عندما قال الرئيس ترامب يوم الأربعاء الماضي إنه لن يصر على إقامة دولة فلسطينية كجزء من اتفاقية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، هل كان ينفصل بذلك عن عقود من السياسة الأميركية؟ أم أنه كان يفكر بصوت عالٍ فقط؟
أصبحت هذه أسئلة متكررة خلال الأسابيع المبكرة العاصفة من هذه الرئاسة غير التقليدية. وكان السيد ترامب سعيداً بجلب أسلوبه الخاص بصنع الصفقات إلى الحلبة الدبلوماسية، متحدياً بذلك المبادئ التأسيسية وضارباً عرض الحائط بالصيغ التي خضعت لاختبار الزمن.
لكنه ناقض نفسه تواً عن طيب خاطر، ناثراً بذور الارتباك بين الحلفاء والأعداء على حد سواء، ومثيراً الأسئلة عن مدى الجدية التي يمكنأن يُؤخذ بها أي من تصريحاته.
في كانون الأول (ديسمبر)، عندما كان رئيساً منتخباً قبل تنصيبه، أعلن السيد ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بسياسة “صين واحدة”، المبدأ الدبلوماسي الذي عمره 44 عاماً، والذي يحكم علاقة أميركا مع الحكومة الشيوعية في بكين. وقال إنه اقترح ذلك كوسيلة ضغط للتوصل إلى صفقة تجارية أو انتزاع تعاون أكثر في الصين في موضوع كوريا الشمالية.
على الأثر، كان هناك ذعر متوقع في بكين وفي أوساط خبراء السياسة الخارجية في واشنطن. وقالوا إن ترامب كان ينقض بطريقة متهورة دبلوماسية الصين الراسخة التي وضعها ريتشارد نيكسون وماو تسي تونغ -وهي مخاوف تبين أنها في غير محلها.
ففي الأسبوع الماضي، هاتف السيد ترامب الرئيس تشي جي بينغ وتعهد بالتقيد بسياسة “صين واحدة”، بعد أن اكتشف بأن السيد تشي لم يكن راغباً في التحدث معه ما لم يتنصل من تصريحه السابق. وبالنسبة للسيد ترامب، كانت صين واحدة ورقة مساومة، بينما كانت بالنسبة للصينيين مسألة غير قابلة للتفاوض.
يوم الأربعاء الماضي، تنبأ صانعو السلام الشرق أوسطيون دورة مشابهة في التعليقات على حل الدولتين. وقالوا إن السيد ترامب سيكتشف سريعاً أنه ليس هناك “حل دولة واحدة” للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين أيضاً -على الأقل ليس حلاً يمكن أن يكون مقبولاً حتى من بعيد بالنسبة لكلا الجانبين.
إذا كان الرئيس جاداً حول تحقيق السلام، وهو ما بدا أنه كذلك في مؤتمره الصحفي يوم الأربعاء الماضي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنه سيعود على نحو حتمي، كما قال صانعو السلام، إلى حل الدولتين، الذي كان موضع إيمان مطلق بالنسبة للرؤساء منذ أن أقره الرئيس بيل كلينتون في كانون الثاني (يناير) من العام 2001.
يقول مارتن إنديك، المبعوث الخاص لمفاوضات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية خلال فترة إدارة أوباما “إن ترامب وجد طريقه عائداً إلى سياسة ’صين واحدة‘ لأن الصين قوية جداً… وسوف يجد طريقه عائداً أيضاً في حالة الفلسطينيين لأنه لن يكون قادراً على زحزحتهم”.
لا خطأ في استنطاق الفرضيات القديمة، كما يشير المنافحون عن السيد ترامب. فحتى الرئيس باراك أوباما قال قبل وقت قليل من مغادرته البيت الأبيض إن رغبة خلفه في التفكير خارج الصندوق هي شيء منعش. لكن المشكلة، كما يقول محللون، تكمن في أن السيد ترامب لا يبدو مدركاً في أغلب الأحيان للمنطق المعقد الكامن وراء المبادئ التي يقوم بإسقاطها.
ويقول السيد إنديك، الذي يشغل حالياً منصب نائب الرئيس التنفيذي لمعهد بروكينغز: “إنه يتوافر على نوايا جيدة لكنه يفتقر إلى الفهم. إنه المثال الكامل للتفكير الأميركي الساذج القائل بأنه يستطيع التلويح بعصاه السحرية ويحل بذلك مشاكل العالم”.
بينما يقف إلى جوار السيد نتنياهو الغامض يوم الأربعاء الماضي، تحدث السيد ترامب عن صيغتي حل الدولتين وحل الدولة الواحدة وكأنهما شيئان قابلان للتبادل -مثل أصناف على لائحة طعام صينية، وفق كلمات مفاوض شرق أوسطي آخر، آرون ديفيد ميلر.
قال السيد ترامب: “إنني أحب الحل الذي يحبه الطرفان”. وأضاف: “أنا سعيد جداً بالحل الذي يحبه الطرفان. وأنا أستطيع العيش مع أي منهما”.
وأقر السيد ترامب بأنه كان هناك زمن أعتقد فيه بأن نهج حل الدولتين كان الطريقة الأسهل لحل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. لكنه واصل الحديث، وخرجت كلماته عن السكة عندما بدا وكأنه أدرك أنه على وشك الخوض في مياه دبلوماسية مخادعة وغادرة.
كان السيد ترامب يصل إلى شيء: لم يعد هناك الكثير من الأمل في حل الدولتين في ظل حكومة السيد نتنياهو اليمينية المتطرفة والقيادة المنهكة للسلطة الفلسطينية. وبدلاً من تأويل كلمات الرئيس بمعان سياسة، قال بعض الخبراء إن بإمكان المرء أن يقرأها كبيان عن نيته أن يكون واقعياً ومرناً.
وقال دانيال سيز كورتزر، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ومصر: “بالعديد من الطرق، كان ترامب أكثر وضوحاً مما توقعه أي أحد. كان يقول بشكل أساسي: أنا منفتح على أي شيء طالما أن هذا الشيء يقودني إلى السلام”.
كما أن السيد ترامب لم يحاول نزع المصداقية عن صيغة حل الدولتين: لقد فتح وحسب الباب أمام خيارات أخرى. ويقول غيث العمري، الزميل الرفيع في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أنهم متى ما تغلب الفلسطينيون على سخطهم الذي يجيء كردة فعل انعكاسية، فإنهم سيركزون على حماسه للتوصل إلى صفقة بدلاً من الهوس بدلالات الألفاظ.
المشكلة في هذه النظرية هي أن الرؤساء، بالتعريف، يصنعون السياسة عندما يتحدثون. وفي حالة الصين، قد يكون السيد ترامب ظن ببساطة أنه يدافع عن قراره استقبال مكالمة هاتفية لتهنئته من رئيسة تايوان بعد انتخابه. وقال لشبكة فوكس نيوز الأخبارية: “لا أعرف لماذا يجب علينا أن نكون مقيدين بسياسة صين واحدة، ما لم نعقد صفقة مع الصين والتي تتصل بأمور أخرى، بما في ذلك التجارة”.
ومضى إلى القول: “لقد لحق بنا ضرر كبير من الصين بسبب تخفيض قيمة العملة، وحيث يتقاضون منا ضرائب باهظة عند الحدود عندما لا نتقاضى نحن منهم الضرائب؛ ومع بنائهم حصناً ضخماً في منتصف بحر الصين، وهو ما لا يجب أن يعملوه؛ وبصراحة، مع عدم مساعدتنا على الإطلاق في موضوع كوريا الشمالية”.
بالنسبة للسيد ترامب، فإن “صيناً واحدة” هي عنصر واحد فقط في علاقة معقدة غير مرضية. أما بالنسبة لقادة الصين، الذين ينظرون إلى تاينوان على أنها مقاطعة منشقة منذ الثورة الشيوعية، فإن ذلك يشكل أساس شرعيتهم الدولية. وذلك، لم يكونوا راغبين في العودة إلى العمل كالمعتاد ما لم يسحب السيد ترامب تعليقه. في تقريرها عن المكالمة بين الزعيمين، صورت وسائل الإعلام الصينية السيد ترامب تقريباً على أنه تلميذ متقلب المزاج. فقد “شدد الرئيس الأميركي على أنه فهم تماماً الأهمية الكبيرة التي توليها الحكومة الأميركية لاحترام سياسة صين واحدة”، وأن “حكومة الولايات المتحدة تتمسك بسياسة صين واحدة”.
وبذلك أنهى انفصالاً عن التقاليد، والذي دام شهرين بالكاد.
مارك لاندلر
صحيفة الغد