإخلال بهما أو وقوع أعمال العدوان في إطار ما يعرف بنظام الأمن الجماعي (المادتين 41 و42 من الميثاق نفسه).
لم يتوقّف منع استعمال القوة على الميثاق الأممي فقط، بل تضمّنته أيضاً مواثيق عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، ومقتضيات المعاهدات الجماعية، واستحضرته اجتهادات القضاء والفقه الدوليين، الأمر الذي أكسب هذا المبدأ صفة القاعدة الدولية الآمرة، وجعل انتهاكه خرقاً للمواثيق الدولية، وجريمة في حقّ الإنسانية والسلم والأمن الدوليين.
ما زالت الممارسات الدولية تشهد حالات عدّة لاستثمار القوة بكل أشكالها في تدبير المنازعات والأزمات، ضمن استغلال منحرف للاستثناءات الواردة في هذا الشأن، وبخاصة ما تعلق منها بممارسة حق الدفاع الشرعي الذي يحيل في مضمونه إلى تلك الإمكانية الوقائية والاحترازية المرحلية التي يتيحها القانون الدولي للدفاع عن النفس، عندما يصعب أو يستحيل الاستعانة بالقانون في ردّ الاعتداءات والأخطار الداهمة وحماية الحقوق.
وحرصاً على ضمان حسن تطبيق هذه الإمكانية القانونية على وجه سليم، وبعيداً عن أي توظيف منحرف يتحوّل معه هذا الاستثناء إلى آلية للاعتداء والترهيب وتحقيق المصالح الضيقة، حرص المشرّع والقضاء والفقه الدوليان على تطويقها بمجموعة من الشروط.
فالخطر موضوع الدّفاع ينبغي أن يكون داهماً وحقيقياً، مع استحالة اللّجوء إلى خيارات أخرى لدفع الخطر وتجاوزه، كما يقتضي الأمر أن يكون الردّ آنياً ويتناسب مع حجم الخطر.
لا تتردّد بعض الدول في تبرير أعمالها العدوانية بتوظيف هذا الحق بسبل متحايلة ومبالغ فيها، وهو ما تجسّده الممارسات «الإسرائيلية» المتكرّرة في هذا الخصوص (العمليات العسكرية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان في سنوات السبعينات والثمانينات، وقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985، وضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، والعمليات العسكرية داخل سوريا عام 2003، والهجمات العسكرية داخل التراب اللبناني عام 2006، والعمليات العسكرية المتكرّرة على قطاع غزة خلال السنوات الأخيرة..)، بالصورة التي تفرّغ هذا الحق من مدلوله ومراميه، وتحوّله من مجرّد استثناء إلى ما يشبه القاعدة العامة..
إن مجمل العمليات التي قامت بها «إسرائيل» في الأراضي العربية، تعكس خرقاً لمبدأ الدفاع عن النفس ولاستثناءاته، بالنظر إلى انتفاء الشروط اللازمة لممارسة حق الدفاع المشروع، في ارتباط ذلك بضرورة استعمال القوّة كتدبير احتياطي ومحدود، أو تحقّق الملاءمة والتناسبية بين الفعل ورد الفعل..، وهو ما تتنافى وتتعارض فيه هذه العمليات مع مضمون وأهداف المادة 51 من الميثاق الأممي، حيث تحوّلت إلى عدوان تطرح معه المسؤولية الدولية في هذا الخصوص.
إن تزايد التحايل على استعمال هذه الآلية القانونية بشكل عشوائي، سيسهم حتماً في الحدّ من مهام الأمم المتحدة، وفي تهميش السّبل السلمية لتسوية المنازعات وإدارة الأزمات، وتكريس مظاهر الفوضى والارتباك في العلاقات الدولية، بل وسيشجّع دولاً أخرى على ارتكاب سلوكات انتقامية وعدوانية بتهم وذرائع متباينة، ما سيؤدي إلى التطبيع مع استخدام القوة بكل صورها.
د.إدريس لكريني
صحيفة الخليج