كانت الأسابيع الأولى من رئاسة دونالد ترامب شاقة وأشبه بلعبة الجبل الروسي بالنسبة للعراق.
يوم 21 كانون الثاني (يناير)، كرر القائد العام الجديد الذي اختير حديثاً عقيدته التي غالباً ما يعبر عنها، والقائلة إن الولايات المتحدة كان بإمكانها موازنة كلفة حرب العراق من خلال استيلائها على النفط العراقي بشكل أو بآخر. وبعد ستة أيام من ذلك، قام بتوقيع أمر تنفيذي يحظر دخول العراقيين إلى الولايات المتحدة لمدة 90 يوماً، ويحظر على اللاجئين العراقيين دخول الولايات المتحدة لمدة 120 يوماً. وكان من ضمن الأشخاص الذين شملهم الحظر مبدئياً آلاف المترجمين وغيرهم من العراقيين الذين خاطروا بأرواحهم من خلال الخدمة مع القوات الأميركية في العراق.
على الرغم من أن البرلمان العراقي أصدر دعوة غير ملزمة بالرد بالمثل من خلال حظر دخول الزوار الأميركيين، فقد اختار رئيس الوزراء حيدر العبادي أن يسلك الطريق الآخر. ورافضاً الانحناء أمام الضغط السياسي المحلي، فقد استبعد في كلمة له يوم 31 كانون الثاني (يناير) فكرة فرض حظر متبادل على سفر الأميركيين إلى العراق.
وقبل يوم من رفض العبادي فرض الحظر على سفر الأميركيين، صادق البرلمان العراقي على تعيين قاسم الأعرجي وزيراً جديداً للداخلية.
ويذكر أن الأعرجي متشدد شيعي معادٍ لأميركا بشدة، وكان قد أمضى 26 شهراً قيد الاعتقال لدى سلطات الائتلاف بموجب تهم تتصل بدعم المتمردين المدعومين إيرانياً -والآن أصبح مسؤولاً عن أهم وزارة في العراق، إلى جانب قواتها الخاصة وأجهزتها الاستخبارية والجيش الصغير (الشرطة الفدرالية)، ومئات مراكز الشرطة في عموم أنحاء البلاد.
وكان حزب الأعرجي، منظمة بدر، يمسك بالوزارة منذ العام 2014، لكن الحكومة قاومت تعيينه في الوزارة لستة أشهر لصالح مسؤولي منظمة بدر الأقل عداء للولايات المتحدة وللأكراد وللسنة. وقد ضعفت تلك المقاومة في وجه حظر السفر الأميركي. وشكل ذلك حالة دراسة للكيفية التي يمكن من خلالها للكلمات إذا جاءت في موضعها الخطأ أو الممارسات المتعجلة في واشنطن أن تجلب تداعيات خطيرة في أماكن مثل العراق، حيث أميركا عرضة للخطر أكثر ما يكون.
المصالح القومية الأميركية والعراق
يشكل ضبط النفس لدى العبادي، من النوع الذي يمارسه رجال الدولة -والذي لم يأت بعد بكلفة على مستقبله السياسي في انتخابات العام 2018- يشكل أيضاً تذكرة بالمصالح الكبيرة التي تشترك فيها الولايات المتحدة مع العراق، خاصة وأن البلدين يقاتلان جنباً إلى جنب في الموصل. وسواء كنت معنياً بأمن العراق أم لا -ونحن معنيون به على نحو مؤكد- فإن البلد ببساطة مهم جداً بالنسبة للمصالح الأميركية الأوسع والأعرض، بحيث لا تمكن المخاطرة بدفعه إلى الفشل.
العراق هو رابع دولة من حيث عدد السكان في الشرق الأوسط. وإذا كنت تعاني بسبب معاناة 23 مليون شخص في سورية، أو تنزعج من تدفق اللاجئين أو من وجود الملاذ الآمن الإرهابي في داخل ذلك البلد، فلك أن تتخيل كم سيكون الحال أسوأ عند إضافة 36 مليون عراقي يتم إلقاؤهم في الخليط.
كان هذا يحدث تقريباً عندما استولى “داعش” على ثلث مساحة العراق تقريباً في العام 2014، لكن الذي حال دون حدوثه في الجزء الضخم كان الهجوم العراقي المضاد الذي أمكن شنه بفضل الائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وما لم تظل الولايات المتحدة مشاركة بقوة، فسوف يتمزق العراق مرة أخرى وسوف يظهر تهديد جديد على غرار تهديد “داعش”.
كما أن العراق يشكل موطن خامس أضخم احتياطات نفطية في العالم. ولك أن تتخيل وقوع هذه الثروات في أيدي نظام معادٍ للغرب مدعوم من إيران التي تكتنز بدورها رابع أضخم احتياطيات للنفط في العالم.
لقد وضعت الإدارة الأميركية الجديدة إيران “تحت الملاحظة” لدعمها المزعزع للاستقرار لقوى بالوكالة، ولتوسع نفوذها في عموم الشرق الأوسط. وليس هناك مكان يبدو فيه هذا النضال أكثر إلحاحاً من العراق.
انتفخ النفوذ الإيراني منذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق في كانون الأول (ديسمبر) 2011 . وما تزال المليشيات الشيعية العراقية المدعومة من جانب إيران تنفذ سياستها الخارجية الخاصة، حيث تتصرف كفرقة أجنبية إيرانية في سورية. وقد أعاد بعض هؤلاء اللاعبين -مثل كتائب حزب الله وعصائب الحق- تسمية أنفسهم ليصبحوا “وحدات الحشد الشعبي”. ومع أنهم يتطوعون في القتال ضد “داعش”، فإن قصدهم الحقيقي هو القتال إلى ما بعد تحرير الموصل، وتشكيل جيش عراقي دائم تابع لجهاز الحرس الثوري الإيراني. وثمة لاعبون آخرون مدعومون إيرانياً، مثل وزير الداخلية الأعرجي، من الذين يديورن الآن أجهزة أمنية رئيسية.
إذا تعرض المعتدلون مثل رئيس الوزراء العبادي إلى التقويض على يد هؤلاء الوكلاء الإيرانيين، فسوف ينزلق العراق ببطء عائداً إلى أتون حرب أهلية على غرار الحرب الأهلية السورية. وسوف يملأ الفراغ الذي سينجم عن ذلك “داعش” أو من سيخلفه. وسوف تذهب أدراج الرياح كل المكاسب التي كانت قد تحققت في العامين الماضيين، وسيتم طرد الولايات المتحدة من العراق على يد الوكلاء الإيرانيين -وهكذا تخسر القدرة على المنع المباشر لعودة تشكل ملاذ آمن جديد للإرهاب في قلب الشرق الأوسط.
دور أميركا المستقبلي في العراق
الأخبار الجيدة هي أن الولايات المتحدة لا تسبح في عكس تيار السياسة العراقية. بل على العكس، فقد تحالفت مع الاتجاه السياسي والديني السائد. ولا يريد معظم العراقيين لبلدهم أن يخضع لسيطرة الخارجيين. إنهم يريدون ممارسة السيادة والخيارات والنفوذ.
وليس هذا ما تقدمه إيران. فالوطنيون العراقيون -سواء كانوا معتدلين شيعة مثل العبادي أو جنود قوات خاصة مدربين أميركياً أو من العرب السنة، أو حتى متطرفين شيعة نشأوا في الوطن مثل مقتدى الصدر- يعرفون أن نهايتهم ستحل إذا استولت الفصائل المدعومة إيرانياً على بغداد. وفي الأثناء، تنظر القيادة الدينية الشيعية في النجف من خلال فوهة رشاش الإيراني. وعندما يموت المرجع الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني البالغ من العمر 86 عاماً، سوف يندلع صراع ضروس على القيادة الروحية للشيعة العراقيين، وسوف تلعب إيران بقوة من أجل الفوز بهذه الجائزة النهائية.
كما يستطيع الأكراد العراقيون، الذين يتمتعون بحكم شبه ذاتي والذين يعتبرون أقرب الحلفاء لأميركا في العراق، التطلع قدماً لمواجهة جديدة مع الحكومة العراقية إذا استولى وكلاء طهران على بغداد. وتماماً كما تنشر الاوتوقراطية في طهران باستمرار كراهيتها الخاصة للأكراد الإيرانيين، كذلك سيحاول الحرس الثوري الإيراني وضع الأكراد العراقيين تحت مطرقة دولة قمعية.
لدى الولايات المتحدة رؤية أقل درامية وأكثر اجتذاباً للعراقيين بكثير: كان بريت مكغورك، المبعوث الأميركي الخاص للائتلاف المعادي لـ”داعش” قد دعا إلى تقاسم لسلطة “فدرالية عاملة” بين الكتل الطائفية العرقية، والتوصل إلى تسوية متفاوض عليها على الوضع المستقبلي لكردستان العراق بين بغداد والأكراد. وفي القلب، تريد واشنطن عراقاً قوياً سيادياً بحيث تستطيع الولايات المتحدة خفض تواجدها هناك من دون التنازل عن البلد لصالح إيران.
تحصيل عوائد من الاستثمار
في العراق
لا مجال لاستعادة أرواح الشباب الأميركيين الذين قضوا في العراق، أو لإعادة جمع مليارات الدولارات التي أنفقت هناك. لكن الولايات المتحدة تستطيع أن توفر على نفسها التكاليف المستقبلية من الدم والمال عبر الحفاظ على برنامج متواضع من المساعدات للمعتدلين العراقيين مثل العبادي، وحلفائنا في الجيش العراقي والقوات الخاصة.
يجب على ترامب أن يفهم أن الشراكة الأميركية العراقية هي صفقة كبرى، ببساطة. وإذا كان يتطلع إلى شريك يدعم الأهداف الأميركية، وإنما يتحمل التكاليف بنفسه، فلا يجب عليه أن يتطلع إلى ما هو أبعد من العراق في العامين الأخيرين.
خذ على سبيل المثال المساعدات الاقتصادية الأميركية للعراق. فقد لعبت واشنطن دوراً ريادياً في تجميع نحو 16 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية لتدفع لحرب العراق ضد “داعش”. ولكن، كم من المال دفعت أميركا مباشرة؟ لقد كان الاسهام الأميركي الرئيسي 2.7 مليار دولار على شكل ائتمان تمويل عسكري أجنبي -من الناحية الفعلية قرض لشراء معدات عسكرية أميركية تساعد الصناعة الأميركية والجيش العراقي أيضاً.
سوف يكون عراق قوي يقوده معتدلون اقتصاداً مفعماً بالقوة؛ حيث تستطيع الشركات الأميركية المنافسة على مستوى ميدان اللعب. وكانت الشركة الهندسية الأميركية العملاقة “جنرال ألكتريك” قد أعلنت مؤخراً عن صفقة بقيمة 1.4 مليار دولار لتحديث قطاع الكهرباء في العراق، وهي واحدة من الصفقات العملاقة التي تفضل الولايات المتحدة في قطاعات مثل الدفاع والطاقة.
كما أن العراق شريك أقوى في المجال الأمني. فمنذ العام 2014 إلى العام 2016، قدر قادة عسكريون أميركيون أن “داعش” مني بحوالي 45.000 إصابة في العراق وسورية، حيث من المرجح أن القسط الأوفر من الإصابات كان في العراق. وفي نفس الفترة، قتل أربعة جنود أميركيون في الخدمة في العراق. ويعد هذا الرقم منخفضاً جداً فقط لأن القوات الأمنية العراقية هي التي تولت النهوض بالأغلبية الساحقة من القتال مع دعم جوي من الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة، في تجسيد لاقتسام العبء الذي يتوقعه حلفاء رئيسيون من الإدارة الأميركية الجديدة.
يجب على الإدارة الأميركية الجديدة أن تعمل الآن للإبقاء على هذه الصيغة مستمرة. وأول شيء تستطيع عمله توسيع قوة المهمة المشتركة المتجمعة -مهمة عملية العزم المتأصل لمدة عامين على الأقل. ويضم هذا الائتلاف المكون من أكثر من 60 بلداً مساهمات كبيرة من بلدان مثل أستراليا ونيوزيلندا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، ويضمن أيضاً أن يجد المتشددون المدعومون من جانب إيران وقتاً أصعب وهم يستهدفون وينتقدون ائتلافاً يضم العديد من البلدان التي تعول عليها إيران كمستثمرين وداعمين لرفع العقوبات عنها.
كما تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى خلق صندوق جديد لتدريب وتجهيز العراق لدعم الجيش العراقي بعد نهاية العام 2017. وكان الصندوق السابق قد كلف 1.6 مليار دولار ومزق حلم “داعش” بإقامة خلافة دائمة في مساحات شاسعة من العراق. ويجب إعادة هذا النوع من الاستثمار بخطة ثلاثية أخرى تدعم البناء الأميركي لأجهزة مكافحة الإرهاب العراقية والجيش العراقي، وهو ما يمثل آخر أفضل الآمال بمقاومة المليشيات المدعومة إيرانياً.
مع اقتراب فرض حظر على سفر الأميركيين إلى العراق هذا الشهر، كانت هناك طلقة تحذير: إن العلاقة الأميركية العراقية ليست كبيرة جداً بحيث لا يمكن أن تفشل. ولو كان حظر السفر قد حدث بعد تحرير الموصل -عندما تستطيع العناصر المدعومة إيرانيا أن تزعم بأنها لم تعد هناك حاجة للجيش الأميركي- لما كان العبادي قادراً على الصمود في وجه الضغط. ومع الانتخابات الإقليمية العراقية المقررة في أيلول (سبتمبر) 2017 والانتخابات البرلمانية الوطنية في ربيع 2018، سيكون هناك ضغط متنام على القادة العراقيين من أجل تبني إجراءات شعبوية.
عندما تضرب الأزمة التالية، تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تكون جزءاً لا يتجزأ من برامج العراق لتدريب وتجهيز جيشه وتعزيز اقتصاده. وإذا استمرت إدارة ترامب في مضايقة العراقيين بشكل كبير في عموم البلد، فإنها لا تستطيع أن تتوقع تصدي المعتدلين مثل رئيس الوزراء العبادي ومواجهة الضغط الإيراني. وفي تلك الحالة، سينظر المؤرخون ذات يوم وراء ليتساءلوا: لماذا أضاعت إدارة ترامب العراق؟.
مايكل نايتس
صحيفة الغد